بين الإنسان الرقمي السفيه، وإنسان سورة الرحمن
تاريخ النشر: 22nd, April 2024 GMT
ليس من التهويل القول؛ إن العالم يعيش أزمة حادة، أزمة قيم وأخلاق تنذر بالدمار والانهيار. فبينما يقف عاجزًا عن إقرار السلم ومنع الإبادة ونصرة الضعيف ولجم القوي، وبينما تتمادى شركات التكنولوجيا العظمى في التنافس من أجل الاستحواذ على عقل الإنسان، والتحكم في عواطفه وذاكرته، يجد العاقل اللبيب نفسه في حيرة، عاجزًا عن تَبيُّن المعنى وراء حركات وسكنات النخب السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية التي يناط بها تحسين أوضاع العالم والسهر على شؤون العالمين.
لا جدال في أن أحوال العالم اليوم تورث الإنسان العاقل قلقًا كبيرًا. ولعل مصدر هذا القلق هو شعور دفين بوجود علاقة تلازم بين الفساد الأخلاقي ونهاية العمران، وهو شعور يكرّسه، في المقام الأول، اعتقاد ديني راسخ في أن الله لا محالة سيدمّر الحضارة متى ما قطعت صلاتها بالأخلاق والقيم العظمى؛ كما يزكّيه الوعي التاريخي بما آلت إليه الحضارات السابقة من أفول بعد تنكرها لهذه الأخلاق والقيم.
تَروج في الكتابات الألمانية والنقاشات داخل ألمانيا عبارة تقول: «أوضاع تشبه أوضاع روما القديمة» (Zustände wie im alten Rom)، وهي عبارة يُتلفَّظ بها أمام مظاهر غير مقبولة من الناحية الأخلاقية، للدلالة على أن في هذه المظاهر ما يؤشر على انهيار حضاري وشيك، يذكر بانهيار روما في الماضي.
بل إن من الكتابات من يذهب إلى حد أبعد، إلى درجة الربط بين الفساد والترف والكوارث الطبيعية. هذا ما يفهم من رواية «بومبي» (Pompeii) لـِ«روبيرت هاريس» (Robert Harris) التي هي، مثل باقي رواياته، محاولة للنظر في التاريخ نظر اعتبار وتفكر. حيث لا يَسَع قارئ «بومبي» إلا أن يربط بين انفجار البركان الذي حوَّل المدينة إلى أثر بعد عين، والبشر إلى حجر، وبين فساد أعيان المدينة الأخلاقي.
تجابهنا كتابات كثيرة يعبر أصحابها عن قلق مقيم بين معاصرينا، منشؤُه الخوف من أن تتفاقم أوضاع العالم اليوم لتؤول إلى كوارث بيئية، أو حروب نووية، أو أوبئة فتاكة، أو تمرد الآلات التكنولوجية على الإنسان. فما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى طرح السؤال الذي طرحه من قبلنا عدد من المفكرين والأدباء والعلماء: «إلى أين نحن ذاهبون؟»، أو «كم من الوقت نحتاج حتى ندرك أننا ضللنا الطريق؟».
أمام تكدّر صفو العالم اليوم تجد الإنسان حيرانَ، يطلب المعنى من عوالم التواصل الاجتماعي الافتراضية، فلا يزيده انغماسه في هذه العوالم إلا تيهًا وضلالًا. وهذا ما يبعث على الاعتقاد بأن الأدوات التكنولوجية المستعملة في تسهيل التواصل بين الناس وتكثيفه وتسريع وتيرته غير قادرة على توصيل المعاني الكبرى التي يسترشد بها هذا الإنسان في الوجود وفي الكون.
يوضّح الباحث «ميشل ديميرغي» (Michel Desmurget) في كتابه القيم عن «صناعة الإنسان الرقمي السفيه، أو التافه» (La Fabrique du crétin digital)، مدى خطورة الشاشات على الأطفال، أي على إنسان الغد. نفهم من دراسته العلمية القيمة أن أنماط التشابك مع العوالم الرقمية اليوم تورث النفس الإنسانية من القلق، أكثر مما تورثها من السكينة، وتورث العقل الإنساني من الغموض، أكثر مما تورثه من الوضوح.
