في خان يونس.. قصص مؤلمة عن قتل إسرائيل للأبناء وإخفاء جثثهم
تاريخ النشر: 22nd, April 2024 GMT
غزة- في 24 يناير/كانون الثاني الماضي، علم فؤاد العتّال باستشهاد شقيقه علاء برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونقْله إلى مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
حاول الشاب أن ينقل جثمان أخيه إلى المقبرة، لكن الأوضاع الأمنية الخطرة في خان يونس حالت دون ذلك، حيث كانت قوات الاحتلال تجتاح المحافظة وتعيث فيها قتلا وتخريبا.
قرر العتّال أن يدفن شقيقه في مقبرة أقامها المواطنون داخل المستشفى، فكتب اسمه على الكفن الأبيض، واختار مكانا يجاور شجرة نخيل، وحفر قبرا وغطى فتحته بباب خشبي بدلا عن البلاطات الحجرية المخصصة لذلك، قبل أن يواريه الثرى، ثم وضع حجرين كشاهد للقبر.
وبعد انسحاب قوات الاحتلال من خان يونس، عاد العتّال لزيارة قبر أخيه تمهيدا لنقله إلى مقبرة المدينة لكنه لم يجده، وحتى النخلة التي كان يميّز القبر بها كان الاحتلال قد اقتلعها، ومنذ أسبوعين، يأتي العتّال مع والدته نوال كل يوم بحثا عن جثة أخيه دون جدوى.
يشرح قائد مهمة استخراج الشهداء في مستشفى ناصر الرائد "رائد صقر" حقيقة ما جرى، موضحا أن الفلسطينيين الذين حوصروا داخل مجمع ناصر الطبي على مدى أشهر من العملية البرية التي شنها الجيش الإسرائيلي في خان يونس منذ بداية ديسمبر/كانون الأول 2023 وحتى 7 أبريل/نيسان الجاري، اضطروا خلالها لإقامة العديد من المقابر العشوائية في ساحاته لدفن الشهداء والموتى من المرضى.
لكن الاحتلال أقدم على نبش تلك المقابر، وجمّع الجثث بواسطة جرافات، ودفنها في مقبرة جماعية بطريقة هجمية، حيث كدس الجثث بعضها فوق بعض، ثم هال عليها التراب، مما تسبب في فقدان الجثامين وعدم قدرة الأهالي على العثور عليها، وذكر صقر -في حديثه للجزيرة نت- أن الاحتلال دفن في المقبرة ذاتها الكثير ممن أقدم على إعدامهم ميدانيا.
ولاحقا، قال جهاز الدفاع المدني في بيان إنه انتشل من المقبرة الجماعية 210 جثث منذ يوم الجمعة الماضي، بينها 60 جثة يوم الأحد، وقال الناطق باسم الدفاع المدني الرائد محمود بصل إن ما تم الكشف عنه في ناصر يضاف لسلسلة طويلة من جرائم الاحتلال.
وأوضح محمود بصل للجزيرة نت أن فقدان جثث الفلسطينيين يحدث إما بإخفائها كما حصل في مستشفى ناصر، وإما "بتبخرها واختفائها بسبب صواريخ الاحتلال"، مضيفا "هذا حصل معي حينما تم استهدافي وكان معي 3 أشخاص، اختفوا ولم يبقَ منهم أي أثر"، ويتساءل "هل إسرائيل تستخدم مواد وصواريخ معينة تؤدي لتبخر الجثث؟ هذا سؤال أطرحه على الجهات الدولية المختصة للتحقيق في هذا الموضوع".
بدا المشهد في مقبرة مستشفى ناصر مأساويا، حيث يتجمع آباء وأمهات وأشقاء بحثا عن ذويهم، في حين يضرب عمال الأرض بفؤوسهم بحثا عن الجثث، وبين الفينة والأخرى، يعثر العمال بين أكوام الرمال على جثة تكون غالبا ملفوفة بكيس أسود، لتبدأ رحلة التعرف على هوية الجثة من قبل الأهالي، وهي مهمة شاقة نظرا لتحلل الجثث وعدم ارتداء بعضها الملابس.
ولا ييأس الأهالي من التنقل من جثة إلى أخرى باحثين عن علامة مميزة قد تقودهم إلى التعرف على أبنائهم كملابسهم أو علامة خاصة في أجسادهم، لكن خيبة الأمل لاحقت الكثير من العائلات، حيث لم يتمكنوا من التعرف على جثامين أولادهم.
يقول نمر الراس، أحد سكان خان يونس، للجزيرة نت إنه يأتي للمقبرة منذ 3 أيام للبحث عن شقيقه الأصغر أحمد، الذي استشهد بعد إصابته بصاروخ أطلقته طائرة مسيّرة، وتمت مواراته الثرى في مقبرة مستشفى ناصر المستحدثة، لكنه يضيف "لم نجده حتى الآن".
ورغم مرور 10 أيام كاملة على وجودها في المكان، لم تفقد والدة الشهيد محمد زيدان الأمل في العثور على جثمان ابنها الذي استشهد يوم 22 يناير/كانون الثاني الماضي، وتقول "بعد انسحاب جيش الاحتلال توجهت للمكان الذي أخبروني بدفنه فيه، لكن لم أجد جثته"، وتضيف "الحمد لله، لم أفقد الأمل، وسأواصل البحث عن جثمان ابني".
أما أم محمد البيّوك فلا تعلم إن كان ابنها حيا أو ميتا منذ خروجه من المنزل في السادس من فبراير/شباط الماضي، لكنها تميل للاعتقاد بأنه استشهد بعد أن أخبرها أحد الأشخاص أن الاحتلال قتله على باب مستشفى ناصر بثلاث رصاصات في بطنه، ومنذ أن علمت بنبأ المقبرة الجماعية سارعت للحضور، على أمل أن تعثر على جثمان ابنها، لكنها لا تزال تبحث عنه حتى الآن.
ويتنقل يوسف مَلَكة بين أرجاء المقبرة طالبا من العمال الكشف عن وجوه الجثامين والاطلاع على ملابسهم عله يعثر بينها على جثة والده المفقود منذ 31 يناير/كانون الثاني الماضي، والذي يعتقد أنه قتل على يد قناصة الاحتلال الذين كانوا يعتلون البنايات في ذلك الوقت، ليعلو صوته أمام إحدى الجثث بعد أن رفض أحد العمال فتح كفنها، لكنه عاد للصمت لاحقا بعد أن علم أن الجثة محروقة بالكامل.
وبينما مُنيت عائلات بخيبات أمل، حالف الحظ أخرى عثرت على جثث أبنائها، ومن هؤلاء أكرم مطير وزوجته، حيث يقول إن ابنه فريد وابن خاله حسن قداس كانا يعملان على "توكتوك" (عربة)، واغتالهما جيش الاحتلال يوم 11 فبراير/شباط الماضي عند بوابة مستشفى ناصر، وتم دفنهما داخله.
ومنذ ذلك التاريخ يبحث أكرم وأسرته عن الشابين دون جدوى، وحينما علم من بعض الجيران نبأ الكشف عن المقبرة، وصل مع زوجته إلى المكان ليجد أن العمال قد عثروا على جثمانيهما، ويقول "الحمد لله لقيت ابني وابن خاله، وإن شاء الله ربنا يكرمنا ويكرمه، الحمد لله، الله يصبرنا، والله يعيننا".
أما زوجته فقد امتزجت فرحة العثور على جثمان ابنها وابن شقيقها بتجدد آلام الفقد، وتقول للجزيرة نت "لم أنم ليلا ولا نهارا وأنا أبحث عنهما حتى أدفنهما، ويكون لهما قبران وأزورهما، وعندما جئنا وجدنا أهل الخير أخرجوهما".
وكانت فرحة فاطمة حماد منقوصة، حيث عثر رجال الدفاع المدني على 3 جثامين لأقاربها، لكن جثمان ابنها سعيد ما زال مفقودا منذ أن استشهد في الأول من فبراير/شباط الماضي، ودفنته قوات الاحتلال في قبر جماعي، وتقول للجزيرة نت "الناس تحاول إخراج أولادها لدفنهم وتكفينهم وفق الشريعة الإسلامية، أخرجنا 3 من أولادنا، وباقي ابني سعيد".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات قوات الاحتلال مستشفى ناصر جثمان ابنها للجزیرة نت على جثمان فی مقبرة خان یونس
إقرأ أيضاً:
هنا والآن .. في بيـروت «1»
هنا والآن، أسجل أنني في بيروت. لأول مرة في العمر، لأول مرةٍ في التاريخ، تاريخي الشخصي على الأقل. دون أن تخلو دهشة اللقاء الأول من إحساس دخيلٍ بالعودة، وكأن المسافر الزائر قد عاد. هل عدتُ حقًا؟ زرقةُ الأبيض المتوسط من نافذة الطائرة ليست جديدة تمامًا عليّ، وهذه ملاحظة أولى.
تبهط السيارة في ليل ماطر بلا كهرباء، على الطريق المعتم من مطار رفيق الحريري إلى الحازمية. بنايات شبحية مهجورة، وأشباح بنايات لم تعد موجودة. ليل ومطر. ورائحة حرب طازجة. أستعين بصوت محمود درويش على أرق الانتظار: «يا فجر بيروت الطويلا/ عجِّل قليلا» حتى يولد الضوءُ الأول الذي سيغسل المدينةَ رويدًا رويدًا من بقايا الليل على زجاج نافذة الفندق. أريد أن أرى الهواء، كي أتحقق من بيروت المتخيلة التي حملتها معي لسنوات. هل تشبه هذه المدينة صورتها حقًا؟ آن لي أن أحرر هذه المدينة من مخيلتي. آن لي أن أتحرر منها داخلًا فيها هذا الصباح وهي تخرج لتوها من الحرب والمطر.
