للتغيرات المناخية آثارها المباشرة وغير المباشرة قريبة وبعيدة المدى؛ إيجابية ولو بعد حين، وسلبية إن أتى ضررها أثرا مباشرا لا يمكن إنكاره (ولا ينبغي إنكاره إذ انها كارثة طبيعية قد يعاني منها أي مجتمع وأي دولة مهما بلغت من حسن التصرف)، لكن الغيب في دائرة علم الله ويقينه رغم كل تطور وسائل العلم الحديث استقراءً لأجهزة الرصد وظروف المناخ المتتابعة والتي تأثر بها العالم أجمع دون استثناء مع اختلاف الظروف، ومع مستجدات الأوضاع المناخية في المنطقة العربية تأثرت بلادنا بمنخفض «المطير» الذي غادرنا بكثيرِ أسىً جرَّاء وفياتٍ أوجعت القلوب وأبكت المقل، وأضرارٍ شتى ما زالت الجهات المعنية والأهالي معا يتابعون آثارها في محاولة مخلصة لمعالجة تبعاتها عن المواطنين والمقيمين في كل أرجاء البلاد .
رغم تكرار «سيناريو» التحذيرات والمغامرات ورصد الآثار السلبية لتهور بعض المواطنين بإلقاء أنفسهم وتعريض غيرهم للتهلكة إلا أنها مشاهد ما زالت تتكرر للأسف وكأن هؤلاء في مبارزة مع الطبيعة التي لا يمكن لأي طاقة بشرية إخضاعها أو تطويعها بمجرد التهور والمغامرة، مجازفات مستمرة وحوادث معادة كان من الممكن تلافيها لو أننا أحسنا الإصغاء وأجدنا التجاوب، ولعل من إيجابيات الأنواء المناخية غير المباشرة ما اكتسبه الأفراد والمؤسسات من خبرات في التعامل مع المخاطر، والسعي لتقليص الحد الأعلى من أضرارها على المجتمع بكل مكوناته، ثناء مستحق في هذا السياق لكل المعنيين والمشتغلين المخلصين بالأرصاد الجوية، الدفاع المدني، الشرطة، البلديات، والإعلام لجهودهم المبذولة قبل وأثناء وبعد الأنواء الجوية .
لا يمكن استنكار انفعال الناس وتفاعلهم العاطفي مع كوارث الأنواء المناخية، وليس هذا بغريب على كل المجتمعات وكل الدول، فلا ينبغي السعي لتحجيم هذا الانفعال أو تقييده حرصا على ما قد يُظن بأنه تأثير على سمعة المكان وقدرة مسؤوليه على إدارة الأزمات، أو التعاطي مع الظروف الطارئة، لكن لا ينبغي استغلال ذلك فيما يجترح صدق الموقف وتوثيق الجهود، ثم اعترافنا جميعا بحتمية القضاء والقدر أولا، ثم اعترافنا بالفضل بيننا في شكر كل مستحق للشكر، ومتابعة كل مقصر أو مخطئ أو متهاون بأرواح الناس ومصالحهم.
لا يمكن إنكار افتقار بعض المسؤولين لمهارات التواصل مع الجمهور رغم كل ما مضى من أزمات سابقة وتحديات كبرى، وتكرار ضرورة العناية بالتصريحات وبيانات الجهات الرسمية أثناء الأزمات والقضايا المجتمعية الآنية الحساسة تجنبا لاستفزاز الناس واستثارة غضب الجماهير في سعي لاسترضاء المسؤول أو تثبيت المنفعة الشخصية.
مجتمعاتنا العربية ما زالت تعيش تكتلات شعبية عاطفية تستثار انفعاليا بمتغيرات الحياة وصعوبات الواقع اليومي وتحديات الوقت، لكن هذا ليس واقعا سلبيا بالضرورة؛ إذ يمكن توظيف هذه الحقيقة في التركيز على خطاب الجماهير الذي يتسم بالذكاء العاطفي القادر على امتصاص احتقان اللحظة وانفعال المشهد بسخاء عاطفي يسعى للمشاركة العاطفية مجتمعيا قبل الإجراءات الرسمية والتعويضات المادية، ومن قليل معرفة بالذكاء العاطفي فإن ما يمكن بناؤه بشكل تفاعلي مدهش عبر الكلمة يمكن كذلك خسارته وبناء تداعياته تراكميا عبر الكلمة، فما أحرى بالمسؤول اليوم -أيا كانت جهته التي يمثلها- بدراسة الواقع والتدرب على أساليب مخاطبة الجمهور دون إقصاء أو تهميش، وتحمل مسؤولياته دون ادعاءات مثالية أو تنصّل جليّ.
