كتاب تاريخي يسلط الضوء على الفرق بين اليهودية والصهيونية ومعاداة السامية
تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT
هل اليهود عرق؟ وما أصوال كراهية اليهود؟ سؤالان أجاب عنهما البروفيسور "الإسرائيلي" شلومو زَند، في كتابه "عرق مُتَوَهَمُ: تاريخ مُوجَز لكراهية اليَهود"، نقله إلى العربية: يحيى عبد الله وأميرة عمَامرة، (ط1، مدارات للأبحاث والنشر، مصر/ 2024).
يوضح المترجم في مقدمته أهمية الكتاب البالغ عدد صفحاته 132 صفحة من القطع المتوسط، من "تفنيده، بالحُجة والدليل العلمي، أساطير مؤسسة للصهيونية وأكاذيب مروُجة لها، منها: أكذوبة "نفي" اليهود من فلسطين على يد الرومان في القرن الأول للميلاد، وأكذوبة "نقاء العرق اليهودي"؛ مشيرًا إلى أن أكثر يهود أوروبا لا يمتُّون لـ"الساميين" بصلة.
وأخيرًا يكتسب الكتاب أهميتة من إشارته إلى انحسار الكراهية ضد اليهود في أوروبا ـ بعد التخلص منهم بطبيعة الحال ـ وإلى حلول كراهية الإسلام والمسلمين محلَّها، رغم أنه لم يُدِنها ولم يُشر إلى دور الصهيونية العالمية في إذكاء أوارها".
دلف المؤلف بعدها، إلى عدة عناوين، خصص الأول منها لـ"كبح التهوُد"، فينقل عن ريمون أرون، مقولة معروفة في أوساط علماء الأنثروبولوجيا، وهي، أن "السواد الأعظم ممن يُطلق عليهم اليهود؛ لا ينحدرون، بيولوجيًّا، من نسل أسباط سامية".
ويشير إلى تفسير أوريجينس، أحد المفسرين الأصلاء للتوراة ـ في بداية القرن الثالث للميلاد، للاسم يهودي بالقول: "ليس اسم عرق وإنما اسم اختيار (أسلوب حياة)؛ فإذا قبل إنسان ما، أجنبي ليس من أمة اليهود، منهاج اليهود وتهود، فإن هذا الإنسان يسمى يهوديًا بشكل واضح". ويؤكد ذلك بجزم تيودور مومسين، المؤرخ الأبرز لروما القديمة، في حينه بأن "اليهودية في العصور القديمة لم تكن منغلقة على نفسها على الإطلاق؛ وإنما العكس هو الصحيح، لقد كانت مُشبعة بتعصب في مسألة التهويد ليس بأقل من النصرانية والإسلام من بعدها".
العنوان الثاني ""شعب عِرق" مُشتت أم جماعات دينية؟"، يعود بنا المؤلف إلى مصطلح الـ"عرق" في العهد الجديد. فقد وُلدت "أسطورة "نفي" اليهود إذا، بوصفها أسطورة أصل وهوية، في أحضان النصرانية المتبلورة". يؤكد زند حقيقة، أنه ليس بين أيدينا حتى اليوم ـ أي بداية القرن الحادي والعشرين ـ أي دليل، أو إثبات على استئصال الرومان لسكان يهودا استئصالًا مؤثرًا، أو على هجرتهم طوعًا أو قسرًا من أرضهم، كما لا يوجد كتاب بحثي واحد في هذا الموضوع!". وهذا ما ذهب إليه، في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، من خلال نفي ما يسمى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، بقوله: "فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا".
ويدحض زند الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشريياً بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته، ويشير إلى تهود حَديب، في الربع الأخير من القرن الرابع للميلاد، وتهود حمير، التي دُحرت عام 525 للميلاد على يد مملكة أكسوم، وتهود بعض القبائل الكبرى في شمال أفريقيا، ما أدى إلى إقامة مملكة متهودة في جبال الأطلس بلغت ذروتها في القرن السابع للميلاد. ووصل التهود إلى شمال الحبشة الحالية أيضًا، وتهود مملكة الخزر في منتصف القرن الثامن للميلاد.