إن مبتغى «ميشل ديميرغي» من وراء هذه الدراسة هو صياغة دعوى مفادها أنّ الصنفين من الإنسان، اللذين تبشر بهما التكنولوجيا اليوم، أي «إنسان التواصل» (Homo mediaticus) و «الإنسان الرقمي» (Homo numericos) هما أقرب إلى الغفلة منهما إلى اليقظة، إذا لم يزدهما صبيب الصور المتدفق أمام العين تَيْهًا فلن يزيدهما إرشادًا. نستنتج من هذه الدراسة أن لمنظومة التواصل التكنولوجية وللرقْمنة آثارًا سيئة على نفوس وعقول الأجيال الصاعدة.
تدفعنا الدراسة العلمية التي أجراها «ميشل ديميرغي» إلى التفكير في طبيعة هذه الأصناف من البشر: هل هي أصناف ترتقي بالإنسان درجات في سُلم الإنسانية، نحو الكمال، أم تنحدر به دركات في هذا السلم؟ عند التأمل، نجد أن منظومة التواصل التي أرست قواعدها التكنولوجيات الذكية تجلب آفات ومضرات كثيرة. منها أنها تهدم المعنى الذي يقوم عليه التواصل أساسًا.
إذا كان الأصل في التواصل أنه تفاعل، أي توصيل وتوصُّل، فإن المنظومة التواصلية التكنولوجية تخرجه من هذا التفاعل، لتدفع به في اتجاه أن يكون مجرد فعل تَوصيل. إن امتلاك الأداة التكنولوجية يجعل الإنسان يتوهّم من نفسه القدرة على توصيل محتواه إلى العالمين؛ ومن كان منطلقه هذا الضرب من الشعور الواهم، فهو لا ينتظر أن يتوصّل بمحتوى، بقدر ما هو يستجدي الإعجاب فقط، ذلك أنه يستحيل أن يتواصل الفرد الواحد مع عدد لا يحصى من الأفراد. قد يتواصل الزعيم السياسي أو الواعظ الديني، أو الفنان المبدع مع الجماعة في الفضاء العمومي التقليدي، لكن أن يتواصل الفرد العادي مع عدد كبير من الأفراد تواصلًا بمعنى التفاعل، فهذا من قبيل المستحيل.
لقد حوّلت المنظومة التواصلية التكنولوجية مجال التواصل إلى فضاء لإثبات وجود الذات. لذلك نجابه في هذا الفضاء بأفراد يطلبون التميز بتقاسم محتويات غريبة تبلغ بهم مرتبة الشذوذ؛ كأن يتقاسم الإنسان صوره الحية وهو يطوف بالكعبة، أو أن يعرض صور الأطباق التي يأكل، أو ما شابه ذلك من المشاهد التي لا تعكس سوى رغبة في تحقيق الذات وإثبات الوجود.
هذا حين يكون الفرد المتواصل في وضع المُوَصِّل، أما حين يكون في وضع الْمُوَصَّلِ إليه، الذي يتلقى عددًا لا حصر له من محتويات الآخرين، ففي هذه الحالة يكتفي بتقليب الصفحات وتسجيل الإعجاب وهو عاجز عن التفاعل مع كل المحتويات تفاعل المتواصل الذي يأخذ ليعطي، ويسمع ليتكلم، ويتَوصّل بمعنى ليُوصِّل معنى. لقد حولت منظومة التواصل التكنولوجية التواصل إلى مجرد بحث عن سبل التأثير، فبرزت إلى السطح فئة «المؤثرين»، من يطلبون الاستحواذ على أوقات الآخرين وعقولهم وعواطفهم.
ومع هذا الوضع تزيد الأفهام ضلالًا، ويزيد الإنسان تيهًا في الوجود الأصيل الطبيعي الفطري. بقدر ما يتوهم «إنسان التواصل» أن بمقدوره التواصل مع العالمين، يتوهم «الإنسان الرقمي» كذلك أن سرعة الأدوات الرقمية تزيده سرعة في استيعاب ما يحصل عبر العالم؛ والحاصل أنه أعجز ما يكون عن معالجة ما يصله من معلومات لا ينضب صبيبها. فهو لا يستوعب من هذه المعلومات إلا ما يريده الساهرون على المنظومة التواصلية استيعابه.
