د. الشفيع خضر سعيد
1
بدعوة من الاتحاد الأوروبي وحكومتي فرنسا وألمانيا، التأم شمل طيف واسع من السودانيين ضم القيادات السياسية وقيادات المجتمع المدني والأهلي والشخصيات المستقلة في لقاء/سمنار بمقر معهد العالم العربي في باريس، بتاريخ 15 أبريل/نيسان الجاري، متزامنا مع الذكرى السنوية الأولى لارتكاب جريمة الحرب بحق السودان وشعبه، والتي لاتزال تدمر وتحصد الأرواح حتى اللحظة.
اللقاء، أو السمنار، هو الأول من نوعه منذ اندلاع الحرب إذ ضم مجموعات من القوى المدنية ظلت تتخاصم وتتصارع، بل بعضها يرفض مجرد الجلوس مع البعض الآخر منذ فترة ما قبل اندلاع الحرب، ثم تفاقم الخصام والصراع بعد اندلاعها رغم أنهم جميعا يتفقون حول ضرورة وقفها. اللقاء جاء تجسيدا لحلم انتظرناه طويلا، وكان البعض يرى استحالة تحققه على أرض الواقع، بينما البعض الآخر، ومن ضمنهم شخصي، كان يحاجج بأنه سيتحقق ولو متأخرا. فشخصيا ظللت على قناعة لا تتزحزح بأن هذه الأطراف المتصارعة ما دامت تقف على ذات ضفة رفض الحرب، فإن التفكير السليم سيفرض عليها القناعة بأن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهدد الجميع، وأن ما يجمع هذه الأطراف من مصالح في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنها عاجلا أم آجلا لابد أن تلتقي وتعمل بجدية وإخلاص لتمنع انهيار البلاد.
صحيح أن المشاركين في اللقاء لم يأتوا كممثلين للجهات التي ينتمون إليها، ولم يحملوا تفويضا للتحدث باسمها، لكن قطعا أن ما طرحوه من رؤى وحيثيات تعكس وجهة نظر تلك الجهات، خاصة وأن الحضور كان على مستوى الصف القيادي الأول. وفي كل الأحوال، ومنذ البداية، تم الاتفاق على أن اللقاء سيكون بمثابة عصف ذهني ومحاولة لاستكشاف المشتركات وتحديد نقاط التباعد، وأصلا لم تكن هناك أي نية أو توجه لصدور بيان ختامي أو مخرجات بعينها، بإعتباره اللقاء الأول الذي لا يحتمل أي حمولات زائدة، ولكنه قطعا سيدفع الجميع للتفكير في كيفية متابعته وصولا إلى لقاءات رسمية مفوضة لاتخاذ قرارات. بهذا المعنى فإن اللقاء كان ناجحا وأدى غرضه تماما.
اللقاء، أو السمنار، ناقش مجموعة من القضايا الهامة المتعلقة بمسألة الحرب وكيفية إيقافها، وحسب قراءتي الخاصة والذاتية لمجريات نقاش هذه القضايا، والذي شاركت فيه بالطبع، أعتقد بوجود توافق مشترك حول العديد من النقاط، والتي تفتح الباب لمزيد من اللقاءات مستقبلا وصولا للتوافق حول رؤية سودانية لوقف الحرب. هذه النقاط تشمل:
1 ـ الاتفاق على ضرورة وقف الاقتتال وإنهاء الحرب باعتبارها أكبر مهدد وجودي مر على السودان في تاريخه الحديث. وإن العمل من أجل إيقاف الحرب وإنهاء المعاناة الإنسانية الواقعة على كاهل السودانيين مقدمة على أي تفاصيل أخرى.
السودانيون ظلوا مع كل صباح جديد من صباحات الحرب، يتطلعون إلى قواهم وقياداتهم المدنية من أحزاب ومنظمات وصناع الرأي وقيادات المجتمع والزعامات الشعبية والأهلية والروحية، علّ هذه القيادات تستجيب وتنفعل عمليا مع هذا التطلع
2 ـ الاتفاق على إدانة الانتهاكات التي تم ارتكابها خلال الحرب، وبالأخص جرائم القتل الجماعي والتهجير القسري وجرائم الاغتصاب والعنف الجنسي، والتأكيد على ضرورة المحاسبة والمساءلة حول كافة الانتهاكات وعدم الإفلات من العقاب، وضمان تحقيق العدالة للضحايا، وضرورة توفير الحماية للمدنيين حسب مبادئ القانون الدولي وقانون الحرب.