ليس من قبيل المصادفة أن يجزم مع بن تسيون دينور، أبو فلسفة التاريخ "الإسرائيلي" الذي شغل منصب وزير التعليم في "إسرائيل" بـأن "مملكة الخزر كانت "أم الجاليات"، أم إحدى الجاليات الكبرى، جالية بني إسرائيل في روسيا، وليتوانيا وبولندا".
وهذا ما ذهب إليه، في العام 1976؛ آرثر كوستلر، في كتابه "القبيلة الثالثة عشرة"، والذي أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين.
فالعنوان الثالث، "بداية العلاقات اليهودية ـ النصرانية في أوروبا"، يتطرق المؤلف إلى صورة اليهودي التي بدأت تتخلق في المخيلة الأوروبية ـ النصرانية، هذه الصورة الذي "يُصب الثراء من الإقراض بالربا"، فقد نشرت الكنيسة رسالتها، "اليهودية صنو الربا، والربا أمر مستنكر". ويشير المؤلف إلى عمليات طرد اليهود من المناطق الأوروبية في مناسبات مختلفة.
سرد المؤلف في العنوان الرابع، "غُرباء في الإنسانية: من إيراسموس إلى فولتير"، وأشار إلى أن كراهية إيراسموس ولوثر وفولتير لليهود "تعلمنا أن عقيدة معاداة اليهود لم تكن قط إرثًا للجموع. تشارك العقيدة المهيمنة مثقفون لامعون أيضًا". كانت تقول: إن "اليهود ليسوا غرباء فقط؛ وإنما متهمون بشيء ما".
العنوان الرابع، "ثورة، انعتاق، وقومية"، ينقل زند، وصف كانط، الذي يعد في نظر عديدين أكبر مفكري العصر الحديث، لليهود، "بأنهم غرباء غير أوفياء إلى أوروبا من قارة أخرى". ومن أجل الحفاظ على العداء تجاه اليهود، "أسهمت حقيقة أن أوروبا أيضًا، التي باتت قومية أكثر فأكثر، أصبحت في الوقت نفسه أكثر رأسمالية أيضًا. وحيث أن بعض الأسر اليهودية، قلة قليلة من يهود أوروبا، برزت في هذا التنافس الكبير في تركيز رؤوس الأموال المصرفية الضخمة سواء في بريطانيا، أم في فرنسا أم في ألمانيا، فإن هذا البروز قد اقترن جيدًا بتراث العداء النصراني للإقراض بالربا منذ عصر ما قبل الحداثة".
يتطرق العنوان الخامس "اليهود بين الرأسمالية والاشتراكية"، إلى أعمال المفكر الفرنسي الكبير شارل فورييه، وملاحظاته اللاذعة المعادية لليهود، "اقترح مرارًا وتكرارًا إعلاق أبواب فرنسا في وجوههم إلى الأبد"، ووجد حلًا للمشكلة اليهودية، بـ"إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة". لم تتعارض "صهيونية" فورييه مع كراهيته لليهود، وإنما أكملتها بقدر ما.
رصد العنوان السادس "تصنيف عرقي، دَمَقراطة وهجرة"، عدة مؤلفات حول الأعراق البشرية صدرت منذ القرن التاسع عشر، حتى غدت العنصرية "أمرًا بديهيًّا، وعقيدة "علمية" وشعبية على حد سواء، وبقيت كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية على أبعد تقدير".
يتساءل الكاتب في العنوان الثالث عشر "معاداة الصهيونية.. هل هي معاداة جديدة للسامية؟"، يري زند أنه في الخمسين سنة الماضية، "ازداد النقد والعداء تجاه دولة "إسرائيل" وممثليها". وبحسب زند، "سيكون من السخف أن نطالبهم [الفلسطينيين] بألا يكونوا معادين للصهيونية، وهم يعيشون تحت احتلال واستيطان متواصل يُنفذ باسم الرؤية الصهيونية، ويُرَى في الأماكن التي يقيمون بها "وطنًا لـ"الشعب اليهودي".فقد شرعت المعاداة السياسية لليهود في التعمق على أعتاب نهاية القرن التاسع عشر، "كان أحد العوامل المحفزة لتحويل كراهية اليهود إلى صرعة في دوائر اليسار واليمين هو عملية التحول إلى الديمقراطية التي مر بها العالم الغرب ـ أوروبي". فـ "ظهر التحريض ضد اليهود في البرامج الحزبية". انتشرت الدعاية المعادية للأجانب واليهود سواء في دوائر اليمين التقليدي أو في دوائر الوسط الليبرالي واليسار الراديكالي، ودعت إلى طردهم من أوروبا.
وفي العنوان السابع "قضية درايفوس وولادة الصهيونية"، يقول زند: "انتهت قضية درايفوس الأولى بميلاد حركة قومية جديدة [يقصد الصهيونية]". ويبين ردود فعل بعض اليهود على ظهور الصهيونية، ويُعرج على وعد بلفور 1917، وتأسيس دولة "إسرائيل"، ويرى أن "الاستعمار البريطاني الذي وضع الحركة الصهيونية على خارطة الدبلوماسية الدولية، فإن عملية الإبادة النازية هي ما مكن الحركة الصهيونية من تحقيق حلمها بصورة جزئية".
ألقى المؤلف في العنوان الثامن حزمة من الأضواء على "إبادة "شعب العِرق" اليهودي"، الحقيقة، بحسب المؤلف، أن هتلر لم يرد قتل اليهود في البداية، لكن عندما أدرك أنه "لا يملك أي وسائل لإزاحتهم من أوروبا قرر إبادتهم". ليس معنى هذا أن الألمان كرهوا اليهود بشكل أكبر من كراهية البولنديين أو الأوكرانيين لهم؛ "لكن لم تُخترع في أوساط البولنديين أو الأوكرانيين آلة إبادة فعالة كل هدفها هو محو أناس أحياء بشكل ممنهج معتمدة على إنجازات تكنولوجيا القرن العشرين".
خصص العنوان التاسع لـ "انبعاث "شعب العرق" اليهودي؟"، فقد حاول معظم مفكري وقادة الصهيونية، في بداية مسيرتهم الفكرية أن ينتموا إلى الدول الأوروبية؛ فقد انحازوا تمامًا إلى الأفكار القومية التي تبلورت في مختلف الدول، وسعوا للانضمام إلى الأمم الناشئة. لكن كراهية اليهود جعلتهم يبحثون، في مرحلة حاسمة من تطورهم الفكري، عن هوية أخرى مغايرة. يركز زند على الكتابات الرئيسية للصهيونية ومؤلفيها، "إذ كان تيودور هرتسل قد دفع بالفكرة الصهيونية في 1897، فإنه لم يكن المخترع الحصري لها؛ فقد سبقه بضع شخصيات يهودية اقترحوا سيادة ذاتية قومية كرد محتمل على الكراهية المتعاظمة تجاه اليهود".
بينما يرصد العنوان العاشر "من هو اليهودي؟ من بصمات الأصابع حتى الحمض النووي"، التغير في رؤية ماهيوية اليهود، وكيف أصبحت التوراة هي المعيار الوحيد للهوية اليهودية؟! فكل يهودي يأتي إلى إسرائيل، يتجنس بصورة تلقائية. ويري زند أن "تصنيف اليهود عرقيًا عن طريق اختلاق أصل جيني يهودي متوهَّم"، هو، احتيال علمي زائف. ويواجه "معضلة "علمية" محرجة، وهي أنه: لا يمكن حتى الآن تحديد من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي بناءً على نتائج الحمض النووي".
ناقش العنوان الحادي عشر "حرب 1967: "حق الآباء""، مسألة تجند جميع آليات المعرفة "الإسرائيلية" التأريخية، والأثرية، والبيولوجية، لـ "إثبات أن أصل يهود العالم مشترك، وأنهم يشكلون أمة واحدة، نُفيت قبل ألفي عام وأن حقها في "أرض إسرائيل" لا جدال فيه". ومنذ العام 1967 غدا أي انحراف عنها كفرًا بواحًا في أحسن الأحوال، وموقفًا "معاديًا للسامية" في أسوئها.