الإنسان الرقمي أم الإنسان البيانيولقد وجدتني، وأنا أقلب النظر في مظاهر عجز «إنسان التواصل» و «الإنسان الرقمي» عن إدراك المعاني العظمى في الوجود، أفكر في «الإنسان البياني»، هذا الكائن الذي يتحدث عنه القرآن الكريم قائلًا: «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان». تخبرنا هذه الآية الكريمة أن الله – سبحانه وتعالى – قد أودع خاصية البيان في الإنسان، والبيان هو القدرة على التَبْيين والتَبَيّنُ، مثله مثل التواصل الذي معناه القدرة على التوصيل والتوصَّل.
غير أن قراءة باقي آيات سورة الرحمن تجلي لنا أن البيان المقصود يستقل بمعانيه عن معاني التواصل كما هي مقرّرة في سياقنا اليوم. بعد الإشارة إلى خاصية البيان التي وهبها الله للإنسان، تأتي الآيات الأخرى لتذكر بأنّ «الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان». وفي هذا التّذكير ما يفيد بأن البيان المقصود غير منفصل عن النظر في ظواهر الكون الطبيعية، هذه الظواهر التي تجلي دقة في تقدير العلاقة بين الشمس والقمر وسجود النجم والشجر وارتفاع السماء.
نستشعر من هذه الآيات أن الكائن البياني كائن غير مقطوع الصلة بالكون، بل كائن يَتَبَيّن مكانته في هذا العالم الشاسع المعطى، قبل أن يُبيِّن لغيره. فالكائن البياني، على عكس الكائن التواصلي والكائن الرقمي المذكورين، لا يصدر في طلبه التفاعل، أي التبيين والتبين، من عوالم نفسية مستغلقة على الكون الفسيح، فضاء الوجود الطبيعي. لا يصدر عن الهوية النفسية- الاجتماعية الضيقة (psycho-social) التي يعتبرها علماء النفس مصدر كل الأمراض والعقد؛ بل يصدر عن هوية كونية- شعرية (cosmo-poetic) منفتحة، متفاعلة مع الكون واللغة.
يقول ابن الرومي في أحد أبياته:
ولقد سئمت مآربي فكأن أطيبها خبيث إلا الحديث فإنه مثل اسمه أبدًا حديث
ما أحوجنا اليوم – ونحن نرزح تحت وطأة منظومة تواصلية رقمية تساهم في تشظي المعاني العظمى المرتبطة بالوجود الأصيل، وتحد من آفاق إدراكنا للأبعاد الكبرى – إلى ضرب من الأحاديث تحدث شعورنا بهذا الوجود، عوض أن تلقي بنا في عوالم نفسية ضيقة ومبهمة.
فلعل من يجلس تحت شجرة لساعات وهو يتأمل في أصل كلمة واحدة أو كلمتين، أو يقرأ بيتًا من الشعر أو بيتين، أو يصغي إلى الصمت من حوله، لعل هذا الكائن أعمق فهمًا وإدراكًا من غيره من يقضي يومًا وهو يقلب صفحات الفضاءات التواصلية الرقمية بحثًا عن معانٍ لا تُدْرَك.
ليس من التهويل القول؛ إن المنظومات التعليمية والتربوية الواقعة اليوم تحت تأثير أيديولوجيا التواصل التكنولوجي والرقمي ماضية في قطع صلات الإنسان بالإنسان، وقطع صلات الإنسان بالطبيعة. نحن نبتعد عن التعليم بوصفه علامات تدل المُتعَلِّم على العالم، مكان الوجود الطبيعي، ونتجه باتجاه منظومة تعليمية تحجب المتعلم عن النظر في العالم الحقيقي لتزجّ به في عوالم افتراضية وواقع مبرمج مدمج.
إن انسياق المنظومة التعليمية والتربوية وراء مد المنظومة التكنولوجية الجارف يبشر بعهد جديد، عهد كائنات تواصلية رقمية نصفها إنسان ونصفها الآخر آلة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الإنسان الرقمی منظومة التواصل فی هذا
إقرأ أيضاً:
المفكر الكبير نصار عبد الله لـ«البوابة نيوز»: تطور الأمم مرهون بتقدمها في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية وليست التكنولوجية فقط.. والموقف المصري من قضية غزة شجاع وبطولي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
موضوعات عدة، ما بين الظروف السياسية والشئون الخارجية وما يحيط بمنطقة الشرق الأوسط، وشبح الحروب المخيمة على المنطقة، وأثر دخولنا لمرحلة الذكاء الاصطناعي الفائق، والعقبات والمشاكل التى تعرقل تطلعات وطموحات العقل العربى الفعال، تحدث الدكتور نصار عبدالله، أستاذ الفلسفة السياسية إلى جريدة «البوابة نيوز»، محللًا الكثير من القضايا برؤية فلسفية متأنية.. وكان لا بد أن يتناول فى حديثه أبعاد الذكريات الرمضانية التى ترتبط بأيام الشهر الفضيل.
يُعد د. نصار عبدالله، نموذجًا فريدًا للمفكر الذي يجمع بين عمق التحليل الفلسفي وجمالية التعبير الأدبي. وتجلى هذا فى مسيرته الأكاديمية والشعرية، تناول فى مؤلفاته الفلسفية قضايا جوهرية تتقاطع مع الفلسفة السياسية، مثل: مسألة الحرب العادلة، وطبيعة العدل الاجتماعي، والعلاقة الجدلية بين القانون الوضعى والأخلاقي، بالإضافة إلى استكشاف العلاقة المعقدة بين الفلسفة والأدب، من خلال هذه القضايا، كما حاول تفكيك المفاهيم التقليدية وإعادة بنائها فى ضوء رؤية فلسفية متكاملة. وفى الموازاة عبَّر عن رؤاه وتأملاته من خلال دواوين شعرية مثل "قلبى طفل ضال"، و"أحزان الأزمنة الأولى"، و"سألت وجهه الجميل"، و"ما زلت أقول"، وغيرها، ما يعكس قدرته على تجسيد الأفكار الفلسفية فى قالب أدبى مؤثر.
ولد "عبدالله" فى البداري بأسيوط، وشهدت مسيرته الأكاديمية مزيجًا فريدًا بين العلوم السياسية والفلسفية والقانونية. تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام ١٩٦٦، فى فترة تاريخية اتسمت بتحولات سياسية وفكرية عميقة، وصراعات تحيط بمصر من دول استعمارية كبرى، فى هذا السياق التاريخي، اتخذ "عبدالله" قرارًا جوهريًا بالتوجه نحو دراسة الفلسفة فى كلية الآداب، حيث تخرج فيها عام ١٩٧١. ومن ثمَّ وسع آفاقه المعرفية بدراسة الحقوق، قبل أن يعود إلى رحاب الفلسفة ليكمل دراسته العليا ويحصل على درجتى الماجستير والدكتوراه، ويستقر أستاذًا للفلسفة السياسية فى كلية الآداب جامعة سوهاج، تعكس هذه المسيرة الأكاديمية المتميزة رؤية فلسفية متكاملة، خاصة وأنه سعى إلى فهم العلاقة الجدلية بين التاريخ والفكر، وبين النظرية والتطبيق. فهو لم يكتفِ بدراسة العلوم السياسية فى سياقها التاريخي، كما حاول تعميق فهمه للواقع السياسى من خلال العدسات الفلسفية والقانونية.
نصار عبدالله: للصيام حكمة تتمثل فى تحمل الإنسان الشدة والضيق بإرادته قبل أن تُفرض عليهالذكريات الرمضانيةحدثنا د. نصار حول بعض الذكريات الرمضانية، وخاصة بعض سلوكيات الأهالي قديمًا فى رمضان، أو سلوكيات الأطفال فى الشهر الكريم.. قائلًا: فى طفولتي كان الإفطار والسحور جماعيًا، العائلة الكبيرة تجتمع فى المندرة، وتخرج صوانى للمندرة من البيت وتحتشد حولها الجموع والمفطرين، وليس أصحاب الصينية فقط، وإنما دعوة عامة لكل عابر سبيل يتصادف وجوده، وهو منظر بهيج افتقدناه، منظر الصوانى وهى تخرج من البيت فى المغربية منظر بهيج وجميل.
ومن ذكريات الطفولة أيضًا: لحظة انتظار آذان المغرب ونحن أطفال، لم يكن هناك صوت مدفع، وننتظر صوت المؤذن، وساعتها تنطلق الأغانى الطفولية "افطر يا صايم على الكشك العايم".
وأضاف أن للصوم حكمة يجب أن يشعر بها الإنسان، وهى فى رأيه "أن الحياة لا تقدم لك ما تريده وعليك أن تمتنع عما هو متاح لك حتى تتعرض لظرف به من الضيق والشدة رغمًا عنك، وعليك أن تعيش الضيق والشدة بقرار منك قبل أن تأتى لحظة ويُفرض عليك هذا الضيق وهذه الشدة".
