بيتكوين تدخل الهالفينغ الرابع في تاريخها.. ماذا يعني ذلك وكيف تتأثر سوق العملات الرقمية؟
تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT
شهد فجر يوم السبت الفائت، 20 أبريل، اكتمال عملية "تنصيف" عملة بيتكوين أو ما يصطلح على تسميته "بيتكوين هالفينغ – Bitcoin halving"، وذلك للمرة الرابعة في تاريخ هذه العملة الرقمية التي أنشئت عام 2009، وهو الحدث الذي كان ينتظره ملايين المتداولين والمستثمرين منذ 4 سنوات، لما يحمله من تأثير بعيد المدى على سوق هذه العملة وغيرها من العملات الرقمية المشفرة.
يعد الهالفينغ جزءاً أساسياً من بروتوكول البيتكوين، بحيث يؤثر بشكل كبير على كيفية عمل النظام وحجم إصدار العملات الجديدة في الشبكة. ففيما يعمل آلاف الأشخاص حول العالم على ما يسمى التنقيب عن البيتكوين، عبر حواسيب ضخمة للتحقق من المعاملات الجارية على سلسلة الكتل المعروفة بـ "البلوكتشين"، ويكسبون مقابل ذلك عدداً من عملات بيتكوين، فإن الهالفينغ هو عبارة عن موعد تقليص حجم تلك المكافأة إلى النصف، أي التنصيف أو"الهالفينغ" (halving)، ما يُترجم في السوق انخفاضاً في إطلاق عملات البيتكوين الجديدة للتداول في السوق إلى النصف.
لماذا يحظى الاستثمار في عملة #بيتكوين وباقي العملات الرقمية باهتمام المستثمرين؟
جو الخولي يتحدث في العرض التالي عن الزخم الذي يشهده هذا النوع من الاستثمار..#الحرة #شاهد_الحرة #الحقيقة_أولا #العملات_المشفرة #العملات_الرقمية pic.twitter.com/Xaps7lQp8d
يحدث "الهالفينغ" كل 4 سنوات مرة، وهذه المرة الرابعة التي تحصل فيها هذه العملية في التاريخ. بدأت مكافأة التعدين عام 2009 بـ 50 بيتكوين لكل كتلة، وانخفضت بعد 4 سنوات إلى 25، ثم 12.5، ثم 6.25 في السنوات الماضية، ثم وصلت الآن بعد تاريخ 20 ابريل 2024 إلى 3.125 بيتكوين نتيجة التنصيف الذي حصل.
ما هو التعدين؟يشرح الاستشاري في مجال العملات الرقمية نادر الديراني في حديثه لموقع "الحرة"، عملية "التعدين أو التنقيب" بكونها الوسيلة التي يتم بها إطلاق البيتكوين الجديد في التداول، حيث يقوم "المعدنون" بتشغيل أجهزة وبرمجيات متخصصة لحل معادلات رياضية معقدة، وذلك بهدف إيجاد رقم تشفيري يتوافق مع، أو يقل، عن الرقم الذي حددته خوارزمية شبكة البيتكوين.
وعندما يتم إجراء معاملات بين المحافظ الرقمية، يتم إدخال العناوين والمبلغ والمعلومات في كتلة على البلوكشين، ويتم وضع جميع البيانات في الكتلة من خلال خوارزمية تشفيرية تُعرف بـ"التجزئة"، يقوم المعدنون بتدوير تريليونات التجزئات كل ثانية حتى يجدوا واحدة تلبي شرطًا يُعرف بـ "الصعوبة"، يتم تعديلها مع كل 2016 كتلة بيتكوين، تحتاج بالمدة نحو أسبوعين من الزمن، للحفاظ على وقت كتلة ثابت، وهو الوقت الذي يستغرقه العثور على كل كتلة جديدة أثناء التعدين.
أول من يجد الحل للمشكلة يتلقى عملات البيتكوين كمكافأة، وتبدأ العملية من جديد. هذه المكافأة، بحسب الديراني، هي حافز العاملين في التنقيب للمساعدة في الغرض الأساسي من التعدين وهو: تسجيل المعاملات على البلوكتشين والتحقق منها وتأكيدها.
وبحسب بروتوكول بيتكوين من المتوقع أن يستمر التنصيف حتى عام 2140، مع وجود 29 تنصيفًا متبقيًا بعد عام 2024. هذا البروتوكول مبرمج مسبقاً منذ إنشاء بيتكوين وطرحها عام 2009، بحسب ما يؤكد علي كركي، الشريك المؤسس لمبادرة "تكسير" Taxir، وهو مركز بحث واستشارة وتدريب مختص بالبلوكتشين والويب الثالث.
ووفقاً لهذا البروتوكول فإن التنصيف أو "الهالفينغ"، هو أمر حتمي حصوله كل 4 سنوات، بحسب ما يشرح كركي لموقع "الحرة"، "لا أحد يقرر موعده ولا أحد يستطيع منعه أو وقفه ولا مؤسسة أو جهة ترعى ذلك"، انما هو "كود" موجود وسيبقى حتى عام 2140، يعمل وفق حسابات رياضيات حصرًا.
بعد إكمال عملية "التنصيف".. بيتكوين تواجه شكوكا تمتلك عملة بيتكوين المشفرة ميزة تم دمجها في الكود الرقمي الذي أدى إلى إنشائها منذ نحو 15 عاما، إذ بين الحين والآخر تتغير الصيغة التي تحكم معدل التعدين عن الرموز الجديدة، وهي العملية التي تسمى بـ"التنصيف" (Halving).بعد عام 2140، الذي سيشهد الهالفينغ الأخير، لن يحصل المعدِّنون بعد على مكافآت عملات بيتكوين جديدة، بل سيعتمدون فقط على رسوم المعاملات للحصول على الإيرادات.
يذكر أن بروتوكول بيتكوين يحدد عدد العملات التي يمكن تعدينها وتوفرها بالسوق بـ21 مليون بيتكوين، لا أكثر ولا أقل، لا يمكن أن تزيد تحت أي ظرف، لكن يمكن أن تنقص في حال احتفاظ بمبالغ كبيرة لوقت طويل خارج سوق التداول، وهو ما يحصل مثلاً عند وفاة أشخاص يملكون بيتكوين دون اتاحة توريثها لجهة أخرى، هذه العملات تخصم من الـ21 مليون ولا يمكن حتى استبدالها أو إعادة طرحها.
حتى الآن جرى تعدين ما يقرب من 19.57 مليون بيتكوين، أي أن المتبقي أقل من مليون ونصف عملة، بحسب الديراني، بينما يقدر عدد المحافظ البيتكوين العالمية بأكثر من 200 مليون محفظة بحلول عام 2024.
ما تأثير "الهالفينغ"؟وجاء ظهور بتكوين لأول مرة عام 2009 من خلال ورقة بحثية نشرها شخص مجهول تحت اسم "ساتوشي ناكاموتو" تحمل كامل البروتوكول الخاص بالعملة والبلوكتشين، لم تعرف هوية هذا الشخص حتى الآن، وما من دليل على وجوده سوى محفظة رقمية تحوي نحو مليون بيتكوين باسمه، تدور حول هذه الشخصية العديد من النظريات بعضها يدعي أنهم مجموعة من الهاكرز، وأخرى ترجح أن يكون ناكاموتو امرأة، فيما ادعى أشخاص في فترات متباعدة كنهم ناكاموتو دون أن يتمكنوا من اثبات ذلك.
وفقا للديراني، سعى مبتكر البيتكوين من خلال آلية الهالفينغ، لمكافحة التضخم في سوق هذه العملة، والحفاظ على قيمتها من خلال تقليل العدد المُنتَج بحيث يضمن استمرارية البيتكوين كمخزن للقيمة، ويُعزز من مبدأ الندرة الذي يُعتبر أساسيًا في قيمتها، فيؤدي إلى تباطؤ وتيرة نمو العرض الجديد للبيتكوين، ويخلق توازنًا بين العرض والطلب.
بدوره يشرح كركي أنه وبعكس باقي العملات التي يجري طباعتها من قبل المصارف المركزية بصورة أوسع مع ازدياد الحاجة في السوق، ما يؤدي إلي حصول التضخم، فإن البيتكوين تعمل بطريقة عكسية من خلال خفض العملات المتاح تعدينها، وبذلك تحقق العملة عنصر الندرة التي تساهم في استمراريتها وترفع من سعرها، وهو ما يدفع مع كل "هالفينغ" حصلت في السنوات الماضية إلى ارتفاع في سعر البيتكوين، بسبب الطفرة الناتجة عن ذلك.
هذا الواقع يدفع كركي إلى وصف البيتكوين بكونها "ذهب العملات الرقمية المشفرة"، ما يجعله كذلك هي عملية الهالفينغ بحد ذاتها، التي تجعل العملة أندر مع الوقت وتصعب من عملية تعدينها، كما هو حال الذهب الذي يكتسب قيمته من مدودية توفره على وجه الأرض.
وبمراجعة لتاريخ تقلبات أسعار بيتكوين قبل وبعد التنصيف، يظهر أنه ومع التنصيف الأول (2012) ارتفع سعر البيتكوين من حوالي 12 دولارًا إلى 1075 دولارًا خلال 12 شهرًا بعد التنصيف.
مع التنصيف الثاني (2016) ارتفع سعر البيتكوين من حوالي 650 دولارًا إلى 2560 دولارًا خلال 12 شهرًا بعد التنصيف.
مع التنصيف الثالث (2020) ارتفع سعر البيتكوين من حوالي 8727 دولارًا إلى 55847 دولارًا خلال 12 شهرًا بعد التنصيف.
بيتكوين تُحلق عند مستويات تاريخية.. إلى أين تتجه؟ حلّقت أسعار عملة بيتكوين عند مستويات تاريخية هذا الأسبوع، إذ سجلت أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 72,881 دولار تقريبا، الاثنين، قبل أن تتراجع إلى 72 ألف دولار تقريبا حتى تاريخ نشر هذه المادة.وبالتالي التاريخ يُظهر أن الأسعار تميل إلى الارتفاع بعد كل تنصيف، بحسب الخبيرين، اللذين يؤكدان في الوقت نفسه أن التأثيرات الكاملة للتنصيف لا تظهر بشكل فوري وسريع، بل قد تستغرق وقتًا لتنعكس على السوق.
عام مختلفإلا أن الوضع هذا العام مختلف عما كان في الأعوام السابقة بحسب كركي، "بسبب الاحتضان المؤسساتي للعملة الرقمية مؤخراً"، وذلك بعد موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصة الأميركية في يناير 2024، على السماح بإنشاء صناديق مؤشرات تداول بيتكوين في الولايات المتحدة، وهي خطوة منحت المستثمرين العاديين إمكانية الوصول إلى العملة المشفرة، واتاحت للشركات والمؤسسات الكبيرة فرصة الدخول إلى هذه السوق، وشراء العملة بكميات كبيرة وبمليارات الدولارات، ما ترك تأثيرا واضحاً في السوق خلال الأشهر الماضية ورفع من سعر العملة إلى أعلى مستوى في تاريخها حتى قبل الوصول إلى الهالفينغ "التي من شأنها الآن أن ترفع السعر بشكل أكبر أيضاً في المرحلة المقبلة".
كذلك شهد أبريل الجاري حدثاً مهماً على هذا الصعيد، حيث أعطت هونغ كونغ موافقات مبدئية لبعض شركات إدارة الأصول لإطلاق صناديق متداولة فورية لعملتي بيتكوين والإيثريوم، وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً أيضاً على سوق العملات المشفرة، لتدخل بذلك إلى نادي الدول والمدن الصديقة للعملات الرقمية، مثل دبي وسنغافورا والسيلفادور والولايات المتحدة.
المختلف هذا العام أيضاً، وفقاً لكركي، أن المؤسسات والشركات الكبرى التي دخلت على خط شراء البيتكوين، تسعي لتثبيت أصولها من العملات الرقمية، وبالتالي من غير المتوقع أن تعمد لبيع العملات عند ارتفاع سعرها لتحقيق أرباح، كما يفعل الأفراد الذين يستثمرون، وهو ما قد يكون له بدوره تأثير مختلف عن السنوات الماضية على سوق العرض.
وبينما كان يتم قبل التنصيف إنتاج نحو 900 عملة يومياً تضاف إلى الأسواق، سينخفض هذا الرقم إلى نحو 450 عملة بتكوين في اليوم خلال السنوات الـ 4 المقبلة. وهو ما من شأنه على المقلب الآخر أن يؤدي إلى تراجع في إيرادات شركات التعدين بمليارات الدولارات، وسيدفع إلى خروج شركات تعدين كثيرة من المنافسة وخفض الحماسة على عملية التنقيب، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة اللازمة للعملية، وانخفاض العائدات، الأمر الذي من شأنه أيضاً أن ينعكس على الأسواق وعلى البلوكتشين أيضاً لناحية إبطاء عملية التحقق والتسجيل.
مع ذلك تبقى التوقعات في هذه السوق غير ممكنة بشكل حاسم، بحسب كركي، وإنما أشبه بالتنجيم بسبب صعوبة التنبؤ بالاتجاه الذي ستسلكه السوق وتفاعل الناس والمستثمرين معها في النهاية.
يذكر أنه رغم اكتمال الهالفينغ، فإن سعر بيتكوين لم يسجل بعد قفزات كبيرة صعوداً أو نزولاً، وعلى مدى يومين لم يسجل سوى ارتفاعاً طفيفاً بمقدار نحو 3 في المئة بحيث بلغ سعرها 66.721 ألف دولار حتى موعد إعداد هذا التقرير.
أما بالنسبة لتأثير ذلك على سوق باقي العملات الرقمية، غير البيتكوين، أو ما يعرف بالعملات الرديفة (آلتيرناتيف كوينز)، يتوقع كركي أيضاً أن تشهد بدورها ارتفاعاً في سعرها، بناء على السوابق في التجارب الماضية، وذلك "لأن الناس التي تحقق ارباحاً من البيتكوين تبدأ باستثمارها في سوق العملات الرديفة، ما يزيد من الطلب ويرفع السعر، وهو أشبه بهجرة رؤوس الأموال من عملة إلى أخرى".
ويختم كركي بنصائح عامة للتعامل مع المرحلة المقبلة، على رأسها "النصيحة الدائمة في عالم العملات الرقمية" وهي "عدم البيع" بل الشراء والاحتفاظ بها طالما أن ذلك ممكنا، "ولا بأس بخيارات البيع إذا كان هناك حاجة لربح المال، ولكن على المدى البعيد الاحتفاظ هو الاستثمار الأنجح".
نظرية "الصرصور".. كيف ارتفعت قيمة بيتكوين بنسبة 150% في 2023؟ رغم أن العملات المشفرة تعرضت لصدمة كبيرة في عام 2022، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، فإنها عادت للحياة بعد عدة أشهر، ما جعل الخبراء يتساءلون عن سبب استمرار هذه الصناعة التي يبدو أنها "غير قابلة للتدمير"، بحسب وصف مجلة "إيكونوميست".ويلفت النظر إلى أنه عند شراء العملات لحفظها، "الأفضل هو عدم تركهم على منصات التداول بل الاحتفاظ بهم في محافظ رقمية خاصة غير مربوطة بالإنترنت، للاستفادة الأمثل من حصرية ملكيتهم، حيث أن وضعهم على منصات التداول هو أشبه بوضع الأموال في المصرف، بينما الاحتفاظ بهم على ما يسمى "كولد والت" (المحفظة الباردة) يجعلهم في يد مالكهم حصرا وكأنهم في خزنة المنزل.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: العملات الرقمیة سعر البیتکوین البیتکوین من بعد التنصیف بیتکوین من فی السوق على سوق من خلال دولار ا عام 2009 وهو ما الذی ی
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون السودانيون: لم تعثروا وكيف ينهضون (٢-٦)
الدكتور الدرديري محمد أحمد
(في الفكرة والمنهاج)
ربما لم يكن بواكير الإسلاميين السودانيين، من أمثال علي طالب الله وخريجي مصر في اربعينيات القرن الماضي، منفعلين بالفكرة والمقصد الذين أسلفنا الاشارة اليهما في الحلقة السابقة بقدر انفعالهما بغاية حركة الإخوان المسلمين في مصر. فمؤسسو الحركة الإسلامية السودانية كانوا قد تربوا على فكرة التنظيم المصري وأسلوبه. فما هي تلك الفكرة، وفيم خرج عنها الإسلاميون السودانيون.
يحتل إحياء الخلافة الإسلامية موقعًا مركزيًا في فكر الإمام حسن البنا وفي أهداف جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث اعتبر البنا أن سقوط الخلافة العثمانية كان كارثة حلت بالمسلمين أدت إلى تشرذم الأمة الإسلامية واستعمارها. ومن هنا، رأى أن إعادة الخلافة واجب على المسلم وضرورة لإعادة قوة الإسلام ودولته. ففي “رسالة المؤتمر الخامس”، وهي وثيقة مفتاحية لفهم دعوة البنا، قال الإمام البنا عن الخلافة الإسلامية انها “رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وهي شعيرة إسلامية ألزمها المسلمون منذ عُهدة نبيهم صلى الله عليه وسلم”.
غير انه لم يكن يرى أن إعادة الخلافة هدفًا منفصلاً أو وحيدا، ولم يدعُ إلى إحياء الخلافة بشكل مباشر أو فوري – كما هي دعوى داعش – فذلك عنده إنما يكون تتويجا لمجموعة من المراحل التي تبدأ بالفرد فالمجتمع ثم الدولة. وقال في هذا الإطار “والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، ويعتقدون أن ذلك من واجباتهم كمسلمين.”
هذه الفكرة المحورية التي انفعل بها الإسلاميون في مصر والشام وشمال افريقيا كانت نتاجا لارتباط هذه المنطقة بدولة الخلافة لعدة قرون؛ وهي تجربة لم يكن السودان جزءا منها.
