أنجبت الحياة الثقافية العثمانية في قرون ازدهارها عددا من أبرز المؤرخين، والجغرافيين، والرحالة الذين أثروا الحياة الثقافية العثمانية إجمالا، وأدبيات التاريخ والجغرافيا خاصة، إثراء متميزا. ويرى المستشرق برنارد لويس، مؤلف كتاب "ظهور تركيا الحديثة"، أن سجايا الأتراك تبدو بوضوح في مؤلفاتهم من الكتب التاريخية، فقد كان المؤرخون العثمانيون الكلاسيكيون رجالا قديرين وذوي معلومات متقدمة على عصرهم.

وأن مؤلفاتهم من أنجح المؤلفات الثقافية العثمانية في فروعها.

أما يلماز أوزتونا، المؤرخ التركي المعاصر، صاحب العمل التاريخي الموسوعي "تاريخ الدولة العثمانية" (ترجمة: عدنان محمود سليمان، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، إسطنبول، 1988)، فيرى أنه ربما لم يصل المؤلفون العثمانيون في التاريخ إلى مستوى المؤرخين العرب، لكن يمكن اعتبارهم في الجغرافية على مستوى واحد مع العرب.

كروية الأرض

تميز الإنتاج المعرفي الجغرافي العثماني خلال القرن ال16 بطابعه العملي، أو التجريبي الاستكشافي الذي قام به أميرالات البحرية العثمانية، مثل سيدي علي رئيس (1498-1563) الذي كان جغرافيا، وعالما، ورياضيا، اشتهر بمؤلفاته المهمة.

ويفوقه أهمية الأميرال المشهور محيي الدين بيري رئيس (1474-1554) الذي كان جغرافيا، وراسما للخرائط، وقد احتوى مؤلفه المعروف: "كتاب بحرية" على مئات الخرائط، والمخطوطات التي صورت البحر الأبيض بصخوره، وخلجانه، وتياراته المختلفة.

وتبين خارطة العالم الملونة، التي رسمها بيري رئيس للسلطان سليم الأول (1513) قارتي أوروبا، وأميركا بتفاصيل على مستوى من الدقة تفوق ما كان معروفا في عصره لدى الجغرافيين الغربيين.

أما المجسم الكروي للأرض الذي صنع في القرن نفسه بإشراف تقي الدين أفندي، مدير مرصد إسطنبول، مبينا قارات أفريقيا، وأوروبا، وأميركا الجنوبية، وقسما من آسيا، فهو يؤكد على استقرار فكرة كروية الأرض لدى العثمانيين منذ أوائل القرن ال15، عندما ذكرها ركن الدين أحمد في كتابه: "عجائب المخلوقات" الذي ألفه في عهد السلطان محمد جلبي (1413-1421).

ونبغ من جغرافيي القرن ال16 نصوح بك مطرقجي (1480-1564)، وهو عميد بحري، ورسام، ومؤرخ، واشتهر برسم الخرائط الجغرافية التي تضمنتها مؤلفاته، وقام حاجي محمد أفندي التونسي في عام 1560 بتحرير كتاب "الجغرافية العالمية"، وقد ترجم، ونشر في أوروبا كذلك.

خرائط وأطالس

أما القرن ال17، فقد شهد قفزة أخرى في التأليف الجغرافي والتاريخي، وتميز بظهور مؤلفات أكثر شمولا، إذ جمعت الخرائط، والأطالس العثمانية والأوروبية قدرا جيدا من المعارف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

كما امتزجت المعلومات الجغرافية بالمعرفة التاريخية، وبمشاهدات الرحالة وملاحظاتهم القيمة، والتي تعكس التكوين الثقافي، والتجربة الحضارية للمؤلفين، وما تستند إليه من رؤية كونية، وتصور عن الذات، والعالم.

برز من مؤلفي القرن ال17 شيخ أحمد ده ده منجم باشي (1631-1702) صاحب كتاب: "جامع الدول" من 3 أجزاء في تاريخ العالم، وكتاب: "صحائف الأخبار في تاريخ آل عثمان"، وكلاهما باللغة العربية.

كما اشتهر من المؤلفين مصطفى أفندي (1609-1657) المعروف أيضا باسم "حاجي خليفة"، وكاتب جلبي صاحب "جهان نامه"، أي كتاب العالم، وهو كتاب في الجغرافية العالمية، وقد استفاد كاتب جلبي من المصادر، والأطالس الأوروبية، كما ترجم أطلس ماير من اللاتينية إلى اللغة التركية، وقد ترجم كتاب جلبي "جهان نامه" إلى اللغات الأوروبية لدى صدوره.