نصار عبدالله: الحروب تقدم عقلى وتكنولوجى أكثر منه حروب عتاد وأفرادحروب عصر الذكاء الاصطناعى الفائقتناول الحديث مع الدكتور نصار عبدالله التحديات الجديدة التى فرضها عصر التقنية وعصر الذكاء الاصطناعى الفائق، وبدوره رأى أنه "من الممكن أن نطلق عليها حروب من الجيل الخامس أو السادس، بمعنى أنها حروب جيل ما بعد الأجيال التقليدية للحروب، فهى تعتمد بشكل أساسى ورئيسى على التكنولوجيا المتقدمة جدا".
وبحسب "عبدالله" فإن النظرة للجيوش والأسلحة التقليدية سوف تتغير بالضرورة، و"لن يكون للأفراد نفس الدور الذى كان لهم فيما مضى، لأن دور الأعداد يتقلص لحساب مستوى التقدم العقلي، فالحروب تقدم عقلى وتكنولوجى أكثر منه حروب عتاد وأفراد، فأى كان عدد الأفراد من الممكن أن يطيح بهم سلاح يحركه فرد واحد، بدون مجهود".
رأى أستاذ الفلسفة السياسية أن تطور أدوات الحروب يصب فى دمار البشرية، قائلًا: "لو ألقينا نظرة على وسائل الحرب من بداية ظاهرة الحرب، سنلاحظ استخدام الحجارة والعصي، وقدرتها على الفتك محدودة جدًا، فمهما تكاثرت الأعداد كم من القتلى سوف يسقط؟ فالأسلحة تتمثل فى الحجارة المدببة وقدرتها على الفتك محدودة، لكن اختراع البارود والأعيرة النارية يُعد ثورة، لأن أعداد القتلى تزيد، وقدرتها على الفتك كبيرة جدًا. ومع ظهور القنبلة النووية، لم يكن أحد يتصور أن قنبلة واحدة تستطيع أن تقضى على ١٠٠ ألف إنسان، ومبانٍ ومنشآت مدينة بالكامل، وتعتبر قنبلة هيروشيما قزمة بالنسبة للأجيال المتطورة من الأسلحة النووية، وعند مقارنة الأسلحة النووية نجد الفارق يشبه الفارق بين السهم والمدفع، والنتيجة إن أسلحة التدمير أصبحت مروعة وباتت تهدد بفناء الإنسانية فناءً حقيقيًا.
أسلحة التدمير مروعة وتهدد بفناء الإنسانية.. وقوة الردع تعطل نشاط أسلحة الدمار نتيجة الخوف المتبادل بين الدولخطر فناء البشريةوفى تنبيه عام، حذَّر المفكر الكبير من اتجاه البشرية للفناء الحقيقى نتيجة تطور أسلحة الدمار، وتوسع الدول فى امتلاكها دون تعقل أو مسئولية أخلاقية، وبسؤاله: هل هذا يؤكد وجهة نظر الفريق القائل بأن تطور وتقدم البشرية يؤكد أننا نتجه ناحية دمار وهلاك البشرية؟.
أجاب "عبدالله" بأن التطور يُلقى مسئولية أكثر على الدول التى تمتلك هذه الأسلحة، وتتوسع فى تطويرها، ويجعلها أكثر حذرًا من استخدامها للأسلحة التقليدية، هناك خوف متبادل من الردع المتبادل بين الدول.
وشرح المسألة بقوله: إن هذا الردع المتبادل لم يكن موجودًا زمن الأسلحة التقليدية.. الآن باتت الدول تمتلك أسلحة مخيفة ورادعة، ويجب أن تكون مسئولة وحذرة قبل استخدامها، لأن مفهوم الحرب تغير، ولن تكون النتيجة إيذاء فى مقابل إيذاء، بل ستكون هلاك وإزالة فى مقابل هلاك وإزالة، حاليًا فإن الغواصات النووية قادرة على إبادة دول العالم، عندما تتعرض دولها لضربة معينة ستقوم هى بضربة مضادة، وهذا يجعلها قوة رادعة، ويجعلها أسلحة موقوفة الاستخدام، نتيجة للخوف المتبادل.
أكد "عبدالله" فى حديثه أن دولة الاحتلال الإسرائيلى تحتاج لأن تبنى الدول العربية قوة ردع، لأن الردع هو الذى يحفظ السلام ويفرض الشروط، مشيدًا بالموقف المصرى الشجاع فى عرقلتها لخطط دولة الاحتلال الرامية لتهجير الفلسطينيين بمساعدة دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وقال: يؤسفني أن أقول إن الفارق التكنولوجي بين الدول العربية وبين إسرائيل اتسع جدًا لدرجة أنه لا يوجد رادع حقيقى لأى طرف من الدول التى يعنيها الحق والعدل، ولو وجدت دولة تملك رادع حقيقي ضد إسرائيل لتغيرت المعادلة مع إسرائيل تمامًا.
وتساءل بدوره: ماذا لو كانت إيران مثلًا تمتلك سلاحًا نوويًا مثلما فعلتها باكستان فى غفلة من الزمن، حين باغتت العالم ذات يوم بتفجير نووي، ولم يكن العالم يتوقع أنها ستنجح فى ذلك، فماذا لو نجحت إيران فى ذلك؟ ربما تغيرت نقاط عدة فى المعادلة مع إسرائيل.
وهنا، عند الحديث عن تطور قدرات إيران النووية، كان سؤالنا: أليس امتلاك إيران لسلاح نووى يُعد تهديدًا للعرب ولمنطقة الشرق الأوسط؟. أجاب "عبدالله" بالإيجاب: بالطبع هى تهديد للمنطقة، ولكن أنظر لها بوصفها عدوًا لإسرائيل، والمعنى أنه من المفروض أن يكون هناك طرف يلزم إسرائيل بأن تستجيب للاتفاقيات والمطالب.
شجاعة الموقف المصريوصف المفكر الكبير نصار عبدالله الموقف المصري بالشجاع والحكيم، قائلًا: لا أحد يشك فى الموقف المصري، والمصريون جميعًا من أعلى مستوى لأدنى مستوى يتألمون لما يحدث فى فلسطين، ويدركون عواقب ما يمكن أن يحدث لو أقدموا على المغامرة، لأنها ستكون خسارة كبيرة للفلسطينيين أنفسهم، لذلك أنا أثنى على الموقف المصرى وأراه حكيمًا جدًا، وأكثر البدائل حكمة فى ظل المعادلة الصعبة التى نعيشها الآن. وأكد أن عدم سماح مصر بتهجير الفلسطينيين، هو موقف شجاع امتلكته مصر، وفيه تنتصر مصر، لأنه لا أحد يملك أن يجبرها على غير ذلك.
تطور الأمم مرهون بتقدمها فى مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية وليست التكنولوجية فقطضرورة الفلسفة فى عصر القوةشدد نصار عبدالله على ضرورة الفلسفة فى عصر القوة، وعصر تطور الذكاء الاصطناعي، وأين يكمن دورها، مؤكدًا أنه من الخطأ الكبير تجاهل دور الفلسفة فى النهضة والتقدم.
وبحسب حديثه، فإن الاهتمام العام فى التعليم ينطلق من مفهوم خطأ وهو قلة الاهتمام بالدراسات الإنسانية عمومًا، بما فيها الفلسفة، حتى كانت هناك دعوة لإلغاء أقسام الفلسفة، وترتب عليه انخفاض شديد فى عدد الدارسين لها، ولاحظ عدد الطلبة الذين يدرسون فى قسم الفلسفة ستجدهم قرابة ١٠ طلبة فى الدفعة، وهى ظاهرة على مستوى الجامعات، وهو شكل من أشكال الانبهار الأعمى بالنموذج الغربي، وتجاهل مخيف لإيجابيات النموذج، ومن الكارثة تصور أن العالم الغربى تطور بالتكنولوجيا فقط، وأغفل الدراسات الاجتماعية، هذا تصور خاطئ، فالدراسات الإنسانية لها دور أساسى جدا، والولايات المتحدة من الدول المتطورة تكنولوجيًا وبها العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية، التى تضم عددًا من الأساتذة المتخصصين فى الفلسفة السياسية، يساهمون فى رسم خطوط السياسية الأمريكية، ويضعون بدائل القرار الممكنة أمام رئيس الدولة، أى أن صاحب القرار لا يمكنه أن يستغنى عن مراكز الدراسات الاستراتيجية.