منخفض «المطير» عبر ولمّا تعبر آثاره بعد، وتفيدنا مراكز الأرصاد الوطنية والدولية بمنخفض آخر قادم بين يومي الثلاثاء والخميس من هذا الأسبوع لتستمر التحذيرات وتتكثف الاستعدادات، وبين المنخفضين لا نملك إلا الإشادة بكل مشاهد التكافل المجتمعي الذي تعودناه بين أبناء هذا الوطن المحب السخي، وما سخاء مواطنيه إلا مرآة لسخاء أرضهم وطيب معدنها، هنا لا بد من التذكير بأن تصيّد الأخطاء أثناء ما قد نمر به جميعا من أنواء استثنائية طارئة ليس من المروءة بمكان، كما أن التنصل من الواجب ومسؤولياته متمثلة في رعاية الأرواح والعناية بممتلكات الأفراد ومقدرات الوطن ليس من المروءة كذلك، وبين المروءتين لا بد من أدوات لتعزيز قيم أخلاقية متوارثة عريقة، ومتابعة ومحاسبة كل مقصر مستهين بأثر العمل المخلص والكلمة الطيبة في صنع الفرق، وتحويل مسارات الاحتقان والغضب إلى سبل شتى من التعاون والتكامل، والعطاء المتبادل النبيل، حفظ الله بلادنا وإنسانها الأغلى وأرضها الأسخى من كل سوء وكل ضرر.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا یمکن
إقرأ أيضاً:
قمح «هاتور» يبحث عن الذهب المنثور.. كيف تواجه السنابل الذهبية تأثير التغيرات المناخية؟
فالقمح بالنسبة للمواطن هو الأمن الغذائى الذى يستمده من رغيف (العيش)، لذلك تجده منتبها لكل جملة يأتى فيها ذكر للقمح، وهو نفس الأمر للمزارع الذى بات يتابع خرائط الطقس وموجات الحر والصقيع والأصناف التى تواجه التغيرات المناخية والتى يعد القمح وغيره من المحاصيل إحدى ضحاياها إذا لم ننتبه إلى كيفية المواجهة والتكيّف مع هذه التغيرات بأصناف تقاوم الظروف وتعطى إنتاجية أكبر.
وبحسب البيانات الرسمية فقد زادت المساحة المزروعة من القمح من 3.4 مليون فدان في عام 2020/2021 إلى 3.65 مليون فدان في عام 2021/2022 ومن المتوقع أن تصل المساحة المزروعة فى 2024/ 2025 إلى 3.5 مليون فدان بإنتاجية تقترب من 5.2 مليون طن بحسب الاحصاءات الرسمية خاصة مع إعلان الحكومة توريد القمح من المزارع بسعر عادل يصل إلى 2200 جنيه للأردب.
والقمح كما يشرح الدكتور عز الدين عبد الرحمن رئيس قسم بحوث القمح بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية بمركز البحوث الزراعية منقسم فى زراعته التى تبلغ 3.5 مليون فدان على مسافات طولية من الاسكندرية الى أسوان بمسافة 1200 كم طولى وعلى الشواطئ من رفح للسلوم بحوالى 1500 كم طولى وهذه المسافات يختلف فيها نوع التربة والظروف الجوية.
وهنا يعكف العلماء بالمراكز البحثية على ابتكار حلول لمواجهة التغيرات المناخية ومنها الملوحة والجفاف ودرجة الحرارة والإصابة بالأمراض وأهمها الصدأ الأصفر الذى يأتى للقمح كل عام بسبب التيارات الهوائية الباردة التى تأتى من جنوب أوروبا أو تلك التى تأتى من إثيوبيا والسودان وتنزانيا ولا ننسى محدودية موارد المياه التى تأتينا من نهر النيل وهنا الكلام للدكتور عز والذي أكد أنه لابد أن يحدث توازن بين كل تلك العوامل وبين اختيار نوعية بذرة القمح التى ستتم زراعتها فى كل منطقة فالزراعة فى شمال مصر وعلى السواحل حيث ملوحة التربة تختلف عن الزراعة فى الجنوب وعن وسط الدلتا.
وتابع عز: فى المراكز البحثية نقوم بتوعية المزارع لاختيار الصنف الذى يزرعه ليحقق له إنتاجية عالية تصل فى الوقت الحالى إلى ما يقرب من 30 إلى 33 أردب فى الفدان ولذلك تنوعت الأصناف من جيزة 171 إلى مصر 1 و 2 و3 وحتى مصر 7 كما ركزنا على نوعية حبة القمح المستخدمة فى صناعة المكرونة ومنها مثلا سوهاج 7 الذى يصلح فى الأماكن الحارة لإنتاج السيميولينا.