هدنة صغيرة كان صوت فيروز المنبعث مع رائحة القهوة، يعبر الأحزاب ويطوف الطوائف، ويدخل إليه الجميع سواسية في مقهى يدعى «تحت الشجرة»، مركون بأناقة كصدفة تنتظر من يعثر عليها في شارع الحمرا. دلفتُ إلى الداخل لاجئًا من البرد القارس في صباح مبلل بالمطر الخفيف. وبلا ميعاد سألتقي هناك بغسَّان أبو ستة، طبيب الجرح الفلسطيني كما وصفته الصحافة العربية خلال حرب الإبادة على غزة. أسحب كرسيًا وأشاركه الطاولة، فأفتح الحديث معه بسؤاله عن زيارته الأخيرة إلى مسقط. تكلمنا أكثر عن معنى الحرب حين تعاش عن قرب، عن لون الدم ورائحته، وعن ملمس الجروح والحروق. لم يفتني أن أسأله عن التهديد المهني الذي يتعرض له من قبل مؤسسات دولية تتهمه بدعم الإرهاب ومعاداة السامية. قال لي إنه يواجه كل ذلك بالعودة للمقارنة بين آلامه وآلام الناس، معتمدًا على بيت توفيق زيَّاد: «فمأساتي التي أحيا/ نصيبي من مآسيكم». ذكَّرته قبل أن أغادر بمقالٍ كتبته منذ مدةٍ عنه: «الجرح الفلسطيني.. بين غسَّان أبو ستة ومحمود درويش». أدهشَته هذه المقاربة، وطلب مني أن أبعث له بالمقال. ثم أوصاني ألا أغادر بيروت قبل أن أزور مقبرة الشهداء التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية قرب مخيم صبرا وشاتيلا.
في مقبرة الشهداء تعرَّفت إلى آدم، وكان آدم حكاية أخرى. شاب فلسطيني من مواليد مخيمات لبنان، ويعيش مع عائلته في غرفة حارس المقبرة. هنا كبر آدم، في غرفة صغيرة داخل المقبرة. عاش طفولته مع أبيه الموظف في حركة فتح حارسًا لقبور الشهداء. ينام آدم في الليل على بعد أمتار من ضريح شهداء مجزرة تل الزعتر، في المقبرة ذاتها التي ينام فيها غسان كنفاني إلى جوار ابنة أخته لميس، وقريبًا من قبور الشهداء الثلاثة أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان، وقبر شفيق الحوت، ومؤخرًا قبر شهيد كتائب عز الدين القاسم، صالح العاروري، الذي دُفن هنا بعد أن اغتاله العدو الإسرائيلي في الضاحية مطلع يناير من العام الماضي. لا يكاد آدم يغادر المقبرة إلا في النهار الرسمي، حين يذهب للجامعة الأمريكية حيث يدرس الهندسة الميكانيكية. سألته بم تحلم في الليل؟ ما شعورك وأنت تقضي حياتك هنا حارسًا لقبور الشهداء؟ فردَّ لي ابتسامةً حائرة وحزينة: «عادي... شي حلو»! تركته في المقبرة ووعدته بزيارة أخرى حين أعود للبنان.
يغريني المشي على غير هدى في بيروت. صدفةٌ تقودني إلى صدفة أخرى فتخطفني قصة جديدة. يمشي الناس حاملين قصصهم معهم. لكن قصص الناس هنا وآلامهم تتباين على نحو صاعق. كل شخص يمشي على الرصيف يحمل قصة جديدة وغريبة لا تشبه قصص الآخرين. يفتح لك سيرته كمن يفتح سردابًا غير متوقع في هذه المدينة غير المتوقعة. عزيز، الشاب السوري حامل الجنسية الكندية، الذي تعرفت إليه صدفة في المطعم، أكد لي ذلك. قال: خذني أنا مثلًا. أعمل وأعيش في كندا، لكنني ولدتُ في إدلب. استقرت عائلتي هنا هربًا من الحرب. تعددت هويَّاتي لكنني أصرُّ: «بيروت مدينتي»!. وأخبرني صراحةً أنه يكره شعارات المقاومة ويتمنى أن تُطبِّع سوريا ولبنان قريبًا مع إسرائيل.
وأنا في بيروت، أحاول أن أتعلم شيئًا واحدًا فقط: أن أبقى على الحياد. ما أصعب أن أمشي في شوارعها وحيدًا على طريقة السوَّاح الأجانب العابرين وسط جدال الناس وحرب الشعارات فوق الجدران. ضدكم كلكم أنا- أنا معكم كلكم! لكن- عبثًا يحاول المرء البقاء على الحياد في هذه المدينة التي تغلي منذ تاريخها الحديث بالفتنة. وحده صوتُ فيروز المحايد والملكية العامة والبيان السياسي للبنانيين كلهم من أجل لبنان لا طائفي. هل صحيح أن بيروت مدينةٌ لا تعرف الحياد كما كتب أحد صحفييها المغدورين، سمير قصير، قبل أكثر من عشرين سنة، قبل اغتياله بقليل؟ يكفي فقط أن تكون موجودًا في بيروت، وفي هذا التوقيت بالذات، ليكون وجودك فيها بحد ذاته إعلان انحياز. فكيف إذا أخبرتَ سائق سيارة الأجرة بأنك تنزل في فندق بالحازمية، الواقعة على تخوم ضاحيتها الجنوبية؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني