لا شك أن أول ما كان يخطر في ذهن أي سياسي إسرائيلي عند إنشاء دولة الاحتلال كان الحلم بدولة صافية خالية من أية عناصر أخرى قد تخل بفكرة كون هذه الأرض وطنًا خالصًا للشعب اليهودي، وهو ما قامت عليه الدعاية التي أطلقتها الحركة الصهيونية خلال فترة التحضير لإقامة الدولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). هذا هو الأساس الذي قامت عليه عمليات التطهير العرقي التي نفذتها إسرائيل عشية النكبة، وتحدث عنها غير واحد من المؤرخين -حتى الإسرائيليين- كإيلان بابيه وغيره.
إلا أن التجربة أثبتت أن حلم الدولة الخالصة لا يعيش إلا في مخيلة أصحاب هذا الحلم فقط، ذلك أن الشعب الفلسطيني لم يختفِ من فلسطين ولم يتمكن الاحتلال الإسرائيلي من إزالته من الوجود أو تغييبه طوال 75 عامًا، وهذا ما يعيه كبار الساسة والمحللون والمفكرون الإسرائيليون.
إسرائيل في البداية عملت على محاولة استبعاد أكبر كمية ممكنة من المقدسيين من المدينة خلال حرب النكسة التي كانت تأمل فيها طرد الفلسطينيين إلى دول الجوار كما جرى في النكبة عام 1948، لتفاجأ ببقاء السكان في أراضيهم والتزامهم بعدم المغادرة
لعل هذا هو المنطلق الذي خرجت منه دعوات التعايش مع هذا الشعب ومحاولة احتوائه بعد فشل فكرة إزالته من الوجود، التي حملها تيار اليسار الإسرائيلي على مدى العقود الماضية، ليعود الأمر اليوم لنقطة حرجة مع صعود اليمين المتطرف بأفكاره الدينية المتطرفة. على أن فكرة احتواء الشعب الفلسطيني لا تزال موجودة وفعالة لدى أجهزة الدولة الإسرائيلية رغم سيطرة اليمين المتطرف على مفاصل الحكم في الحكومة الإسرائيلية، ولا يتوقع أن تزول هذه الرؤية قريبًا، خاصةً أن المؤسسة العسكرية والأمنية هي التي تحمل حاليا هذه الفكرة، وهي ما تشكل ما يمكن أن نسميه "الدولة العميقة" في إسرائيل.
الأمر نفسه ينطبق على واقع مدينة القدس؛ فإسرائيل التي أشعلت حرب عام 1967 وسيطرت على شرقي القدس بالكامل في تلك المرحلة، كانت تفكر جديا بداية في تغيير الطابع الديموغرافي في المدينة وطرد المقدسيين نهائيا منها عبر إعلانها ضم الأرض من دون السكان، واعتبار المقدسيين أجانب مقيمين في المدينة المقدسة مؤقتًا بسبب الظروف السياسية.
منذ ذلك الوقت، عملت إسرائيل في البداية على محاولة استبعاد أكبر كمية ممكنة من المقدسيين من المدينة ابتداءً خلال حرب النكسة التي كانت تأمل فيها طرد الفلسطينيين إلى دول الجوار كما جرى في النكبة عام 1948، لتفاجأ ببقاء السكان في أراضيهم والتزامهم بعدم المغادرة، مرورا بهدم أحياء كاملة وتهجير سكانها بالقوة كما جرى في حارة المغاربة عام 1967، وليس انتهاءً بسن قوانين الإقامة المعقدة في المدينة المقدسة، التي هدفت منها إسرائيل إلى إشعار الفلسطيني بأنه غريب في مدينة القدس ولا ينتمي لها بحال، وبالتالي دفعه إلى المغادرة بحثًا عن الهدوء.
المقدسيون زادت أعدادهم بدل أن تقل وزادت نسبتهم في القدس مقارنة باليهود (رويترز)كان واضحًا منذ البداية فشل هذه الاتجاهات الثلاثة التي عملت عليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؛ فالمقدسيون زادت أعدادهم بدل أن تقل، وزادت نسبتهم في القدس مقارنة باليهود بدل أن تنخفض، مما دعا إسرائيل إلى إطلاق إستراتيجيتها المتمثلة في الحرص على ألا تزداد نسبة السكان الفلسطينيين في القدس، أي وقف الزيادة فقط، بعد الفشل في خفضها على المستوى العددي.
لكن أكبر ما واجهته إسرائيل من نتائج لسياساتها في القدس كان تحويل المقدسيين إلى طعنة في خاصرة الدولة، فهم ليسوا مواطنين فيها، ولا ينتمون إليها لا قانونًا ولا حكمًا، وهم مضطهدون في مدينتهم لا يشعرون بأن حياتهم فيها طبيعية بحالٍ من الأحوال، والاحتلال الذي يعيشونه يختلف في شكله عن الاحتلال العسكري المباشر في مناطق الضفة الغربية حولهم، ويختلف عما عليه الأحوال لدى فلسطينيي الخط الأخضر الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويعتبرون -رغما عنهم- مواطنين في هذه الدولة.
في الوقت نفسه، فإن كون المقدسيين يعيشون في القدس ويحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية الزرقاء (رغم كونهم غير مواطنين في هذه الدولة)، يجعلهم يتمتعون بحرية الحركة بين الضفة الغربية ومناطق الخط الأخضر، وهو ما جعل استعداءهم واضطهادهم على مدار العقود الطويلة الماضية يأتي لإسرائيل بنتائج أقل ما يقال عنها إنها كارثية؛ فمن السذاجة أن يتوقع الساسة في دولة الاحتلال أن يعاملهم المقدسيون معاملة خاصة، أو ينظروا إليهم نظرة الانتماء أو حتى "الجيرة"، بينما يُمنَعون من البناء والتوسع في بيوتهم، وتُهدَم بيوتهم يوميا أمام أعينهم، ويُحرَمون من أقل حقوقهم البشرية في التنقل بحرية في مدينتهم والانتماء إليها كما كانوا على مدى آلاف السنين.
لعل أغرب ما تفتقت عنه الذهنية الإسرائيلية المتعجرفة في هذا الصدد هو ظن ساسة الاحتلال ومنظريه أن بإمكانهم الآن بعد عشرات السنين من الاضطهاد أن يقوموا بعملية "غسيل دماغ" سريعة للمقدسيين، حيث بدأت منذ فترة قصيرة تظهر بعض المظاهر التي تحاول من خلالها الحكومة الإسرائيلية "احتواء" المقدسيين وإجراء عملية "تطبيع" معهم.
فقد بدأت سلطات الاحتلال محاولة تخفيف إجراءات المراجعات الحكومية التي كانت على الدوام مصدر إرهاقٍ للمقدسيين، مثل عمليات وزارة الداخلية الإسرائيلية ومعاملات مؤسسة التأمين الوطني وغيرها، التي كانت إلى زمنٍ قريبٍ تعد مصدر تعبٍ وإرهاقٍ شديد للمقدسيين، فقد كان مجرد دخول مبنى وزارة الداخلية الإسرائيلية لإجراء أية معاملات تتعلق بالمقدسيين (مثل تجديد الهوية المقدسية أو تسجيل الأولاد أو غير ذلك) يعد إنجازا يتم التخطيط له على مدى أيام وربما أسابيع، وكان ذلك يتطلب من المقدسي الوقوف في صفوف طويلةٍ طوال الليل أمام بوابات مكاتب وزارة داخلية الاحتلال ليتمكن من الدخول، ليتغير ذلك كله حاليا وتصبح العملية ميسرة وسهلة نسبيا.
ثم يأتي إعلان سلطات الاحتلال مؤخرا تخصيص 450 مليون شيكل (نحو 126 مليون دولار) سنويا لتمويل منح دراسية للطلبة المقدسيين في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية. وهذا الإعلان -للمفارقة- يثير جدلا حاليا داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها، حيث يرفضه وزير المالية الإسرائيلية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش عن تيار الصهيونية الدينية، ويتعرض بسبب رفضه إلى ضغوط من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية -وعلى رأسها الشاباك- للموافقة على البرنامج وعدم شطبه من الميزانية، بدعوى أهميته في "أسرلة التعليم" في القدس و"تخفيف محفزات العنف" في المدينة من المجتمع المقدسي.
ويدل هذا التوجه على أن سلطات الاحتلال -في شقها الأمني على الأقل- تعلم أن خطط التخلص من المقدسيين وإلغاء وجودهم تماما من القدس باءت بالفشل، وأن أملها الآن معقود على تغيير عقلية المقدسيين وغسل أدمغتهم وتطبيع العلاقات معهم.
على أن نظرة سريعة فاحصة لهذا التوجه تبين فشله كذلك، فحتى الآن لا يستطيع رئيس بلدية الاحتلال في القدس فرض نفسه على المقدسيين رغم كافة محاولاته، وآخر الأمثلة على ذلك ما حدث في مجمع مول "الدار" التجاري في القدس، حين حضر رئيس البلدية لافتتاح محل في المجمع بالتنسيق مع مالك المجمع، ليعلن المقدسيون رفضهم هذه الخطوة، وتتفاعل القضية على أعلى المستويات في القدس وخارجها، لدرجة سكب المقدسيين الزيت أمام باب المجمع للتعبير عن رفضهم التطبيع مع بلدية الاحتلال، ومقاطعتهم هذا الافتتاح والقائمين عليه من المطبعين مع البلدية الإسرائيلية.
لا شك أن هذه المحاولات الإسرائيلية لاحتواء المقدسيين وتغيير طبيعتهم ستبوء بالفشل كذلك، فإسرائيل التي تحاول التقرب الآن من المقدسيين ببعض إجراءاتٍ تخفيفية وإغداقِ بعض المال والمنح والزيارات البروتوكولية هنا وهناك تغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن المجتمع المقدسي يراقب ولا ينسى.
فإسرائيل التي تحمل الجزرة للمقدسيين تحمل العصا كذلك، وهي تحرص على أن تعامل المقدسيين في هذه العمليات بأسلوب "المقدسي المهذب" و"المقدسي غير المهذب"؛ فتحتفي بالمطبعين معها الذي يعتبرون أنفسهم "مواطنين" في إسرائيل رغم أنهم ليسوا كذلك حتى في نظر القانون الإسرائيلي نفسه، وفي نفس الوقت تخترع إجراءات في غاية الشدة والعنجهية للتعامل مع أي شخص يرفع صوته ضد الاحتلال، سواء بالمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك، أو بالسجن، أو بالمنع من الحق في السفر، أو حتى بالإبعاد عن مدينة القدس كلها، ولا زالت سياسة هدم المنازل وتسليم بعضها للمستوطنين تسير كما هي من دون تغيير، بل تزداد فعليا.
ما تغفل عنه إسرائيل هنا هو أن المجتمع المقدسي مجتمع صغير، فأصحاب البيت الذي تهدمه بلدية الاحتلال لهم أقرباء من الدرجة الأولى تحاول إسرائيل استقطابهم بمنحةٍ دراسيةٍ هنا أو بحفلٍ صغيرٍ هناك.
والشاب الذي تعتقله أو تقتله سلطات الاحتلال له أقرباء وأصدقاء، ويكفي المقدسي أن يسير في شوارع القدس نصف ساعة لينهار أمام عينيه نموذج "الدولة اللطيفة" التي تحاول إسرائيل إقناعه بوجوده، عندما يرى المستوطنين يعتدون عليه، أو يتعرض للتفتيش والمضايقة أو دفع غرامة كبيرة من دون سبب، أو يرى بيتا يهدم بالطريقة العنيفة التي نشهدها يوميا في شوارع القدس؛ وهو الأمر الذي يحتم في النهاية على إسرائيل أن تعلم أنه لا مستقبل لمشروعها في القدس، ولا أفق له لا بالعنف ولا بالقوة، ولا حتى بالتطبيع.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: سلطات الاحتلال فی المدینة التی کانت فی القدس على أن
إقرأ أيضاً:
إضافة 600 قبر جديد بالمقبرة العسكرية الإسرائيلية في القدس
قالت وزارة "الأمن" الإسرائيلية إنها تستعد لتوسيع المقبرة العسكرية في "جبل هرتسل" في مدينة القدس وفق ما أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي.
اقرأ ايضاًعاجل: مقتل 7 جنود إسرائيليين جنوب لبنان.. وانفجارات في حيفا والجليلوبيّنت وزارة الأمن أنّه ستتمّ إضافة 600 قبر جديد لدفن جنود الاحتلال، وأنّ هذا القرار يأتي في ظلّ التوترات المتصاعدة والحاجة المتزايدة لتوفير مساحات كافية لدفن القتلى من أفراد "الجيش".
ونقلت إذاعة "الجيش"، عن وزارة الدفاع بأنها ستقوم بتحويل مساحة تبلغ نحو 7.7 دونمات من منطقة "جبل هرتسل" لصالح المقبرة العسكرية، مع تأكيدها أنه "من المتوقّع أن تكتمل أعمال التوسعة قريباً لتلبية احتياجات الجيش المتزايدة".
وكان الجيش الإسرائيلي أعلن مساء أمس الأربعاء مقتل 6 عسكريين بينهم ضابط برتبة رائد في معركة بجنوب لبنان.
وبمقتل العسكريين الستة بجنوب لبنان، ارتفعت الحصيلة المعلنة لقتلى الجيش الإسرائيلي منذ بداية حرب الإبادة في غزة منذ 7 تشرين الأول 2023، إلى 792 ضابطا وجنديا، بينهم 373 قُتلوا منذ بدء الاجتياح البري للقطاع في 27 من الشهر نفسه، وفق معطيات الجيش الإسرائيلي، وإصابة 5334 ضابطا وجنديا إسرائيليا، من ضمنهم 2424 منذ اجتياح غزة.
إذاعة الجيش الإسرائيلي: الجيش سيضيف 600 قبر جديد للجنود في المقبرة العسكرية بجبل هرتسل في #القدس. #إسرائيل pic.twitter.com/xUhtvY5s8H
— Daily. (@Daily_Events_) November 14, 2024
المصدر: وكالات
© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com)
محرر البوابةيتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة
الأحدثترند إضافة 600 قبر جديد بالمقبرة العسكرية الإسرائيلية في القدس الدفاع الروسية: مقتل 32500 جندي أوكراني منذ الهجوم على كورسك طرح الجزء الـ4 من Bridget Jones Diary .. وصدمة بعد وفاة "مارك دارسي" 4 آلاف عنصر أمني لتأمين مباراة فرنسا و"إسرائيل".. أجواء مشحونة في باريس شاهد: شهداء وجرحى إثر غارات عنيفة على دمشق Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTubeاشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن
© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter