كان له (لحظته) المفعمة بتراتيل الحب وحروف العشق، لعقود كنت وأمثالي كثيرون نبدأ قراءة الصحيفة الأولى في البلاد من الصفحة الأخيرة حيث (العمود) الذي يشد القارئ إليه ليس لمعرفة أخبار الكون، بل لمعرفة ما يجود به (يراع) مبدع تعفرا بتراب وطن، رجل عشق وطنه على طريقته فكان أصدق العشاق وأبرهم وأكثرهم إخلاصا، وكان يزرع عموده كل صباح بحروف من صدق، حروف تحمل لنا كل صباح مشاعر الحب والانتماء، ومشاعل التنوير تضيء لمن (يكحل) بها عيونه كل صباح مسامات الوعي وتشده نحو الجذور والهوية بدون رتوش ولا تكلف.
كان (المساح) مدرسة نعم.. لكنه كان أيضا (جامعة وأكاديمية) للتواضع، كان مثقفا عضويا، ومبدعاً اجتماعياً، لم يكن (نرجسيا) مع أن أحدا لن يلومه لو كان كذلك، ولما لا وهو المبدع المتألق في بلاط صاحبة الجلالة لعقود، ومع ذلك كان (المساح) الكاتب والصحفي والقاص والأديب والمبدع المتجدد، ورئيس تحرير الصحيفة الأولى في البلاد، هو (المساح) (البتول الرعوي) وابن الأرض، كانت (القرية) تعني له دوحة الاستجمام، كانت له بديلة عن كل منتجعات الدنيا.
من على أرصفة الوطن ومن هموم الغلابة غالبا ما اقتبس حروف (لحظته) وحولها إلى (سمفونية) بلغة راقية لكنها سهلة الفهم يدركها المثقف والحاكم والوزير، كما يدركها البتول والرعوي والراعي ويتلذذ بها (الشقاة)..!
كان إيقونة المهنة، أو كما اطلق عليه زميله ورفيق دربه الأستاذ عبدالرحمن بجاش لقب (زرياب الصحافة اليمنية)..
بين (زرياب والخياطة الصينية) و(وزرياب الصحافة اليمنية) ثمة قواسم مشتركة، غير أن (زريابنا) أكثر ثورية ومثالية وتواضعاً وإنسانية من (زرياب) الآخرين..!
(المساح) قد لا يكون إبداعه من أبهرنا وسحرنا، بل أكثر ما سحرنا هو (المساح _الإنسان) المثقف الذي غاص في أعماق المجتمع بريفه والمدينة، المبدع الراقي والمثقف الاجتماعي، والمبدع (الحافي) والصحفي المثالي الذي أجمع على احترامه كل الوطن، ومع ذلك لم يتغير ولم يغتر ولم يتعال، ولم يصب بدأ الغرور، في سلوكه ومواقفه وملابسه وطريقة حياته كان ابن تراب الأرض وابن وطن، حلم بمجده وتقدمه عرفته (السجون والزنازين) كما عرفته أزقة وحواري وشوارع صنعاء وتعز وعدن وكل مدن الحاضرة الوطنية اليمن، وعرفته شعاب القرية وأحوالها ومراعيها وحين ضاقت صنعاء به وبعض من أمثاله لم يختر مدن وعواصم الخارج وكان بمقدوره أن يعيش ملكا في أي عاصمة فقط لو أشر إشارة فهناك كثيرون كانوا على استعداد لأن يجعلوه يعيش ملكا متوجا حيث يريد، لكنه (المساح) اختار القرية واختار أن يتحول من راعي الحروف إلى راعي (الكسب والماعز) ومن حراثة الكتب إلى حراثة الأرض، مع إنه نقل إلى دارته بالقرية مكتبة عامرة تحتوي على أجمل وأعظم المؤلفات السياسية والأدبية ولم يتخلف عن معانقة الكتاب يوما.. الله ما أعظمك يا (مساح) وما أعظم تاريخك وسيرتك، وإنسانيتك..