استعرض المؤلف في العنوان الثاني عشر "هل انحسرت الكراهية التقليدية لليهود؟"، ولادة كراهية اليهود في حوض البحر المتوسط ثم نشأتها في قارة أوروبا حتى العصر الحديث. وفي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. والانحسار الكبير في كراهية اليهود أيضًا.
يتساءل الكاتب في العنوان الثالث عشر "معاداة الصهيونية.. هل هي معاداة جديدة للسامية؟"، يري زند أنه في الخمسين سنة الماضية، "ازداد النقد والعداء تجاه دولة "إسرائيل" وممثليها". وبحسب زند، "سيكون من السخف أن نطالبهم [الفلسطينيين] بألا يكونوا معادين للصهيونية، وهم يعيشون تحت احتلال واستيطان متواصل يُنفذ باسم الرؤية الصهيونية، ويُرَى في الأماكن التي يقيمون بها "وطنًا لـ"الشعب اليهودي".
يشير المؤلف إلى أنه من الصعب إنكار حقيقة أن كارهي الإسلام من الأوروبيين يَرَونَ "في "دولة إسرائيل" حصنًا متقدمًا للعالم "اليهودي المسيحي" الذي يقف بكل قوة في مواجهة المد الاسلامي".
وفي الختام يعبر زند، عن مخاوفه من انتشار "كراهية متجددة لليهود، ليس فقط في أوساط اليمين الراديكالي، ولكن في أوساط الضحايا الجدد للكراهية أيضًا".
*مؤرخ فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتابه فلسطين احتلال احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کراهیة الیهود المؤلف إلى فی العنوان الیهود فی فی أوساط یهودی ا
إقرأ أيضاً:
سوريا الجديدة ومعضلة الإرهاب والصهيونية
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة لمعظم الخبراء والمراقبين. فلم تكن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة المناصرة أو المناهضة لنظام دمشق تريد إسقاطه، فقد كانت المقاربة الأمريكية والإسرائيلية المناهضة للنظام ولحلفائه من الإيرانيين والروس ترى في وحشية النظام وطائفيته ضمانة تحول دون سقوط سوريا في حالة من الفوضى، وحتمية خضوعه لحكم إسلامي ربما أكثر وحشية وطائفية، وهو ما يهدد الأمن والاستقرار في سوريا والشرق الأوسط. وهي ذات الرؤية الكارثية المرعبة التي استثمر في سرديتها نظام الأسد لفرض سيطرته وإدامة حكمه، فعندما اقتربت الثورة السورية من الإطاحة بنظام الأسد عام 2015 فضلت الولايات المتحدة وإسرائيل تدخل روسيا، وتسامحت مع تدخل إيران، فقد اعتبر المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون أن انتصار الثورة السورية (الإسلامية السنيّة) وهزيمة نظام الأسد (العلوي الطائفي) يعدان بمثابة معضلة استراتيجية ويجلبان "كارثة" أكيدة، ما يخل بحالة الاستقرار الهش في المنطقة بعودة جماعات الإرهاب الإسلامي، وتهدد الأمن الإسرائيلي.
عندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024، كانت متلازمة أمن إسرائيل وحرب الإرهاب هي جوهر البحث والمداولة، فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء إن الشرع التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، وقالت باربرا ليف، التي ترأست الوفد الأمريكي، بعد اللقاء بأحمد الشرع في دمشق: "بناء على محادثاتنا، أبلغته أننا لن نتابع تطبيق عرض برنامج مكافآت من أجل العدالة الذي كان ساريا منذ سنوات عدة". وأضافت ليف: "رحبنا بالرسائل الإيجابية للشرع، ونريد إحراز تقدم بالاستناد على هذه المبادئ، من خلال أفعال وليس فقط أقوال".