فتاريخيا لم يخضع السودان للحكم المباشر للخليفة العثماني في إسطنبول. ولئن كانت هناك فترة زمنية قصيرة (1821-1824) هيمنت فيها السلطة العثمانية اسمياً على السودان عبر محمد علي باشا، فقد تولى محمد علي بعدها حكم السودان – فيما عرف بالتركية السابقة – كجزء من دولته في مصر، المستقلة فعليا عن إسطنبول. وبدلا من أن يتطلع الشعب السوداني لتلك الحقبة ويعتبرها تجسيدا لدولة الخلافة الراشدة أو رمزا للوحدة الإسلامية فيسعى لإحيائها، فانه يراها فترة تسلط وقهر، وتجربة استعمارية مريرة أبعد ما تكون عن ان تسمى “شعيرة إسلامية”. بل نفى السودانيون عن “التركية السابقة” صفة الإسلام ووصفها بعضهم بأنها “كافرة”، وما ذلك الا لممارساتها السياسية والإدارية التي اعتُبرت مخالفة للشريعة الإسلامية. وكان ذلك هو سبب الثورة المهدية التي ظلت جذوتها مشتعلة في نفوس انصارها حتى عهد قريب. هكذا لم يكن لفكرة الإخوان الجوهرية بريق لدى الإسلاميين السودانيين من غير الوافدين من مصر. وتدريجيا، وكما قال البروفسير حسن مكي، مؤرخ الحركة الإسلامية السودانية الأول، “هذا الرافد الوافد من مصر لم تكتب له الديمومة والاستمرارية، اذ ذاب بعضه في حركة التحرير وتلاشى البعض مع فتور الحماس وانقطاع أسباب الاتصال بمصر”.
كذلك لم يتحمس الإسلاميون السودانيون للعمل ضمن التنظيم المصري، في وقت كانت بلادهم فيه خاضعة للحكم الثنائي وتنقسم فيه الحركة الوطنية الى اتحاديين واستقلاليين. وقد استمر موضوع العلاقة بالتنظيم المصري جدلياً حتى مؤتمر العيد 1954 الذي بتّ فيه جزئيا بأن قرر الاحتفاظ باسم الإخوان لكنه رفض الانضواء تحت الحركة المصرية.
في الستينيات، وبظهور الدكتور حسن الترابي في المشهد عام 1964، برزت عوامل إضافية عجلت من الابتعاد الكلي عن النهج المصري. كان واضحا لدى الترابي انه إذا أراد أن يستجيب للتحدي الماثل أمامه في السودان فانه لابد من أن يكون للقيادة الإسلامية السودانية ان تقدر ظرفها السياسي والاجتماعي. ومن ثم قرر الخروج عن التنظيم الدولي لما سماه “اعتبار الخصوصية لكل بلد”، وقدّم رؤيته الموسومة “التنسيق المتطور بديلاً للبيعة المباشرة”، وذلك في مرافعة فكرية متكاملة صدرت في كتيب تحت عنوان “الأصول الفكرية والعملية لوحدة العمل الإسلامي”.
وخلاصة تلك الرؤية هي ان “أهل كل بلد أدرى بشعابها وأولى بشأنها وأبصر بتكييف القراءة العامة للمستقبل الإسلامي لخصوص الحال التي تليهم”. لاحقا دعا الترابي الإسلاميين في كل بلد “أن يراعوا خصوصياتهم الظرفية دون افتتان بتقليد عالمي يقطعهم عن أصول التحديات الفعلية وألا يقعوا فرائس للعصبية التي تفتنهم بخصوصياتهم الظرفية والمحلية”. وهكذا انفتح الباب على مصراعيه لتطوير رؤية سودانية فكرية وسياسية وتنظيمية مستقلة تتناسب وخصوصيات السودان وتحدياته.
اتخذ التنظيم السوداني نهجا أكثر مرونة مقارنة بالنهج التقليدي للإخوان المسلمين. ومن ذلك انه أقام علاقة مع مختلف القوى السياسية السودانية، بما في ذلك الأنظمة الحاكمة. ولم يكن مثل ذلك النهج مقبولاً ضمن إطار التنظيم الدولي للإخوان. كيف لا، بينما كان التنظيم الدولي للإخوان يرفض حتى مجرد التعامل مع أجهزة الاعلام “التي لا تلتزم بالخط الإسلامي الصريح”. وقد قال الشيخ يوسف القرضاوي في هذا، إنهم يرون “مقاطعة أجهزة الاعلام كلها مقروءة ومسموعة ومرئية لما يشوبها من انحراف وفساد في الفكر والسلوك”. وحكى القرضاوي كيف أن بعضهم أنكر عليه الكتابة في مجلة الدوحة القطرية، ونشر كتابه “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم” على حلقات في صحيفة الشرق الأوسط السعودية. وليس ذلك الا تجليا للنظرة الكلية للإخوان الذين يقولون بجاهلية المجتمع وان لم يكفروه.
وقد لخص الترابي هذه المفارقة بين المنهجين في عبارة موجزة قال فيها “رفضنا أن نكون حركة إلى جانب المجتمع، نعتزله ونتعامل معه بالجدل والمناظرات، وانما أردنا أن نكون نحن حركة المجتمع ذاته، ندخل في سياقه، ونقاوم ما فيه من شر، ونبني على ما فيه من خير”. وهكذا بينما يرى التنظيم الدولي ان المجتمع مقصود بالتغيير وأن آلة ذلك هي التنظيم، يرى التنظيم السوداني ان المجتمع مقصود بالإصلاح، وانه هو – نفسه – آلة إصلاح الدولة.
اهتم الإمام حسن البنا بالدعوة لإحياء الإسلام، والمزج بين الجوانب الروحية والاجتماعية والسياسية تحت شعار “الإسلام دين ودولة” أو “الإسلام هو الحل”. وقد ركزت أدبيات كبار كتاب الاخوان من فترة الاربعينيات والخمسينيات على هذه المعاني. ومن هؤلاء سيد قطب ومحمد الغزالي وحسن الهضيبي وعبدالقادر عودة ومصطفى السباعي (سوريا) ومحمد قطب والبهي الخولي، وغيرهم ممن ظل الناس عالة عليهم لعقود طويلة. إلا ان الدعوة لتجديد الدين، التي أطلقها الترابي في الستينيات، كانت هي ما ميز مدرسته. بل قدر أن ذلك هو جوهر رسالة الدعوة الإسلامية الحديثة. فلم يكن يرى سبيلا لبعث إسلامي في السودان الا بتجديد الاطروحة الدينية في جوانب تفصيلية مهمة، وفي جملة من القضايا الاجتماعية والسياسية والأصولية الكبرى. حيث أعاد قراءة النصوص الدينية برؤية معاصرة لا تخلو من جرأة، وقدم تأويلات جديدة في عديد المسائل. ومن أبرز القضايا التي تناولها قضية المرأة، التي يرى أن المجتمع أثقلها بتقاليد كثيرة باسم الدين، وماهي عنده من الدين في شيء. وله نظرات في قضية الشورى تربط بينها وبين مفهومي الحريات وفصل السلطات. ودعا للاجتهاد المطلق، ولفتح بابه ليس أمام العلماء وحدهم وإنما للمفكرين المسلمين من كل علمٍ وضرب. وكانت له تأويلات في كيفية تطبيق الحدود في عصرنا هذا. وما ذلكم الا لأن الترابي يرى ان عودة المجتمع للدين لا تتأتى دون تجديد الدين.
غير أن الاختلاف الفكري بين الحركتين لم يقف عند هذا الحد. اذ اتخذ المنهج الفكري للتنظيم المصري طابع الأيدولوجيا. فتطور الى مجموعة متماسكة من المعتقدات، تشكّل رؤية الجماعة تجاه مجتمعها وتحدد سلوك أفرادها الاجتماعي والسياسي والثقافي، ويتم من خلالها تفسير الواقع وفهم علاقات التنظيم مع الآخرين.
فصار هدف التنظيم، وبحسب الامام البنا “الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ثم الحكومة المسلمة، التي تقود هذا الشعب إلى المسجد، وتُعيد مجده التليد، وتستأنف بناء الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة الغرّاء.” وتحقيق هذا الهدف يتطلب إصلاح العقيدة، وإصلاح المجتمع، وإصلاح النظام السياسي. ومراحل تحقيق ذلك هي مرحلة التعريف والدعوة الفردية، ومرحلة التكوين والتنظيم، ثم مرحلة التنفيذ التي تعني تطبيق الشريعة الإسلامية على مستوى المجتمع والدولة. وهكذا أوجد تطوير هذه المبادئ التفصيلية في إطار رؤية كلية طويلة المدى جمود الأيدولوجيا. وأنتج ذلك، كما يقول بول ريكور في نقد الأيدولوجيا كلها، “تشويشا وتضليلا عن الواقع”.