ولفت "عبدالله" إلى أن هناك فرعين من فروع الفلسفة على الأقل، وثيقى الصلة بنبض الحياة، أولهما فلسفة العلم، ومناهج البحث العلمي، لا يمكن الاستغناء عنه لأنه ضرورى لتطور العلم، وثانيهما علم الفلسفة السياسية، الذى يضع القيم والمحددات النهائية لأى دولة تسعى لتحقيقها، ويضعها أساتذة الفلسفة السياسية، وبهذا تظل الفلسفة تمارس دورها، وهذه الحقيقة غائبة عن واضع السياسية التعليمية وصانع القرار التعليمي، ويظن أن العالم يتقدم بالتكنولوجيا وبالتالى نلغى العلوم الإنسانية.
جزء ما من حياة الإنسان داخلي يريد أن يشبعه وجدانيًامعضلة الدين والفلسفة.. ما الحل؟لا يرى د. نصار عبدالله أن ما يثار من مشاكل بشأن الفلسفة والدين هى أزمات معقدة، ويعتقد أنها حدثت فى الماضى لأنها أحيطت بملابسات تاريخية وسياسية أسهمت فى خلق المشكلة.
وفى رأيه، أنها معضلة تحل نفسها مع الزمن، وهى مشكلة لها جوانب سياسية، ومع التطور السياسى ومع ظهور قيادات سياسية لها رؤية شاملة تدرك أبعاد كل فروع المعرفة، سوف تستعيد الفلسفة دورها وهى جديرة به فى ضوء وظيفتها المعاصرة، بوصفها خادمًا للعلم والسياسة، فالتقدم السياسى العام يحل المشكلة بشكل تلقائي.
وقال: أعتقد أن مشكل الدين مع الفلسفة أو مع الإلحاد مثلًا كان مرهونًا بشروط وظروف تاريخية معينة، ومنها أن مكونًا ما حاول أن يكون صاحب السلطة السياسية العليا، وأعتقد أنه مع التقدم السياسى لم تعد هذه المناطحة من جانب المشتغلين بالدين واردة، وهل تعلم أن العالم به نحو ٥٠ أو ٦٠ ديانة مختلفة، ومن الممكن أن تسميها ديانات كبرى، وكل دين يؤمن بأنه الدين الصحيح، وتتفاوت الديانات فى أعداد تابعيها، ولا يمكن أن نقول أن ديانة تمتلك نصف مليون مؤمن هى أقل قيمة من ديانة يتبعها نحو أكثر من مليار إنسان مثل الديانة الهندوكية.
وأوضح أنه فى النهاية يظل جزء ما من حياة الإنسان داخلي، يريد أن يشبعه وجدانيًا، أيًا كان شكله أو بصمته فى الحياة، وأيًا كان نفوذه فى مجرى الأحداث اليومية، نسميه بالعقيدة، أيًا كانت هذه العقيدة.
نصار عبدالله: المشاريع الفلسفية غير قابلة للاستنساخ لأن المشاريع الفكرية تتطور وتتخلق تبعًا للمرحلة الزمنيةاستعادة مشاريع قديمة أم انتاج جديدبسؤاله حول أهمية الدعوات الخاصة بشأن استعادة المشاريع الفلسفية القديمة مثل مشروع ابن رشد التنويري، هل مثل هذه الدعوات مفيدة وفاعلة؟، أجاب قائلًا: فى ظنى لا شيء قابل للاستنساخ، المشاريع الفلسفية غير قابلة للاستنساخ لأن المشاريع الفكرية تتطور وتتخلق تبعًا للمرحلة الزمنية، وتنمو كما ينمو الجسد بشكل مرحلي، خلية وراء خلية إلى أن يتكامل، إنما لا يكفى إعادة إنتاج مشروع فكرى ماضوي.
وقال "عبدالله": أظن أن الابتعاد عن الأسلوب العلمى فى التفكير سبب وجيه لتخلف العقل العربي، وإن غياب التفكير العلمى مؤسف حتى أنه وصل لفئة وظيفتها العلم والتعليم، فتجد إنسانًا يمارس العلم فى معمله بينما لا يترجم هذا لسلوك فى أرض الواقع، ومن المفروض أنه لا انفصام بين ما نؤمن به كعلم وبين ما نمارسه فى الواقع، وعلى الجيل المؤمن بالتفكير العلمى أن يغرس ذلك فى الجيل اللاحق.
الصفحة الأولىحوار المفكر الكبير د. نصار عبدالله