كان آخر تواصل بيننا في منتصف العشر الأواخر من رمضان الماضي ولايزال صوتك يرن في أذني (وينك يا وليييد)؟ أين غيبك الزمن..؟
وبعد أخذ ورد (ما فيش فائدة يا صاحبي روح اتمرعي، وانقل العيال للدراسة بالقرية مش في مدارس عندكم بالقرية).؟
أه.. رحل كثير من الزملاء، غير أن رحيل (المساح) مؤلم.. مؤلم.. مؤلم.. رغم أن علاقتنا لم تكن عميقة كعلاقته ببعض الزملاء والأساتذة الأفاضل الذين أتمنى من الله أن يعصم قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان وخاصة الأعزاء عبدالرحمن بجاش، فؤاد عبدالقادر، د. عبدالقادر مغلس، هاشم عبدالرزاق، عبدالباري طاهر، عبدالله عبدالإله، سالم المعمري، وآخرين كثر، ومن لم يرتبط مع (المساح) بعلاقة متميزة واستثنائية.. إنه (المساح) الإنسان الذي استوطن وجدان زملاء الحرف والكلمة، كما استوطن ذاكرة الزمن والمكان، وحاضر في وجدان سكان الريف والمدينة.. المساح الذي سوف تبكيه وتحزن على فراقه تضاريس القرية ومراعيها، كما ستفتقده حواري وأزقة صنعاء وشوارعها ومقاهيها..
رحمك الله أستاذنا ورحم زماننا بعدك، فبعدك لا (لحظة) نقف على تفاصيلها ولا (زمن) قد نستجديه.
خالص العزاء وعظيم المؤاساة لكل أولادك وأفراد أسرتك ولكل أصدقائك ومحبيك حيث كانوا ويكونون.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
إبداعات|| الغريب الذي غيَّر مساري.. محمود الجوهري- القاهرة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في إحدى الليالي الشتوية الممطرة، وبينما كنت أعود بسيارتي إلى المنزل بعد يومٍ شاق في العمل، قررت أن أسلك طريقًا مختلفًا.. كان الطريق الذي اخترته مهجورًا، تحيط به الأشجار على الجانبين، ويكاد الظلام يبتلعه بالكامل، لم أكن أعرف لماذا قررت أن أسلك هذا الطريق بالذات، ربما كنت بحاجة إلى الهدوء، أو إلى بعض اللحظات التي أكون فيها بعيدًا عن ضجيج العالم.
بينما كنت أقود، شعرت بشيء غريب، ربما كان شعورًا بالوحدة أو ثقل يومٍ مليء بالقرارات والمشاكل، فجأة، تعطل المحرك وتوقفت السيارة تمامًا وسط الطريق حاولت تشغيلها مرارًا، لكن دون جدوى، بحثت عن هاتفي لأتصل بشخص ما، فقط لأجد أن البطارية قد نفدت، بدت اللحظة وكأنها تتحداني، وكأن العالم يريد مني أن أتوقف وأعيد التفكير في كل شيء.
خرجت من السيارة تحت المطر الخفيف الذي زاد من برودة الجو، وقفت هناك، أنظر حولي بلا أي فكرة عمّا يمكن أن أفعله، الطريق كان فارغًا تمامًا، إلا من صوت قطرات المطر وأوراق الأشجار التي تحركها الرياح، كان شعورًا غريبًا، كأنني الوحيد في هذا العالم.
بعد دقائق، ظهرت من بعيد إضاءة خافتة، كان هناك رجل يسير ببطء، يحمل حقيبة صغيرة، ارتدى معطفًا طويلًا وقبعة سوداء، تخفي ملامحه بشكل جزئي، اقترب مني بهدوء، وعندما أصبح قريبًا بما يكفي، لاحظت أن وجهه كان يحمل تعبيرًا غامضًا، مزيجًا من الحكمة والهدوء.
"تبدو في ورطة"، قال بصوت هادئ.. "السيارة تعطلت، وهاتفي بلا بطارية لا أعرف ما الذي يمكنني فعله الآن".. ابتسم وقال: "ربما توقفك هنا ليس مجرد صدفة أحيانًا، الحياة تعطينا لحظات كهذه لتُرينا شيئًا مختلفًا".
رغم غرابة كلماته، شعرت بالراحة، كان هناك شيء مطمئن في وجوده، وكأن حضوره يزيل بعضًا من التوتر الذي كنت أشعر به.. بدون أن ينتظر إجابتي، بدأ الرجل في فحص السيارة، تحرك بثقة وكأنه يعرف ما يفعل، بينما بقيت أنا واقفًا أراقب، بعد دقائق، رفع رأسه وقال: "المشكلة بسيطة، لكن عليك أن تنتظر قليلًا، المحرك بحاجة لبعض الوقت ليبرد".