محاربة الإرهاب وضمان أمن إسرائيل هو المعيار الأمريكي المميز بين الإرهاب والاعتدال، أما الاحتلال الإسرائيلي وتوسيعه وممارسة الإبادة والتطهير فهي مسألة ثانوية تقع في سياق حق الدفاع عن النفس
وكانت الولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني)، وكانت قد صنفت "هيئة تحرير الشام" منظمة إرهابية، ووضعت وزارة الخارجية الأمريكية الجولاني على لوائح الإرهابي العالمي منذ أيار/ مايو 2013. وعرضت وزارة الخارجية من خلال برنامجها "مكافآت من أجل العدالة"، ما يصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن الشرع.
محاربة الإرهاب وضمان أمن إسرائيل هو المعيار الأمريكي المميز بين الإرهاب والاعتدال، أما الاحتلال الإسرائيلي وتوسيعه وممارسة الإبادة والتطهير فهي مسألة ثانوية تقع في سياق حق الدفاع عن النفس. فمنذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، عززت إسرائيل من انتشارها في المنطقة العازلة التي تخضع لإشراف قوات من الأمم المتحدة، ثم توسعت إلى الجانب السوري من جبل الشيخ الاستراتيجي المطل على دمشق، وشن الطيران الإسرائيلي سلسلة هجمات على عشرات الأهداف الإستراتيجية في المناطق السورية. وقد بررت إسرائيل عدوانها بالسعي لاستهداف مخزونات الأسلحة الاستراتيجية والبنية التحتية العسكرية في سوريا لمنع المعارضة التي أطاحت الأسد من استخدامها.
وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على خطة نتنياهو بتوسيع المستوطنات في الجولان في "ضوء الحرب والجبهة الجديدة مع سوريا"، وسرعان ما دافع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان عن العمليات التي تنفذها إسرائيل في سوريا منذ سقوط الرئيس بشار الأسد باعتبارها استراتيجية دفاعية استباقية، وقال: إن إسرائيل "تملك الحق في الدفاع عن نفسها في مواجهة المخاطر التي تهدد أمنها".
تمنح الولايات المتحدة المستعمرة الإسرائيلية بكل ما تحتاجه من دعم عسكري ومالي ودبلوماسي لتوسيع نفوذها وسيطرتها، فكلاهما يؤمن بمبدأ لا أخلاقي يستند إلى فرض "السلام بالقوة". فدون أي اكتراث للقانون الدولي أو الشعور الأخلاقي قرر الرئيس دونالد ترامب إبان رئاسته الأولى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان في 25 آذار/ مارس 2019، فإسرائيل والولايات المتحدة قررتا وحدهما أن مرتفعات الجولان أراض إسرائيلية، وهما قد يفعلا ذلك قريبا حيال أجزاء شاسعة من الضفة الغربية أيضا. فقرار ضم الجولان بالقوة واحتلال المزيد من الأراضي السورية والعربية يقع في سياق الفكر الإمبريالي الأمريكي والاستعماري الصهيوني، وهي خطوات مستأنفة لخطوات سابقة بدأت منذ تأسيس الكيان الاستعماري الصهيوني، واستمر مع الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، مرورا بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين، ثم الشروع بإلغائها، وصولا إلى إغلاق القنصلية العامة الأمريكية في القدس والمكتب التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة.
لم تكتف المستعمرة الصهيونية بجهود الإمبريالية الأمريكية بفرض اندماج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، وإخضاع دول عربية عدة لعملية تطبيع مذل، بل تبشر المستعمرة اليوم بالتوسع والانتقال إلى فرض نفسها القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة عن طريق القوة والبطش، وتتباهى بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما يمثل جوهر المدركات السياسية الصهيونية القائمة على فرض السلام بالقوة.
