مصلح كناعنة
لطالما أذهلتني “الأبواب الدَّوَّارة” فوقفتُ أمامها أراقب حركة العابرين من خلالها مشدوهاً.
طوال تاريخ البشرية منذ أن عرف الإنسان بناء البيوت، كان الباب عبارة عن فتحة مستطيلة الشكل في جدار، تسُدُّها قطعة أو قطعتان من الصخر أو الجلد أو القماش أو الخشب أو المعدن مماثلة لها في الحجم، تزيح قطعة الغطاء عن الفتحة فينفتح المكان ويتصل الداخل مع العالم، وتسد الفتحة بالغطاء فينغلق المكان وينفصل الداخل عن العالم.
من هنا جاء مفهوم “البيت”، فهو المكان الذي تدخل إليه وتوصد الباب من خلفك فتحصل على ما تحتاج إليه من الأمان والخصوصية. ومن هنا جاء كذلك الاقتناع بأن نسف الأبواب واقتحام البيوت هو أبشع اعتداء على البشر (خصوصاً الأطفال)، لأنه ينتهك آخر ملجأ للأمان ويصادر حق ساكنيه المقدس بالخصوصية. وباب البيت هو الذي من خلاله تتحكم بعلاقتك وعلاقة أقرب الناس إليك مع باقي البشر، من خلال التحكُّم بعلاقات الفصل والوصل بين
الخارج والداخل حسب احتياجاتك ورغباتك. والباب بهذا المعنى كان ولا يزال باباً اجتماعياً أيضاً، فهو الذي يفصل الحيِّز الخاص وكل ما يرتبط به من أفعال وقيم عن الحيِّز العام وكل ما يرتبط به من أفعال وقيم، وهذا يتحدد في كل ثقافة حسب خطوط العمر والجنس وعلاقات القوة وأواصر القرابة بالدم والنَّسَب. هكذا كان الباب وهكذا كانت وظائفه ومعانيه عبر التاريخ. أما الباب الدَّوَّار فينتهك كل هذه المميِّزات وينفي كل ما كان مرتبطاً بالباب من وظائف وقيم في تاريخ البشرية. فالباب الدَّوَّار مُغلق ومفتوح في نفس الوقت، وهو يُخرج ويُدخِل في نفس الوقت، يستقبل ويودِّع في نفس الوقت، يلتهم الناس ويتقيأهم في نفس الوقت. ومن المفارقات أن الباب الدَّوَّار يفصل الداخل عن الخارج بشكل مُطلق وكُلِّيّ الإحكام ولكنه في نفس
الوقت لا يفصل بينهما على الإطلاق، فحركة العبور من خلاله تظل مستمرة بالرغم من كونه مُحكَم الإغلاق، وفي نفس الوقت يظل حيِّز الداخل مفصولاً تماماً عن حيِّز الخارج بالرغم من استمرار حركة العبور من خلاله. ثم إنَّ الباب الدَّوَّار يجب أن يكون شفافاً يمكن الرؤية من خلاله بوضوح، بحيث يستطيع الداخلُ أن يرى الخارجَ وبالعكس، فيلائم كلٌّ منهما حركته لحركة الآخر، ولذا فإنَّ مَن في الداخل يرى مَن في الخارج وبالعكس، ويستطيع الطرفان أن يتواصلا فيما بينهما بالنظر والإيماءة والإشارة ولغة الجسد إنْ لم يكُن بلغة اللسان أيضاً. فالخارج يبقى إذاً على تواصل مع الداخل رغم الفصل الكُلّي المطلق بين أجواء الخارج وأجواء الداخل. ومن باب الافتراض على الأقل، يستطيع المرء أن يخرُج من الباب الدوَّار دون أن يخرُج وأن يدخُل منه دون أن يدخُل، فهو يستطيع أن يخرُج من خلال الباب الدوَّار دون أن ينتهي في الخارج بل يدور مع دوران الباب ويدخل من جديد، ولكن دون أن ينتهي في الداخل بل يدور مع دوران الباب ويخرج من جديد، ثم يدخل دون أن يدخل، ثم يخرج دون أن يخرج، وهكذا إلى ما لا نهاية. وفي هذه الحالة يظل المرء عالقاً بين الخارج والداخل، لا هو في الخارج ولا هو في الداخل وهو في الخارج والداخل في نفس الوقت. وعلى ذلك فإن الشخص الداخلَ إلى مبنًى عن طريق الباب الدوَّار يشعر بالضيق والرهبة وكأنه داخلٌ إلى متاهة مُغلقة، في حين أن الشخص الخارج من مينًى عن طريق باب دوَّار يشعر بالارتياح والانعتاق كأنه خارج من متاهة مغلقة، وذلك على الرغم من أن الداخل يرى ما في الداخل وهو لا يزال في الخارج، وأنَّ الخارج يرى ما في الخارج وهو لا يزال في الداخل. أما إذا دار المرء مع دوران الباب الدوَّار، فإنه يعلق في اللامكان، أو في المراوحة اللانهائية بين الأمكنة. وعليه فإن الباب الدوَّار هو، في رأيي، رمز تجسيدي يكاد يكون إيقونياً لهذا العصر. فهو رمز للفصل الكلي التام بين الحيِّز العام والحيِّز الخاص، ولاختراق كُلٍّ منهما للآخر وانتهاكه له في نفس الوقت. إنه رمز للامحدودية وعدم الحسم… رمز للميوعة والتذبذب، واللفِّ والدوران، وتفضيل التوفير في الطاقة والجهد والمصاريف على توفير الأمان والخصوصية والحرية الذاتية. إنه رمز للحدود التي ليست بحدود، وللمواقف التي ليست بمواقف، وللمبادئ التي ليست بمبادئ، ولتفضيل الحركة والدوران على الثبات والاستقرار. إنه باب للتواصل دون تواصُل، وللانعزال دون انفصال. إنه باب للمؤسسة تقدم الخدمات وليس باباً لبيت يُسكن. إنه باب يدور ويدور، وليس باباً يتحكم بالعلاقة بين ركن الأمن والأمان والخصوصية وبين عالم الشقاء والمخاطر والهموم والضياع. لقد ولدت فكرة الباب الدوَّار في ذهن رجل ألماني من برلين عام 1881، وقد دعاه “باب بدون مجرى للهواء”. وفي عام 1899 رُكِّب أول باب دوَّار في “مطعم ريكتور” في “تايمز سكوير” في مدينة نيو يورك، وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح الباب الدوَّار ظاهرة منتشرة في المباني العامة والمؤسسات الرسمية والبنوك والفنادق والمراكز التجارية في جميع أنحاء العالم. إنني على علم تام بكل الفوائد العملية العظيمة، الاقتصادية والبيئية والأمنية، للباب الدوَّار، ولكني على الرغم من ذلك ما زلت أعتبر الباب الدوَّار رمزاً تجسيدياً لفلسفة حياة، ولعقلية، ولأسلوب تفكير ونمط معيشة. وككثير من الظواهر في هذا العصر، فإن الباب الدوَّار يشكِّل قطيعةً مع الماضي، وخروجاً على الطبيعة، واغتراباً عن الحالة الطبيعية للإنسان باسم التقدُّم والتطوُّر والرفاهية وخدمة المصلحة العامة على حساب القيمة النوعية المعنوية لحياة الإنسان، وهي أمور يتم تعريفها عالمياً (بفعل العولمة) بروح النظام الرأسمالي المبني على استغلال الإنسان للإنسان بأسلوب استهلاكي تنافُسيٍّ لا يعرف الرحمة. كاتب فلسطيني
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
خطاب الداخل
السياسة لعبة المصالح. ليس فيها صداقة أو عداوة دائمة. وخير شاهد على ذلك تبدلت مواقف غالبية دول العالم ذات التأثير في الشأن السوداني. إذ هناك شبه إجماع على دعم الدولة السودانية وإدانة مرتزقة الشتات. جاء ذلك في كلمات مندوبي تلك الدول في جلسة مجلس الأمن الأخيرة بخصوص السودان. ولكن ما يهمنا في المقام الأول ترتيب البيت الداخلي. وهذا ما أشار إليه خطاب السودان في تلك الجلسة. حيث قال: (سنبتدر عملية سياسية شاملة بعد وقف الحرب ولا دور للمليشيا في مستقبل السودان مع التأكيد على الإلتزام بعدم الإفلات من العقاب بحق المنتهكين وسفاكي الدماء). وأضاف أيضا: (الديمقراطية جزء أصيل في الثقافة السودانية وسترون ما سيفعله الشعب السوداني بالارتباط بها وفي تعزيز مساراتها ووحدته الوطنية). وختم قوله: (مطالبا بتفعيل كل ما من شأنه أن يقوي القدرات في الحفاظ على أمن وحماية المدنيين. وأن يتم إعتماد ذلك ضمن الملكية السودانية لصنع السلام. وطالب بتشكيل آلية رصد للانتهاكات وبالأخص اعتداءات مليشيا الدعم السريع والمرتزقة الأجانب). وخلاصة الأمر نؤكد بأن خارطة طريق واضحة المعالم وضعتها الدولة أمام الجميع. إذن على القوى السياسية والحادبة على مصلحة الوطن أن تترفع عن الصغائر والمصالح الذاتية. الأوطان تبنى بتضافر جهود الأبناء المخلصين. كفاية تعنت ومعاكسات. لقد ضاعت منا حتى الآن (٦٩) سنة من عمر الدولة السودانية سدي. وإن لم نغيير من تعاطينا للسياسة وفق المنهجية القديمة. سوف تضيع مثلها أيضا. لتضع تلك القوى نقطة سطر جديد في دفتر حضورها المنهجي. حينها سودان يشار إليه بالبنان.
د. أحمد عيسى محمود
عيساوي
السبت ٢٠٢٤/١٢/٢١
إنضم لقناة النيلين على واتساب