صبحي فحماوي في البداية كانت الكلمة تكتب على جدران المغارات، وبالحروف المسمارية التي كتب بها البابليون والكنعانيون، وبالرموز التي اخترعها المصريون وصبغوها على جدران مقابرهم وعلى معابدهم وصروحهم الحضارية، وبها وثّقوا كتبهم العظيمة على البرديات..لنا نحن المذكورين أعلاه أن نفتخر بكوننا نحن الذين ابتكرنا الكتابة في العالم، ولهذا حقد علينا الغرب، وحرقوا مكتبة الإسكندرية بكل كنوزها المعرفية، بعد أن أخذوا نسخاً منها، وطوروها بطريقتهم الفايكنجية ليبدأوا علوم واحتلالات الغرب المرعبة للعالم كله.
الكلمة هي مصدر الحركة ومُحَفِّزتها. تطورت الكتابة فصارت تُنسخ يدوياً في البيوت والمكاتب، وفي دور الوراقين بالريَشِ المختلفة أشكالها. وقبل عصر النهضة جاءت فكرة الأختام لتَطبع نسخاً من كل كتاب جديد. وفي عصر النهضة صارت الكتابة بأقلام الرصاص، وتبعتها أقلام الحبر السائل، ثم الحبر الجاف، ومنها أقلام ( بك) إلى أن جاءت المطابع، فصاروا يجمعون الحروف الرصاصية.. يرصونها حسب الكلمات، ويصورونها على ما يسمى(بليت) ثم تتم الطباعة بمسمى أوفست.. كان الكاتب يرسل المقال أو البحث مكتوباً بخط اليد، أو على الآلة الكاتبة، ثم تحوله المطبعة إلى حروف مرصوصة، ثم تتم طباعته… استمر الحال حتى تحولت الآلة الكاتبة إلى كمبيوتر..ونشأ التلكس، ثم الفاكسميلي، فالإيميل، فالواتس أب والمسنجر والفيسبوك والتويتر الذي تحول أمس إلى شعارx .. وتم الوصول مبكراً إلى الشبكة الإلكترونية، وغيرها من وسائل التواصل الثقافي، والتي صارت تحمل الرسائل والكتب وتُطيرها من الأرض إلى السماء. نعم إلى السماء، لأنها تصل إلى المركبات الفضائية وإلى محطة الفضاء الدولية حيث يعيش سكان علماء هناك..لاحظوا أنه لولا الشبكة الإلكترونية لما وصلت الكتابة إلى المجرات السماوية..وبذلك الطيران الأسرع من الخيال، تخلّف النشر الورقي..شئنا أم أبينا..وهذا ما عزز النشر الإلكتروني..صار الكتاب الإلكتروني يحل تدريجياً بدل الكتاب الورقي..وصارت القراءة تتحول تدريجياً لتكون إلكترونية.. كنت في وزارة الثقافة، وكان صاحب دار نشر يتحدث مع سكرتيرة الوزير، في انتظار دوره لزيارة الوزير، ومما سمعته منه، وهو صاحب دار نشر شهيرة أنه يفتخر بكونه لا يستخدم الكمبيوتر… لم أناقشه في غروره الجاهل هذا..مع احترامي الشديد لشخصه، لكن الرجل توفي وتوفي معه تحدِّيه للكمبيوتر.. وهكذا سيطر الكمبيوتر، وسيطرت معه ثقافة الجيل الجديد. لم تنته الحكاية..صار القراء يشترون الروايات والكتب من النت، بدل شرائها من المكتبات.. وبالمقابل تضاءلت نسبة الكتب في المكتبات، وحلت مكانها الألعاب والقرطاسية وأوراق اليانصيب، ربما..صار من يريد شراء كتاب يرسل إلى دار النشر، فترسل الطلب إلى أمازون أو غيرها من دور النشر الإلكترونية وهي كثيرة، أو دور التوصيل الإلكترونية، وذلك بعد أن تسأله: هل تريده كتاباً ورقياً بثمانية دنانير مثلاً، أم كتاباً إلكترونياً بدينارين.لاحظوا النسبة.. ولو طلب شراء الكتاب الورقي، فهي بإشارة منها تطبع من الإلكتروني المخزن لديها على شكل (PDF ( وترسله إلى بيته…ولهذا صار الجيل الجديد يميل إلى قراءة الإلكتروني..حتى أن الكثير من الجيل المخضرم -إذا صح القول- صار يفضل الكتاب الإلكتروني للأسباب التي أذكر منها: 1- لأن الشخص الكبير، إذ يَضْعُفُ نظره بعد الأربعين، يفضل الإلكتروني، لأنه بضربة إصبع، يستطيع تكبير حجم الكتابة من 14-16 وربما 18، فيقرأ بسهولة تلك الكتب المكتوبة بحروف تأبى على البوح. 2- رخص سعر الكتاب الإلكتروني مقارنة بالكتاب الورقي.. 3- كثرة الكتب المخزنة على كمبيوتره أو (آي بوك) أو (آي باد)..مقارنة بالكتب الورقية التي لا يستطيع حملها في الحل والترحال، حيث يقال إن أبا فرج الأصفهاني كان وهو يتنقل يحمل في خرج بغله 28 مجلداً هي كتاب الأغاني. وهذا حمل ثقيل يمكن حمله اليوم إلكترونياً بلا وزن . 4- حرية النشر الإلكتروني، فبدل أن كانت مقالات معظمنا تنتظر شهرأ ليُسمح لها بالنشر، نظراً لزحمة المقالات المعروضة، وتحكُّم (موظف النشر) بالنصوص التي تأتيه..حسب مزاجه، أو شلليته، أو حسب انسجام أفكار الكاتب مع أفكار دار النشر، أو قوة النص الأدبي المرسل. صار الكاتب ينشرها بلا انتظار وبلا قيود..حتى أن برامج ثقافية ظهرت بعنوان (بلا قيود) 5-سرعة النشر..فاليوم أنت تنشر مباشرة من غير ولي أمر محرر، من غير وسيط، ليحرر كلامك من ربقة الورقة إلى عالم النشر الفسيح..سرعة النشر من دون الوقوف عند باب موظف النشر، لأنه إذا لم ينشر لك، تستطيع أن تستبدله بدار نشر أخرى، أو موقع أدبي أو صحافي بديل. 6- ومن جهة الاستهلاك، تتحقق سرعة التوصيل..فبدل أن تلبس وتخرج وتدوخ الدوخات السبع بحثاً عن كتاب ورقي ، تجدك تحصل عليه من دار النشر الإلكتروني بأقصى سرعة مقارنة. 7-والأهم من هذا وذاك أننا نتحزب للنشر الإلكتروني، ذلك لأنه يوقف قطع الأشجار لصناعة الورق، ففي كل يوم كانت تصدر فيه صحيفة الهيرالد تريبيون، أو غيرها من الصحف الشهيرة عالمياً، كانت تُقطع غابة وتفرم أخشابها لصناعة الورق، وهذا أدى لتدمير البيئة، والاحتباس الحراري الذي نعيشه اليوم. إذاً الطباعة الورقية وسيلة من وسائل تدمير البيئة. ليس وقود الفحم والوقود النفطي هما وحدهما سبب تدمير البيئة حيث نلاحظ ارتفاع درجات الحرارة هذه السنوات، وشح المياه والتصحر والمعاناةـ، إذ كتبت إحدى الكاتبات أمس أن المرأة مسموح لها في هذه الأيام الحارة عدم الدخول إلى المطبخ..فكتبت لها: كان الله في عون عمال الباطون وتزفيت الشوارع وعاملات الزراعة في الأغوار.. إذن النشر الإلكتروني يدعم الحفاظ على البيئة، وتلطيف الحياة على الأرض. لقد تأثر النشر الورقي بالتغييرات الاقتصادية التي تحدث في العالم. إذ تراجع النشر الورقي سواء قبلنا أم أبينا، وذلك بسبب انتشار التكنولوجيا والإعلام الجماهيري، وبسبب اهتمام العالم الرأسمالي بتسويق منتجاته، وليس التفرغ للقراءة والكتابة، التي لا تنفع المنتج الرأسمالي بقد ما تنفعة المنتجات الأخرى التي لا تحتاج إلى تأمل وفلسفة وأدب ثقافي، والتي تُشغل الرأي العام عن الاستهلاك. العالم الرأسمالي اليوم يُساق للتفكير بالاستهلاك، وليس بالكتابة والقراءة… ولهذا يجري تجفيف منابع الفكر.. وتنخسف ميزانيات وزارات الثقافة في العالم الرأسمالي كله.. يقول لك رأس المال: “نحن لا نريدك مفكراً.لا تتفلسف علينا.لا تحاول تغيير مسارنا الرأسمالي.. كلامك هذا لا يطعم خبزاً…نحن لا نريدك إلا مستهلكاً لمنتجاتنا..ماذا تريد؟ أين الدولار الذي ستشتري به؟ اشتر وادفع، لا تناقش..وإذا كان هناك عيب في السلعة التي اشتريتها، تستطيع إرجاعها..أو تصليحها على حسابنا..المهم أن تدفع ثمن السلعة الآن..الدولار لا يريد غير الدولار، وكما كتبت في روايتي(الحب في زمن العولمة) أن الحب اليوم ليس بين الرجال والنساء، بل هو حب بين الدولار والدولار. إنها ليست أزمة كتاب ورقي أو إلكتروني. وإنما هي حالة. او مرحلة، يتحول فيها الكتاب الورقي الى كتاب رقمي. والذي حصل هو مسألة تطور، او تغيير، مثل جميع الوسائل التي تطورت وتغيرت.. من منا لم يلاحظ كيف اختفت كاميرات التصوير مثل؛ كانون، وكوداك، وفوجي فيلم، ونيكون، وسوني ..وغيرها كثير، إذ تحولنا إلى كاميرات الخلوي المحمول، والتي هي أوضح وأسهل وأسرع، لدرجة اختفت معها الوسائل القديمة.. وأما عن حركة الثقافة في العالم، فلقد صار توجيه رأس المال للجمهور نحو الاستهلاك السلعي. صاروا يوجهونهم نحو ثقافة (آخر طراز) لجهاز خلوي او جهاز محمول ليحل محل الجهاز المحمول الذي صار قديماً..جهاز تلفاز حديث بدل الجهاز القديم..(آي فون)..(آي باد)..(آي آي)..وأجهزة بعد أجهزة..وذلك ليكون الإنسان مستهلكاً، من دون أن يفكر.. في برلين الموحدة، سألت طالبة ألمانية شرقية كانت زميلة لي، بعد توحد ألمانيا الشرقية والغربية: ما الفرق بين اليوم والأمس في حياة الشباب الألماني؟ فقالت: أيام زمان في برلين الاشتراكية كنا نقضي الوقت في المكتبات والمتاحف نشاهد العلوم والفنون والأفلام، ونستمتع بالحياة، واليوم في برلين الرأسمالية، صرنا نلهث وراء آخر طراز خلوي.. آخر طراز كمبيوتر..أخر طراز سيارة…صرنا نجري وراء الموضة.هذا هو عالم رأس المال..يريدونك مستهلكاً، لا مفكراً. وهكذا نلاحظ أن النشر الإلكتروني سيحل محل النشر الورقي، شئنا أم أبينا، ومعالم ذلك واضحة لنا، فلم نعد نقرأ الصحف الورقية، ومنذ عقود أفلست دور طباعة ونشر الصحف والمجلات الكبرى. ولم تعد الصحف والمجلات الباقية تدفع مكافآت للكُتّاب.. من حق الكاتب الحصول على أجرة كتابته، ولكن رأس المال لا يعترف بالحقوق، بل يسعى نحو الممكن. المتغيرات بعد النشر الإلكتروني: 1-تتغير اليوم ثوابت كثيرة مع تضاؤل النشر الورقي، فلم يعد هناك قاطعون لأشجار الخشب، مصدر الورق.. ستتحسن البيئة، ويقل التلوث، رغم ظهور عوامل ملوِّثة أخرى كثيرة. 2-لم يعد بائعو صحف في الأكشاك والشوارع..انقطعت أرزاقهم.. 3- لم يعد الكاتب مضطراً لاستجداء المحرر أو الناشر، ولم يعد خاضعاً للرقابة، لأن ما لا ينشر هنا، تجده بعد لحظات منشوراً في موقع دولي آخر. – الخطر المرعب الذي طالما خاطرني …ماذا لو اختفى النت، وضاعت الطاسة..أين ستذهب كل هذه المعلومات والوثائق والكتب المخزنة على الشبكة العنكبوتية؟ هناك تفاصيل كثيرة يصعب شرحها في هذه العجالة..حيث يقول لك رأس المال: – احتفظ بمعلوماتك عندنا في مستودع كبير للنت، مقابل 60 دولار سنوياً ربما.. – وهناك أساليب كثيرة، منها تسجيل وثائقك على أسطوانات، وعمل مكتبة رقمية.. ولهذا أجدني أطالب بعمل شبكة عنكبوتية عربية تخزن كل المعلومات الرقمية. ورغم كل ما ذكرت من إيجابيات وسلبيات، فسوف تختفي قريباً الثقافة الورقية، وتحل محلها الثقافة الإلكترونية.
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
فی العالم
رأس المال
لم یعد
إقرأ أيضاً:
اليوبيل الذهبي لرابطة الكتاب 1974 – 2024
#سواليف
تقيم #رابطة_الكتاب_الاردنيين احتفالا بمناسبة #اليوبيل_الذهبي لتأسيسها؛ يشتمل على عرض فيلم وثائقي وكلمات واغان وطنية وتكريم للرعيل الأول من المؤسسين برعاية معالي وزير الثقافة الاستاذ مصطفى الرواشدة يوم السبت ٢٨ ديسمبر الحالي الساعة ١٢ بالمركز الثقافي الملكي.
يدير مفردات الحفل الدكتور رياض ياسين نائب رئيس رابطة الكتاب الاردنيين.
مقالات ذات صلة اشهار ديوان “دمع المُقَل” للشاعرة سماح الخصاونة في رابطة الكتاب الأردنيين / إربد 2024/12/25