فمرتكزات الأمن الصهيوني منذ تأسيس دولة "إسرائيل" يقوم على نسخة مُحدثة من فكرة "الجدار الحديدي" التي وضعها الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية الذي جادل في أحد مقالاته عام 1923 بأن الاستيطان اليهودي لفلسطين يجب أن يمضي قدما خلف "جدار حديدي" من التفوّق العسكري الإسرائيلي الكاسح. فالجدار الحديدي يعني أن القوة الصلبة يحب أن لا تذعن إلى أي ضغط عربي، وحسب جابوتنسكي فإن "الوسيلة الوحيدة للوصول إلى أي اتفاقية في المستقبل، هي التخلي عن كل فكرة تسعى إلى إبرام اتفاقية في المرحلة الراهنة"، وهو ما تقوم به إسرائيل اليوم بتوسيع احتلالها للأراضي العربية وفرض وقائع جديدة على الأرض، ثم فرض الوقائع الجديدة من خلال استراتيجية "السلام بالقوة" على كافة دول المنطقة.
إن السيناريو المفضل للولايات المتحدة وكيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة وسوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية. وقد كشف الكاتب والمحلل السياسي الأبرز في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع، أن أُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الشمال الغربي، ويعتقد برنياع أن "إسرائيل" راضية عن انهيار النظام في سوريا ومن تداعياته على لبنان وعلى المنطقة كلها، لكنها قلقة من تثبيت النظام الجديد. ويضيف: "مغازلات الجولاني، رئيس النظام الجديد، لحكومات غربية، وتصريحاته المعتدلة تجاه إسرائيل لا تهدئ روع أحد".
لم تكن الولايات المتحدة تكترث بحرب الإبادة والتطهير التي يشنها نظام الأسد وحلفائه ضد الشعب السوري المنتفض، فالنادي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبريالية لم يكن من أجندته يوما دعم ثورة سوريا بل إجهاضها، فالأهداف الإمبريالية الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة تقوم على حماية أمن واستقرار إسرائيل
وقد قالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي شيرين هاسكيل في مقابلة مع قناة بلومبيرغ: إن قادة سوريا الجدد هم "ذئاب في ثياب حملان"، يحاولون إقناع العالم بأنهم ليسوا إسلاميين متطرفين، وأضافت: "نحن لا نخدع بالكثير من الأحاديث والمقابلات التي تقوم بها تلك الجماعات المتمردة، التي هي في الواقع مجموعات إرهابية".
لم تكن الولايات المتحدة تكترث بحرب الإبادة والتطهير التي يشنها نظام الأسد وحلفائه ضد الشعب السوري المنتفض، فالنادي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبريالية لم يكن من أجندته يوما دعم ثورة سوريا بل إجهاضها، فالأهداف الإمبريالية الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة تقوم على حماية أمن واستقرار إسرائيل، فالمستعمرة الإسرائيلية هي التي تحدد أولويات السياسة الأمريكية، فسقوط أكثر من نصف مليون شهيد سوري بأبشع طرق الموت من البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية لم تكن مسألة مهمة، فضلا عن إصابة أكثر من مليوني شخص بإصابات تسببت لكثير منهم بإعاقات دائمة، إضافة إلى نحو مائة ألف قتلوا جراء التعذيب خلال اعتقالهم في سجون النظام، ووجود نحو مائة ألف آخرين رهن الاعتقال، ولا تهجير نحو 13 مليون شخص إلى مناطق اللجوء والنزوح داخل البلاد وخارجها.
إن تصورات الولايات المتحدة الأمريكية للشرق الأوسط تحددها منظورات الدولة الاستعمارية الصهيونية، وهي تصورات مشتركة تستند إلى التفوقية العرقية والعنصرية، وتقوم على صناعة "الإرهاب" فقد اخترع مفهوم "الإرهاب" في العصر الإمبريالي ومنتجه الصهيوني لمواجهة أي مقاومة تتحدى الهيمنة الإمبريالية الأمريكية والسيطرة الاستعمارية الصهيونية، ويعرّف "الإرهاب" على أسس استشراقية وثقافوية. فالإرهاب كتسمية يكافئ "الإسلام" الذي يعد عدوا يمثل البريرية والهمجية والرجعية في مواجهة الحضارة الغربية وعقيدة التقدم الرأسمالية الليبرالية، فسياسة الحرب على الإرهاب قيمة مشتركة بين الإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الإسرائيلية، فالإرهاب مجرد بناء سياسي اجتماعي يعني في المعجم الإمبريالي والصهيوني كل ما يقف في طريق تحقيق الولايات المتحدة وإسرائيل طموحاتها بالهيمنة ويتحدى ويقاوم مصالحها الإمبريالية والاستعمارية.
