أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
بول يوزف غوبلز (Paul Joseph Goebbels)، سياسي ألماني (1897-1945)، شغل منصب وزير الدعاية النازية في حكومة أدولف هتلر (1889-1945) أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وكان يتمتع بمهاراتٍ خطابيةٍ فائقة وقدراتٍ استثنائيةٍ في تحريك الشارع العام؛ إلا أن خطبه التعبوية افتقرت إلى القيم الأخلاقية، لأنها استندت إلى إحدى مقولاته التأسيسية: "أعطني إعلامًا بلا ضمير، أُعطك شعبًا بلا وعي.

" فلا غرو أنَّ مثل هذا الخطاب الدعائي الفاقد للمصداقية يسود في أوقات الأزمات السياسية والعسكرية، ويصرف العقلاء عن جذور المشكلات الحقيقية، ويفسح المجال لمروجي الدعايات الفاسدة، الذين ينطلقون من مذهبيات مغلقة وذاهلة عن مقاصد الأشياء، فتجد تلك الخطابات ضالتها في البيئات ذات المناسيب العالية من الجهل والأمية. ونتيجة لذلك يبتعد شركاء المصلحة عن القضايا الكلية، التي تحتاج إلى معالجات جذرية-مستدامة، ويصبح الرأي العام منشغلاً بتنميط الآخر تنميطاً سطحياً، قوامه خطاب الكراهية والاصطفاف الحزبي أو القبلي الأعوج.

(2)
يرى الناظر في الساحة السودانية بإمعانٍ وتجردٍ أنَّ أنماط هذا الخطاب التحريضي المختزلة قد ظهرت بجلاء أثناء ثورة ديسمبر 2018، وبعد إسقاط الرئيس عمر البشير في 11 أبريل 2019، وأثناء عملية التفاوض لوضع لبنات الفترة الانتقالية. وقد استشهد البروفيسور محمد الحسن ود لبات بنماذج منها، مثل اتهام بعض قيادات قوى الحرية والتغيير لقادة منظومة الدفاع والأمن (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية) بأنهم و"كلاء للنظام" القديم، وعملاء "يأتمرون بأمر القوي الأجنبية"، و"أعداء حقيقيون للشعب، لا تربطهم به وشائج الدم، وليس لديهم أي شعور بالتعاطف معه. إنَّ الجلوس معهم على طاولة المفاوضات يعتبر خيانة للثورة وإساءة إلى أرواح الشهداء." (السودان على طريق المصالحة، ص 94) وعلى الضفة الأخرى، اتهم بعض العسكريين ومناصريهم قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير بأنها "مجرد حثالة من المرتزقة الأجانب، ومن مدمني المخدرات، ومن المغامرين، يتخذون لبوس الشيوعيين، والناصريين، والبعثيين، والديمقراطيين، والوحدويين، والوسطيين، والمتمردين على الدولة الخارجين على القانون، ومن أحزاب بالية عفا عليها الزمن، ولم يعد لها مكان إلا في متحف التاريخ." وفعلاً قد صدق حدس ود لبات أن الخطاب التحريضي الذي أشار إليه قد قاد البلاد إلى الانزلاق في "مهاوي الفوضى المدمرة." (السودان على طريق المصالحة، ص 95).

(3)
وبعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 زاد الخطاب التحريضي كيل بعير، عندما اختزل المشهد العام في أنَّ الذين يساندون القوات المسلحة وينادون باستمرار الحرب بأنهم "الكيزان" و"فلول" النظام القديم، والذين يرفعون شعار "لا للحرب" بأنهم "القحاتة" وأنصار قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة. وفي وسط هذا الخطاب التضليلي راجت عبارات مختزلة كثيرة، مثل "بل بس" و"جغم بس"، والقضاء على "قيادة دولة 1956"، وأبعاد أبناء الشريط النيلي" من مركز السلطة، وأقصاء "أبناء الغرب" المساندين للدعم السريع من الولايات الشمالية الآمنة. ونتج عن ذلك سلسلة من الصراعات الهامشية والتحالفات الآنية، التي أبعدت الحادبين على مصلحة البلد عن مناقشة جذور الأزمة المزمنة التي قادت إلى الحرب، واقعدتهم عن التصدي للأسئلة الجوهرية: كيف تُوقف الحرب المدمرة؟ وكيف يعوض الذين احتلت قوات الدعم السريع منازلهم ونهبت ممتلكاتهم؟ وكيف تعالج قضايا حقوق المواطنة المتساوية في سودان ما بعد الحرب، وإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والديني، ووحدة الجيش السوداني وإعادة تأهيله، وحل المليشيات العسكرية باختلاف مسمياتها، وتداول السلطة ديمقراطياً، وتحقيق التنمية المتوازنة، ومعالجة مشكلات الفقر والجهل والمرض.

(4)
إلا أن تفشي هذا الخطاب ذي السقوفات المتدنية قد جعل الحلول الممكنة والموضوعية لإيقاف الحرب تتوارى خوفاً من اتهام أصحابها بالخيانة، وغيَّب الرؤى الاستراتيجية الواعية التي يمكن أن تسهم في تقديم أطروحات موضوعية لإعادة بناء دولة سودان ما بعد الحرب، وفق أسس راشدة يتوافق الناس عليها للخروج من نفق الأزمة الراهنة والبحث عن مستقبل أفضل لبنات وأبناء السودان. وهنا يصدق قول الأستاذة لولوة راشد الخاطر، وزيرة الدولة للتعاون الدولي القطرية، في خطابها أثناء انعقاد مؤتمر باريس (15 أبريل 2024): "أنَّ الحل للأزمة السودانيّة لن يكون من خلال استدامة الوضع الحالي، تحت أيّ ذريعة"، كانت، لأن "ترسيخ الوضع الراهن"، يُسهم في "تحويل المجتمع السوداني إلى مجتمع من اللاجئين بدل الإسهام في حل جذور الأزمة ومساعدة الشعب السوداني الشقيق ومؤسسات بلاده في خلق الظروف الملائمة؛ ليتمكن من العيش في وطنه بكرامة." لكن للأسف ابتعد الفاعلون السياسيون عن مناقشة الأطروحات الكبرى، وشغلوا أنفسهم بتصفية خصوماتهم السياسية وخدمة مصالحهم الشخصية الضيقة على حساب المواطن السوداني الضحية. فانشغال هؤلاء السياسيون غير الأخلاقي بالقضايا الهامشية واصطحاب الرأي العام معهم، قد أبعد أهل السودان عن مناقشة مشكلاتهم الأساسية التي أفضت إلى الحرب، وانحطت الممارسة السياسية إلى دركها الأسفل. هداكم الله يا هؤلاء! انتقلوا من مربع الخصومات الشخصية غير المنتجة إلى مربع القضايا الاستراتيجية، المرتبطة بمعالجة مشكلات السودان الأساسية، عل الله يرفع عندكم مناسيب الأمل لطرح الحلول الممكنة لمواجهة أزمة الراهنة، قبل أن يصبح السودان أثراً بعد عين.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذا الخطاب

إقرأ أيضاً:

بيرييلو أوضح لـ”طرف ثالث” أن واشنطن ستبحث مع الجانب السوداني مستقبل قوات الدعم السريع

قالت مصادر رفيعة لـ”الشرق” بإن المبعوث الأمريكي بيرييلو أبلغ طرفا ثالثاً عزم بايدن تكثيف الجهود مع الجانب السوداني للوصول إلى تسوية قبيل مغادرته المكتب البيضاوي في 20 يناير. مصادر رفيعة لـ”الشرق”: بيرييلو نقل لـ”طرف ثالث” رؤية واشنطن بضرورة بحث المسار السياسي. مصادر رفيعة لـ”الشرق”: بيرييلو أوضح لـ”طرف ثالث” أن واشنطن ستبحث مع الجانب السوداني مستقبل قوات الدعم السريع. مصادر رفيعة لـ”الشرق”.. المبعوث الأميركي إلى السودان توم بيرييلو لـ”طرف ثالث”: من الضروري النظر في القضايا الجوهرية كالإصلاح الأمني والعسكري وصولا لقوات مهنية وموحدة ودور الجيش في الانتقال والبناء الدستوري والعدالة وإدارة موارد الدولة. الشرق للأخبار – السودان إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • نص كلمة القائد العام للقوات المسلحة “البرهان” أمام القمة العربية والإسلامية في الرياض
  • “الدعم السريع” يتحدث عن مخطط لتقسيم السودان بعد تغيير العملة
  • هيومن رايتس ووتش: “قوات الدعم السريع” تستهدف المدنيين .. انتشار الهجمات في المنطقة الوسطى يظهر الضرورة العاجلة لحماية المدنيين
  • السودان يطلع خبراء بمجلس الأمن على “انتهاكات” الدعم السريع
  • بيرييلو أوضح لـ”طرف ثالث” أن واشنطن ستبحث مع الجانب السوداني مستقبل قوات الدعم السريع
  • "الدعم السريع" يتحدث عن مخطط لتقسيم السودان بعد تغيير العملة
  • وزير الخارجية السوداني: قوات الدعم السريع شوكة في ظهر الدولة
  • بيان من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” بشأن مجزرة نيالا
  • رئيس البعثة الدبلوماسية الصينية بالخرطوم: الشعب السوداني يقول “النصر لنا” ونرى أن صموده مهم للغاية
  • السودان يكيل إتهامات جديدة لـ “تشاد” بسبب الدعم السريع