3 ـ ضرورة مخاطبة قضية المجاعة التي تضرب أرجاء السودان، ومناشدة كل الأطراف بالتعامل الجاد مع هذه القضية لما فيه مصلحة شعبنا، وعدم استخدام الوضع الغذائي كأحد أسلحة الحرب، وأن الأولوية القصوى الآن هي لضمان إيصال المساعدات الإنسانية وضمان وجود ممرات آمنة لإيصالها عبر الحدود الدولية وعبر خطوط سيطرة الطرفين. وأيضا مطالبة أطراف المجتمع الدولي بتقديم الدعم الكافي للمستجيبين في الخطوط الأمامية وأعضاء غرف الطوارئ ودعمهم بشكل مباشر وتعريفهم كمتطوعي عون إنساني تشملهم الحماية المتضمنة في الاتفاقات والعهود الدولية.
4 ـ التأكيد على استمرار العمل المشترك بين الأطراف المشاركة في السمنار، وتوسيع دائرته لتشمل كافة الجهات والاطراف الرافضة للحرب والتنسيق بينها.
5 ـ الترحيب بالدور الأممي والإقليمي في وقف القتال مع التشديد على رفض تعدد المنابر والتمسك بالمنبر الواحد.
6 ـ التأكيد على أن إنهاء الأزمة السودانية هو في يد السودانيين في المقام الأول ولا ينبغي أن يكون رهينا لأي تدخلات إقليمية أو دولية.
في نفس التاريخ، ونفس المدينة باريس، لكن في موقعين آخرين تابعين للحكومة الفرنسية والاتحاد الأوروبي، عقد اجتماعان آخران حول الأزمة السودانية، أيضا بدعوة مشتركة من الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا، لم تشارك فيهما أي من أطراف القوى المدنية السودانية المشاركة في السمنار، واقتصر حضورهما على وزراء خارجية الدول ذات العلاقة بالشأن السوداني وممثلين من هذه الدول، من أمريكا وأوروبا والدول العربية والدول الأفريقية، بالإضافة إلى ممثلين عن المنظمات الأممية والإقليمية. وحسب البيانات والتصريحات الصادرة عن الاجتماع الأول فإن الغرض منه هو التشاور حول مبادرات وقف الحرب في السودان، والخروج بموقف مشترك يزيد من فعالية هذه المبادرات ويعجل بوقف الحرب. أما الاجتماع الثاني فكان بغرض تقديم مساهمات مالية وتوفير الدعم المالي لسد احتياج السودان للمعونات الإنسانية، حيث التزمت كل دولة بتقديم مبلغ معين، وبلغت جملة المساهمات أكثر من 2 مليار دولار. دعيت القوى المدنية السودانية لحضور مخاطبة الرئيس الفرنسي للجلسة الختامية، وبعد ذلك التقاها الرئيس لمدة ساعة في جلسة ترحيب.
في عدة مقالات سابقة، كررت القول بأن السودانيين ظلوا مع كل صباح جديد من صباحات الحرب، يتطلعون إلى قواهم وقياداتهم المدنية من أحزاب ومنظمات وصناع الرأي وقيادات المجتمع والزعامات الشعبية والأهلية والروحية، علّ هذه القيادات تستجيب وتنفعل عمليا مع هذا التطلع، فتضاعف من جهودها للتنسيق فيما بينها وتتوافق حول رؤية موحدة لكيفية إسكات البنادق وبسط السلام. وسمنار القوى المدنية في باريس، سواء في جلسات النقاش الرسمية أو النقاشات الجانبية، أكد على إمكانية تحقيق هذا الهدف. والأمر الجوهري الآن هو أن نلتقط الإشارات الإيجابية التي أرسلها السمنار.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى المدنیة
إقرأ أيضاً:
مواقف الإمارات ومحنة السودان
منذ تفجر الصراع الدامي في السودان، كان لدولة الإمارات مواقفها الواضحة والصريحة، التي لا تحتمل التشويه وتزييف الحقائق، والشاهد على ذلك دعواتها المتكررة إلى نبذ العنف، وحقن دماء أبناء البلد الواحد، والعمل مع الشركاء الإقليميين والمجتمع الدولي لإيجاد حل سلمي، فيما لم تتوقف أذرعها الإنسانية عن تقديم المساعدات الإغاثية لتخفيف تداعيات الحرب المدمرة على الشرائح المتضررة، ولا سيما ملايين المهجرين والنازحين، وأغلبهم نساء وأطفال ومرضى.