تشير الطريقة التي بموجبها تضع الولايات المتحدة منظمة على قائمتها الخاصة بالإرهاب، إلى الطبيعة السياسية للتصنيف الإرهابوي، فببساطة بالغة يمكن وضع أي جماعة أو مجموعة أو منظمة على القائمة وبنفس السهولة يمكن رفعها، إذ يُعد شطب جماعة من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية أمرا سهلا نسبيا، كما هو موضح في الصفحة الرئيسية لوزارة الخارجية الأمريكية على شبكة الإنترنت المتعلّقة ببرنامج المنظمات الإرهابية الأجنبية.
المتطلبات الأمريكية والغربية هي وصفة كاذبة للهيمنة والسيطرة، فما هو مطلوب من سوريا الجديدة لا علاقة له بتحقيق قيم العدالة والحرية، بل يتعلق بمطلب الخضوع للمستعمرة الصهيونية وقبول السلام عبر التسليم بالقوة الأمريكية، والتعايش مع دولة الجدار الحديدي وكيان الفصل العنصري، والسير على خطى عرب التطبيع المذل، وهو ما لا يمكن لسوريا الجديدة قبوله بعد أن تحررت من الدكتاتورية وخبرت الإمبرياليات التوسعية والاحتلالات الصهيونية
فمنذ إنشاء القائمة، تم شطب عشرين جماعة، ويمكن شطب جماعة عن لوائح الإرهاب إذا قرر وزير الخارجية الأمريكي أن الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائها، أو أن مصالح الأمن القومي الأمريكي تبرر إلغاءها، وببساطة أكبر، يتمتع الوزير بسلطة "إلغاء التصنيف في أي وقت". كما يمكن إلغاء التصنيفات الخاصة بالإرهاب العالمي التي صدرت بموجب "الأمر التنفيذي رقم 13224"، فالمحدد هو المصلحة القومية الأمريكية، وهي مصلحة تتحدد في الشرق الأوسط بالرغبة والإرادة الإسرائيلية.
خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى رهينة للتصورات الأمريكية التي تحددها المستعمرة الصهيونية، تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية من خلال القوة والغطرسة من خلال مبدأ فرض السلام بالقوة، الذي يجسد عقيدة "الجدار الحديدي" الصهيوني، ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب تحت ذريعة حرب الإرهاب، وستبقى المطالبات الأمريكية حاضرة بمزيد من المعايير الملموسة وبشكل حاسم دون انقطاع، وهي مطالبات ظاهرها الرحمة بضرورة الحكم الشامل، واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وحقوق النساء، والانتخابات الشفافة، وتفكيك الشبكات المتطرفة، ومحاربة الإرهاب، والامتثال الكامل لحظر الأسلحة الكيميائية، وفي جوهرها تعني الخضوع والإذعان بضمان أمن أمريكا وإسرائيل.
وللمفارقة، فإن هذه المعايير لا تتوافر في أي بلد عربي ولا شرق أوسطي، وهي غير موجود في دولة الكيان الاستعماري العنصري. فالمتطلبات الأمريكية والغربية هي وصفة كاذبة للهيمنة والسيطرة، فما هو مطلوب من سوريا الجديدة لا علاقة له بتحقيق قيم العدالة والحرية، بل يتعلق بمطلب الخضوع للمستعمرة الصهيونية وقبول السلام عبر التسليم بالقوة الأمريكية، والتعايش مع دولة الجدار الحديدي وكيان الفصل العنصري، والسير على خطى عرب التطبيع المذل، وهو ما لا يمكن لسوريا الجديدة قبوله بعد أن تحررت من الدكتاتورية وخبرت الإمبرياليات التوسعية والاحتلالات الصهيونية.
x.com/hasanabuhanya