في مقابل اتخاذ تنظيم الإخوان خطة أيدولوجية، اتخذ التنظيم السوداني منحى مرنا يستمد مرئياته من الواقع، بل من المجتمع نفسه الذي يعملون لإصلاحه من خلال التجربة، دون تقييد في ذلك من مثال فكري جامد. فأنتج ذلك النهج حركة لا تحرص على تمييز نفسها عن حركات الإصلاح السودانية السابقة، أو المجتمع الذي تتعامل فيه، وتُدخِل عنصر الزمن ضمن الوصفة التي تقدمها لعلاج الامراض التي تراكمت على مر القرون. فالحركة الإسلامية السودانية، وبحسب الترابي، “حركة مترفقة تؤمن بالإصلاح المطرد المتدرج في الأطر والمؤسسات”. وقد قال حسن مكي في ذلك “تطرح الحركة الإسلامية نفسها كحلقة من حلقات التجديد الإسلامي واصلة نفسها بتاريخ الإسلام في السودان ومستفيدة من تجارب الحركة الإسلامية السودانية ببعدها التاريخي: فقهاء، متصوفة، حركات دعوة وارشاد وتعليم، انتهاء بجهود الميرغني الكبير وجهود الامام محمد أحمد المهدي”. وقد اعتبر حسن مكي ذلك من الخصوصيات التي تميزت بها حركة الإسلام في السودان، فقال “من خصوصيات هذه الحركة ان خياراتها وصيغها وبرامجها تبلورت في أرض الواقع ونضجت من محك التجربة”.
كما قال محمد المختار الشنقيطي، الذي درس الحركة الإسلامية الحديثة في السودان بعمق، “ان سر الطرافة والجدة في تجربة الحركة الإسلامية في السودان هو ارتباط الفكر بالعمل، وهو أمر صبغ نتاج الحركة كله. وقد جمع قادة الحركة ومفكروها بين العمق الفكري والروح العملية، وأدركوا قيمة الارتباط بينهما: حيث يهدي الفكر العمل، ويهدي العمل الفكر”.
وهكذا، أقبل الترابي وأخوته على المجتمع السوداني كما هو، يتواصلون معه دون مجانبة، ويتعهدونه دون استعلاء، ودون يأس من إصلاحه طورا بعد طور، يخطئون ويصيبون؛ معايشة للواقع وتفاعلا معه وليس وفقا لمثال منزه سبق إعداده.
ولا شك في أن الترابي كان في ذلك كله يتقدم حركته بمراحل، بل يتقدم الكثيرين من قادة الإسلاميين في عصره. ولا غرو في أن يقول عنه الشيخ راشد الغنوشي “الترابي ينحت من صخر وينهل من بحر”. جاء ذلك في حوار في قناة الجزيرة أجري في العام 2010 مع الفيلسوف الحداثي الأستاذ بالسوربون محمد أركون حول كتاب الترابي “الحكم والسياسة: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، الذي كان حينها حديث الصدور. ورغم أن أركون قد نعى على الترابي لغته الصعبة ومعجمه الخاص، الا انه قال ان ذلك الكتاب بالنسبة للترابي في مقام المقدمة بالنسبة لابن خلدون.
ولعل النهج الإصلاحي التجريبي الذي جعله الترابي للحركة الإسلامية السودانية هو الأقرب لميراث النبوة. فالرسول ﷺ وأصحابه لم يقولوا إنهم كانوا يصدرون في أفعالهم وأقوالهم الدنيوية عن مجموعة متماسكة من الأفكار. فبعد معركة أحد، قال بعض الصحابة الذين رأوا أن الخروج للقتال بعيدًا عن المدينة كان خطأ “لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما خرجنا”. قالوا ذلك والرسول بينهم فلم ينكره عليهم، هذا رغم ان النبي ﷺ نفسه كان يميل إلى البقاء داخل المدينة، لكنه استجاب لرغبة الأغلبية التي كانت ترى الخروج إلى أحد. بل قيل ذلك والوحي يتنزل من السماء فلم يعِبه عليهم. وانما نزلت في ذلك آيات من سورة آل عمران نبهتهم الى عدة أخطاء بشرية، وحفزتهم “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”، وبشرتهم انه بعد الخطأ والضلال يجيء العفو وتجيئ المغفرة “إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ”.