كما ألف كاتب جلبي كتاب:"فذلكة" من مجلدين في التاريخ العثماني، و"تحفة الكبار في أسفار البحار" حول تاريخ البحرية العثمانية، وموسوعة في السير باللغة العربية، بعنوان: "كشف الظنون"، وفي الفكر كتاب: "ميزان الحق".

ثقافة أوليا جلبي وعصره

وعلى العكس من أسلوب كاتب جلبي ذي الطابع الأكاديمي، والالتزام الموضوعي، فإن أولياء جلبي (1611-1684) قد كتب مؤلفه بأسلوب سهل التناول، ويتسم بسرده القصصي المشوق، الذي يضم المعلومة إلى جانب الحكاية، والتجربة الشخصية المباشرة.

أمضى أولياء جلبي حوالي 40 سنة من حياته مرتحلا في البلاد العثمانية، وغيرها من البلاد المجاورة، وقد قضى في القاهرة وحدها 10 سنوات، وزار الشام والسودان وبلاد الحبش، وزار الحجاز لأداء فريضة الحج.

سجل أولياء جلبي رحلاته، ومشاهداته في كتابه الشهير: "سياحتنامة"، أي كتاب السياحة، وهو من 10 مجلدات، تحتوي على 10 آلاف صفحة، فهو من أغزر المؤلفين العثمانيين إنتاجا.

ضم المجلد التاسع: رحلته إلى بلاد الشام، والحجاز. بينما خصص المجلد العاشر: لمشاهداته المفصلة، ورحلاته إلى مصر، وأفريقيا. لقد اعتمدت العديد من دراسات التاريخ العثماني على مشاهدات، وتسجيلات "أولياء جلبي" الغنية بالتفاصيل، والمعلومات، وترجمت أجزاء عديدة من كتابه إلى معظم لغات العالم.

لقد سبقت مشاهداته التي سجلها عن رحلته إلى بلاد السودان والحبش حتى منابع النيل وبحيرة فكتوريا، مشاهدات الرحالة الأوروبيين، التي لم تبدأ إلا في أواسط القرن ال19، وقد استفاد المؤرخ التركي المعاصر يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية" كثيرا من كتاب أولياء جلبي في الجزء الخاص بالوصف الجغرافي للإمبراطورية العثمانية.

وساهمت الترجمة العربية لكتاب أوزتونا في تعريف القارئ العربي بهذا المؤلف والرحالة العثماني، وكتابه الذي هو سجل فريد لصفحات نادرة من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمشرق العربي الإسلامي، ويؤمل أن يحظى كتاب "سياحتنامة" بجهود المؤرخين والمترجمين للعناية به وإخراجه كاملا إلى لغة الضاد.

تقدم مشاهدات، وتسجيلات أولياء جلبي صورة للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للشرق العربي الإسلامي في مرحلة الذروة من صعود الدولة العثمانية كدولة عالمية، وازدهارها وقوتها، وامتدادها الهائل غير المسبوق، في تاريخ حضارات وإمبراطوريات العالم.

قراءة التاريخ الاجتماعي

قد لا تتفق هذه الصورة بشكل، أو بآخر مع الطريقة التي قدمت بها التجربة العثمانية للأجيال العربية والتركية، التي جاءت بعد انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كما قد لا تتفق مع الرواية الرسمية في العالم العربي وتركيا حول تاريخ علاقات العرب والترك، أو حول تقويم نتائج التجربة العثمانية السياسية والحضارية ككل، وآثارها على العالم العربي.

فكثيرا ما يتم تحميل التاريخ السياسي ما لا يحتمل، لكي يخدم مقاصد الساسة، وأغراض المرحلة الراهنة، بما تحفل من توجهات وأيديولوجيات وعصبيات غالبا ما تلجأ إلى ساحة التاريخ، لحسم الصراع في ساحة عقل وضمير وذاكرة الأمة موضع الصراع، سعيا إلى امتلاك روح تلك الأمة، وتأسيس شرعية تاريخية تحاول تلك السياسات والعصبيات أن تتموضع من خلالها في السياق التاريخي العام للأمة، وأن ترسخ شرعيتها الخاصة: شرعية الانقلاب، أو شرعية الامتداد!

لذلك تصبح دراسة التاريخ الاجتماعي للأمة، وتناول موضوعاته المختلفة من مصادره الأصلية، منهجية صائبة في قدرتها على تجاوز الدخن والأدلجة التي شاعت في أدبيات التاريخ السياسي، وصولا إلى رسم صورة أكثر دقة وموضوعية لتجربة تاريخية معينة، ومحاولة لرؤيتها كما كانت فعلا.

ويكون ذلك عن طريق تتبع حياة مختلف القطاعات والشرائح الاجتماعية، وكذلك همومها وقضاياها وأفكارها السائدة، ومكوناتها الثقافية والأخلاقية والوجدانية، وتكويناتها الإثنية ومناشطها الاقتصادية والمهنية، وطرائق معيشتها وتقاليدها، وأنماط العمران والمعمار، وبيئات الاجتماع البشري، وخطط المدن، وكافة مناحي الحراك الاجتماعي والإنساني.

وخير مصدر لمعارف هذه الموضوعات، هي المصادر الأولية: وثائق العصر ذاته من مشاهدات الرحالة، ومصنفات كتاب السّير والأخبار، وكتب الخطط، وأسفار أهل الحرف والصنائع (الأصناف)، وسجلات المحاكم الشرعية من عقود ووصايا إرث وطابو ومعاملات، وتواريخ الأعيان، ومذكرات المعاصرين للمرحلة، وأرشيف الدول، ومراسلات القناصل وممثلي الشركات الأوروبية، وما أنتجه أهل ذلك العصر من أدب، ومأثورات محكية ومدونة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الدولة العثمانیة

إقرأ أيضاً:

ثَبَتُ فَلَج ذي نَيْم.. وثيقة من القرن الخامس الهجري

كانت الزيادة على متون الكتب عند العمانيين أمرًا سائغًا ومنتشرًا اشترك فيه الخاصة والعامة، ولذلك نرى في كتب المتقدّمين عبارات تفيد الزيادة نحو قولهم: «ومن غيره»، أو «ومن الزيادة المضافة» أو نحوها، ثم يعقبها نص من غير كلام المؤلف في الكتاب. وثمة من يرى أن الزيادات مما ابتلي به التراث العماني لِما ترتب عليها من خلط بين نصوص المؤلفين وغيرها، بيد أن تلك الزيادات - من الزاوية المضيئة – حفظت لنا نصوصًا كثيرة من مصادر مفقودة أو مما كاد أن يُفقَد لولا أنه مما زِيدَ على كتاب.

يحفل كتاب (بيان الشرع) لأبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان الكندي السمدي النزوي (ت:508هـ) بوثائق كثيرة يصدق على بعضها حكم الزيادات على متن الكتاب، ويحتمل أن البعض الآخر من أصل الكتاب. ولمّا كانت الزيادات على هذا الكتاب قد لبثت قرونًا متطاولة، فإنه ليس عجيبًا أن نقف في كثير من نُسَخ أجزاءه على وثائق ضمن الزيادات، وهي إما تخللت متن الكتاب أو زيدت عليه بعد الخاتمة. ومن بين تلك الوثائق ما يرجع إلى العصور الإسلامية قبل زمان المؤلف أو في عصره، أو مما زيد على الكتاب بعد المؤلف حتى زمان متأخر عنه بقرون.

ونتعرض في هذه السلسلة لعدد من الوثائق التي نُقِلت في الكتاب، ابتداءً بوثيقة مؤرخة سنة 428هـ أي قبل وفاة المؤلف بنحو ثمانين سنة، وهي ضمن مجموعة من الوثائق التي وردت في الجزء التاسع والثلاثين من الكتاب وموضوعه فقه الأفلاج. ولفقه الأفلاج أثر بالغ في نقل الصورة الحضارية لحياة القرى وإعمار الأرض العمانية طوال عصر التأليف.