هذه الحرب الملعونة، كانت قاسية على الشعب السوداني الشقيق، وشهدت فظائع وجرائم حرب ارتكبها طرفا النزاع، القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، وكثير من هذه الجرائم والانتهاكات مرتبط بالقوات المسلحة، وهي فظائع تستوجب المساءلة ضمن أطر القانون الدولي، وندّدت دولة الإمارات بهذه التجاوزات، وحثت على حماية المدنيين ومحاسبة الذين أجرموا من أي جهة كانت، وذلك ضمن موقفها المحايد والمساند لتطلعات الشعب السوداني في الأمن والسلام، وفي مستقبل لا يكون فيه دور للطرفين المتحاربين اللذين جلبا على السودان أسوأ حرب تكاد تنسف وجود هذا البلد العربي، وتلقي به في مهاوي التجزئة، والتقسيم والحروب الأهلية.
من المؤسف أن مواقف دولة الإمارات لم ترُقْ إلى بعض الأطراف، وخصوصاً القوات المسلحة السودانية، التي ما فتئت تناور وتصطنع المعارك الوهمية، لصرف الانتباه عن دورها ومسؤوليتها عن الفظائع واسعة النطاق في هذه الحرب. وبدل تحمل المسؤولية والاعتراف بالأخطاء، تحاول أن تتنصل من كل ذلك، ولم تجد من سبيل إلا إطلاق ادعاءات حاقدة ضد دولة الإمارات دون أي سند واقعي أو قانوني، ومحاولة استغلال بعض المنابر الدولية للترويج لاتهامات زائفة تحاول عبثاً تشويه دور الإمارات، وعلاقتها التاريخية بالشعب السوداني، الذي يعيش عدد كبير من أبنائه معززين مكرّمين داخل الدولة وكأنهم في بلدهم الأم.
ما تريده دولة الإمارات وتأمله صدقاً، أن تنتهي هذه الحرب الخبيثة، من أجل حماية ما تبقى من موارد للسودان والتصدي للكارثة الإنسانية الهائلة، وهذه المهمة لن تكون سهلة في ظل تعقيدات المشهد الداخلي، وتفكك المؤسسات وضعف الوحدة الوطنية، التي تضررت كثيراً بفعل الصراع العبثي على السلطة. وإعادة البناء والنهوض الناجحة تتطلب قوى سياسة مدنية مسؤولة تعبر عن تطلعات السودانيين، ولم تتورط في سفك دماء الأبرياء سعياً إلى تحقيق مصالح ضيقة.
كما تتطلب أيضاً توافقاً إقليمياً ودولياً، من شروطه الالتزام بالحوار والحل السلمي نهجاً لإنهاء الأزمات، واحترام حقوق الإنسان، ومحاسبة كل من ساهم في جرائم القتل الجماعي للسكان، هذه الشروط ضرورية وحاسمة في إعادة بناء الدول التي تمر بحروب أهلية مريرة.
مستقبل السودان لا يأتي معلباً من الخارج، بل يصنعه أبناؤه إذا توفرت لهم الإرادة، وتوافقوا على حسن إدارة بلد كبير وواسع الخيرات، كان إلى وقت قريب يوصف بسلة غذاء العالم العربي، ولكنه اليوم تعصف به المجاعات، ويعاني الملايين من أبنائه من سوء تغذية، وأمراض ذات علاقة بنقص الغذاء. ومن هنا يكون الدرس والعبرة، والسودان عليه أن ينهض وينفض عنه غبار الحرب ويتحرّر من ميليشيات النهب والفساد، ويطوي صفحات الصراعات الدامية والأنظمة العسكرية إلى غير رجعة.