وقد عُرف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجهر بالمراجعات التي يراها لبعض مواقفه. فمثلما تصح المراجعات من الجماعة فإنها تصح من القائد نقدا أو تصويبا لبعض قراراته. فبعد فتح العراق والشام، كان هناك خلاف حول توزيع أراضي الهلال الخصيب والتي عُرفت بأرض السواد. اذ طالب بعض الصحابة بتوزيعها كغنائم على الجنود الفاتحين، لكن سيدنا عمر قرر أن تُترك هذه الأراضي لأهلها، على أن تُفرض عليهم الجزية وعليها الخراج. ولما أثار ذلك لاحقا تساؤلات حول العدالة في توزيع الغنائم قال عمر “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما تركت أرضًا إلا قسمتها”. حتى اليوم لا أحد يدري هل أصاب عمر بترك أرض السواد، أم أن الأصوب كان توزيعها. لكننا نعلم أنه قرر مراجعة موقفه الأول القاضي بعدم توزيعها، ولم يقل إنه كان مبنيا على مبدأ مستقر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وفي أواخر حياته، رضي الله عنه، وعندما طُعِن، اختار ستة من الصحابة من كبار أهل الشورى وأهل السابقة ليختاروا واحدًا من بينهم ليكون خليفةً. غير أنه قال “لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما جعلتها شورى”. ويقصد أنه لو عاد به الزمان، لكان عيَّن الخليفة في حال صحته وأخذ له البيعة كما فعل أبو بكر عندما عيَّنه خليفة من بعده لتجنب أي نزاعات قد تترتب على الشورى.
وكانت للترابي مراجعات واستدراكات جهر ببعضها. ومن أشهر ذلك مراجعته لموقفه من حل الحزب الشيوعي. فقد وقف الترابي بقوة لجانب حل الحزب الشيوعي في ديسمبر 1965، ومع طرد نوابه من الجمعية التأسيسية بعد حادثة حديث الإفك المشهورة. بل برر الترابي لذلك الموقف ودافع عن دستورية قرار الجمعية التأسيسية الذي قضى بتعديل الدستور في كتابه أضواء على المشكلة الدستورية. فقال “وليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه للتفريق بين نص ونص، على أساس ان هذا قابل للتعديل والآخر غير قابل، ولا ما يسند الزعم بأن لفصل الحقوق الاساسية خاصية تميزه في هذا الصدد عن سائر الفصول، فكلها تستوي في قوة مفعولها، وأيما قانوني تعلل بمجرد الاهمية النسبية لهذا الفصل او ذاك في تقديره الشخصي، فإنما هو متكلف لا شاهد له من الدستور، مغالط لا حجة له من القانون، ومعتبط يتجنى على القانون”.
وقال الترابي ان للجمعية الـتأسيسية حاكمية غير مقيدة “فهذه السلطة مودعة في الجمعية التأسيسية وبحكم هذه الحاكمية غير المقيدة تشكل الجمعية الفاعل المطلق، لا تضاهيها هيئة أخرى، ولا يراجعها رقيب، ولا يحدها ضابط قانوني”.
مؤخرا، وفي حواره الشهير في قناة الجزيرة، الذي سجل عام 2010 وبث عام 2015، سأله أحمد منصور “الآن لو استرجعت من امرك ما استدبرت هل كنت ستقوم بما قمتم به ضد الحزب الشيوعي، هل كنت ستفعل مثل ما فعلته”. أجاب الترابي “ربما لا. كنت سأقول هؤلاء لا يؤمنون بالديمقراطية لكن يظاهروننا فنعمل بظاهر لسانهم… لأنه كان يمكننا ان نقول ان هؤلاء لا يؤمنون بالديمقراطية دعونا نعمل بظاهرهم … لكن المد الشعبي كان من العسير ان نقاومه … ونحن كنا صغارا وكان كل ما يؤدي لأن يغلب الآخر كنا نستطيبه”.
وهكذا يقول الترابي إن الحركة الإسلامية لم تصدر في ذلك الموقف عن رؤية أيدولوجية، أو عما هو قطعي من الدين؛ وانما هو الرأي والحرب والمكيدة. بل يقر الترابي ان ذلك الموقف كان استجابة للمد الشعبي. وهذه محمدة وليست منقصة. فالترابي كان قائدا شعبويا populist leader يعمل – فيما دون القطعيات – وفقا للرأي، الشورِي منه والعام، وليس قائدا أيدولوجيا visionary leader، يتخذ خياراته السياسية ومواقفه بناء على نسق فكري معد سلفا.
غير أن الأمور دائما لا تكون بهذا الوضوح. فالوقائع تشتجِر والأسباب تتكاثف، فيدخل الناس في مهامِه يتيه فيها الخَرِيت. فدوما، وكما قال غوته: “النظرية خضراء والتجربة رمادية”. وإذا كان مكمن أخطاء الأيديولوجيين في جمودهم، فإن أخطاء الشعبويين تجئ من مرونتهم وطلاقة اجتهادهم. ذلك هو ما تعالجه الحلقة الرابعة من هذا المقال. أما الحلقة الثالثة، التي تلي هذه، فنجعلها للتنظيم.
نقلا عن السوداني