تصدّرت نقل الوثيقة عبارة «قال غير المؤلف للكتاب والمضيف إليه: وهذه مسألة وجدتها في أوّل صفح ورقة من الورق المبيض، لأوّل الكتاب، فكتبتها في هذا الباب وهي هذه: في فلج ذي نيم عن أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن سليمان الكندي –رحمه الله-، وصلتُ إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسن السعالي، وسألتُه عن ثَبَتٍ كان أثبته والده في أمر فلج ذي نيم، فأحضره، فإذا هو مكتوب....» ثم نقل نص الوثيقة: «بسم الله الرحمن الرحيم. حضرنا يوم الأحد لعشر خَلونَ من ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، إلى حيث يخرج فلج ذي نيم، ورأيناه له شريحًا مغربًا من حدّ القلعتين اللتين يخرج الماء شرقي ساقيته إلى المغرب، نحو خمسة وثلاثين ذراعًا مختلطًا بالساقية الشرقية. وكتب ذلك محمّد بن أحمد بخطّه، بمحضر من ولده أحمد بن محمّد بن عبد الله المعلّم. وقال أبو بكر أحمد بن محمّد: إنّ محمّد بن عبد الله المعلّم هو جدّ محمّد وعمر ابني عبد الله بن محمّد بن عبد الله، وكان اليوم الذي وصلت فيه إلى أبي بكر أحمد بن محمّد، وسألته عن هذه الثَّبَت يوم الاثنين لسبع ليال بقين من ذي الحجّة، من سنة تسع وسبعين وأربعمائة»، ويتبع هذا النقل تأكيد له بنقله من مصدر آخر، وعلق على ذلك الناقل بقوله: «وهذه مسألة نفسها وجدتها في آثار المسلمين فأعدتُ كتابتها لزيادة وثائق فيها عما قد كتبتُ، فأعدتُها كذلك» وعبارته صريحة في أن النقل الثاني فيه ما ليس في الأول، وقد جاء في آخر النقل: «ووجدتُ هذا الثبت في كتاب لمحمد بن المفدى، ومكتوب فيه أحسب أنه بخط أحمد بن محمد بن صالح: قال أبو عبدالله محمد بن موسى بن سليمان: إن هذا الثَّبَت الذي في هذا الصفح بخط أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان، وكان قوله هذا بمحضر من أبي علي موسى بن أحمد المنحي، وأحمد بن محمد بن صالح، وكتب أحمد بن محمد بن صالح هذا في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكتب أحمد بن محمد بن موسى بن سليمان هذا الثبت عشية الاثنين لتسع بقين من شهر شعبان سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة». والمتأمل في تأريخ الوثيقة التي سُمِّيت بـ «الثَّبَت» يجد فيها أخبارًا قد تنقدح في ذهنه بشأنها تساؤلات عدة، منها أن مؤلف كتاب بيان الشرع هو من وصل إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسن السعالي وسأله عن «الثَّبَت» الذي كتبه والده، ثم إنه بين تأريخ الوثيقة وسؤاله عنها نحو نصف قرن من الزمن، إذ سؤاله عنها كان سنة 477 أو 479هـ ثم وردت تواريخ أخرى في النقل التالي برواية فيها بعض الاختلاف، أولها تعليق أحمد بن محمد بن صالح سنة 527هـ، وكتابة أحمد بن محمد بن موسى بن سليمان هذا الثبت نقلًا سنة 533هـ، أي أن النظر في تلك الوثيقة وتداولها بين أولئك الفقهاء وفق هذه النصوص لبث نحو قرن من الزمن. أما استخلاص ما يتصل بالأعلام من أخبار، والألفاظ الحضارية ومعانيها ودلالاتها، والأماكن وما يرتبط بها فإن المقام به يطول، غير أنه مما قد يتبادر في شأن محمد بن الحسن السعالي الذي حُكِي أنه شيخ أبي سعيد محمد بن سعيد الكدمي (ق4هـ) ألا يكون هو المذكور هنا، والرواية الأخرى في أحد هذه النقول أن المسؤول أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن السعالي، ولعل ذلك أقرب بقرائن الأزمنة والأحوال. وفي الوثيقة من الألفاظ الحضارية: الشريح، والساقية، وهما من مصطلحات الأفلاج، فالساقية معروفة، والشريح - فيما أحسب- يُطلَق عليه في بعض البلدان: الشَّرَح، وهو الساقية المكشوفة خارج الأموال على مقربة من شريعة الفلج.

مقالات مشابهة

  • دور الحرب العالمية الأولى في إسقاط الحكم العثماني .. ماذا حدث؟
  • رغم التألق مع سانتوس.. برشلونة يضع شرط أوليا لعودة نيمار إلى صفوفه
  • نيفيز: كأس العالم للأندية 2025 ستكون الأجمل في التاريخ
  • 4 دول عربية بالقائمة.. العراق ضمن خرائط ترامب لتهجير سكان غزة (صور)
  • زي النهارده.. إلغاء الخلافة العثمانية ونهاية أربعة قرون من الحكم
  • روبيو: ترامب الوحيد في العالم الذي يستطيع جلب بوتين إلى طاولة المفاوضات
  • سوريا بين خرائط “برنارد لويس” وحكومة الجولاني
  • ثَبَتُ فَلَج ذي نَيْم.. وثيقة من القرن الخامس الهجري
  • جامعة إيطالية تمنع عقد ندوة حول كتاب يحيى السنوار الشوك والقرنفل
  • يونامي: بغداد رمز الصمود والحضارة والتاريخ والثقافة