جلس الرجل على حافة الطريق، وأخرج من حقيبته قطعة قماش صغيرة مسح بها يديه، نظرت إليه بفضول وسألته: "هل تسير دائمًا في هذا الطريق؟ يبدو مكانًا غير مأهول".. ضحك بخفوت وقال: "أنا هنا دائمًا، لكنني لا أرى أحدًا إلا نادرًا، هذا الطريق ليس لمن يبحث عن اختصار، بل لمن يبحث عن طريق طويل ليعيد التفكير".. كلماته بدت وكأنها تحمل معاني أكبر مما يقول، لكنها أثارت فضولي أكثر.
بينما كنا نجلس ننتظر، بدأ يحدثني عن حياته.. قال إنه كان يعيش حياة مزدحمة، مليئة بالعمل والسعي خلف النجاح، لكنه أدرك في لحظة ما أنه فقد نفسه في الزحام "كنت أركض طوال الوقت، أبحث عن المال والمكانة، لكنني لم أكن سعيدًا، حتى أنني لم أكن أعرف لماذا أفعل كل ذلك، الحياة ليست سباقًا يا صديقي، بل رحلة، وكل ما عليك هو أن تعرف كيف تستمتع بالمحطات".
شعرت وكأنه يتحدث عني، كنت قد قضيت سنوات في السعي وراء أهداف لم أكن متأكدًا من معناها، كل يوم كان يمر وكأنه نسخة مكررة من الذي سبقه.. سألته: "وكيف عرفت أنك بحاجة للتغيير؟".. قال: "عندما توقفت فجأة، تمامًا كما توقفت سيارتك الآن، تلك اللحظة كانت دعوة للحياة أن تقول لي: توقف، فكر، وابحث عن المعنى".
مر رجل آخر بدراجة قديمة، يبدو عليه التعب، لكنه توقف عندما رآنا "تحتاجون إلى مساعدة؟" سأل بصوت خشن.. "لا بأس، الأمور تحت السيطرة"، أجاب الغريب بابتسامة ودودة.
لكن الرجل بالدراجة لم يذهب، جلس بجانبنا وبدأ يشاركنا الحديث، قال إنه يعمل في الحقول القريبة، وإنه يمر من هذا الطريق كل يوم، بدأ يحكي عن حياته البسيطة.. لفت انتباهي تلك الجملة التي كانت نصلًا في روحي "السعادة ليست في الأشياء الكبيرة، بل في التفاصيل الصغيرة"، قال وهو ينظر إلى السماء الممطرة.
بعد حوالي نصف ساعة، حاولت تشغيل السيارة مرة أخرى، وعادت للعمل بشكل مفاجئ، شعرت بالارتياح وشكرت الغريب على مساعدته، لكنه لم يبدُ مستعجلًا للمغادرة، نظر إليّ وقال: "قبل أن ترحل، تذكر شيئًا: كل توقف هو فرصة. فرصة لتعيد التفكير، لتسأل نفسك: هل أنا على الطريق الصحيح؟"، ثم أضاف بابتسامة غامضة: "وأحيانًا، الأشخاص الذين تقابلهم في هذه اللحظات يكونون مجرد رسائل".
ركبت السيارة وبدأت في القيادة، بينما كان الغريب والرجل بالدراجة يلوحان لي، شعرت بشيء غريب، وكأنني غادرت مكانًا ليس مجرد طريق، بل محطة من محطات الحياة.
عندما وصلت إلى المنزل، جلست أفكر في كل ما حدث، الغريب، الرجل بالدراجة، الكلمات التي قيلت، أدركت أنني كنت أحتاج إلى تلك اللحظة، ليس لأن سيارتي تعطلت، بل لأن حياتي نفسها كانت بحاجة إلى إعادة تشغيل.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت أتعامل مع الحياة بشكل مختلف، أصبحت أبحث عن المعنى في التفاصيل، وأتوقف عند كل لحظة لأفهمها "الحياة مليئة بالإشارات، لكننا نحتاج فقط إلى أن نفتح أعيننا لنراها".