والسؤال الآن: كيف نواجه تغير المناخ؟ يجيب دكتور عز: القمح وغيره من المحاصيل يحاول المختصون فى البحث العلمى إيجاد طرق أفضل لمواجهة التغيرات المناخية التى غيرت خريطة العالم فى ترتيب الدول المنتجة لذلك المحصول الاستراتيجى فهناك دول تقلصت فيها زراعة القمح بسبب تغير المناخ منها مالاوي وزامبيا وزيمبابوى وأفغانستان واليمن بسبب الجفاف والحروب فيما تغير ترتيب الدول في إنتاج القمح، حيث أصبحت روسيا أكبر منتج للقمح في العالم يليها كندا ثم أستراليا ثم أوكرانيا وإن كان الانتاج تراجع بسبب الحرب ثم الولايات المتحدة، فيما استفادت بعض الدول العربية من تغيرات المناخ بشكل مباشر في زراعة القمح منها السعودية التى زاد إنتاجها من القمح بنسبة 20% ثم المغرب بنسبة 15% وتونس بنسبة 10% بسبب تحسين أنظمة الري والاستثمار في الزراعة الحديثة.
وكما يقول الدكتور محمد المليجى خبير الزراعة وأمراض النبات بالولايات المتحدة الأمريكية فإن تغير المناخ له توابع كثيرة على الزراعة وكل محصول له متطلبات من درجات الحرارة وبسبب ارتفاع درجات الحرارة عموماً وشدة البخر واحتياج أكثر للماء وانتشار الأمراض والآفات وضعف المحصول وبتطبيق هذا على القمح فإن ارتفاع درجة الحرارة سيكون له تأثيرات كبيرة على زراعة القمح، نظرًا لحساسية هذا المحصول للتغيرات المناخية منها تقصير موسم النمو مما يقلل من إنتاجية الحبوب وجودتها، ثم الإجهاد الحراري خاصة خلال مرحلة الإزهار وتكوين الحبوب والذى يُضعف جودة البروتين في القمح، مما يؤثر على القيمة الغذائية، كما أن ارتفاع الحرارة يزيد من معدل تبخر المياه وهذه العوامل تمثل تحديًا كبيرًا في مصر التي تعاني من محدودية الموارد المائية بحسب المليجى، كما أن الحرارة المرتفعة تشجع على انتشار الآفات والحشرات وانتشار الأمراض الفطرية مثل الصدأ.
ويحدد المليجى مناطق التأثير الكبرى في مصر ومنها دلتا النيل التى قد تكون الأكثر عرضة لتأثير ارتفاع الحرارة مع تأثير إضافي من ملوحة التربة الناتجة عن ارتفاع منسوب البحر وصعيد مصر حيث الحرارة العالية.
ما يقوله المليجى تؤكده الدراسات العلمية ومنها دراسة أجرتها وحدة بحوث الأرصاد الجوية الزراعية في مصر والتي قالت إن تغيير موعد الزراعة من أول أسبوعين في شهر نوفمبر بمقدار 25 يوماً يؤدى إلى زيادة إنتاجية محصول القمح بنسبة 4% وأن التغيرات المناخية ستؤثر سلباً على إنتاجية العديد من المحاصيل الزراعية المصرية ومنها القمح بنسبة انخفاض 9% إذا ارتفعت الحرارة درجتين مئويتين وتصل الى 18% إذا ارتفعت ثلاث درجات ونصف الدرجة.
والسؤال الآن: كيف يمكن التكيف مع التغيرات المناخية حتى ينجو منها محصول القمح؟
والاجابة كما يحددها الدكتور عز الدين عبد الرحمن فى ابتكار طرق جديدة للزراعة منها زراعة القمح على مصاطب من خلال حملة قومية تم تنفيذها مع وزارة الزراعة والجهات البحثية وذلك لتقليل التكلفة وترشيد استهلاك المياه ويكفى أن نقول إن تلك الطريقة وفرت فى رى الفدان الواحد من 350 إلى 400 م3 من المياه مما يعنى توفير مليار م3 من المياه يمكن استخدامها للرى فى مناطق توشكى وشرق العوينات والوادى الجديد ومشروع غرب المنيا والدلتا الجديدة ووادى المهرة وترعة السلام وكلها أراض يتم فيها العمل على قدم وساق للدخول فى هيكل الإنتاج الزراعى وسد الفجوة الغذائية بين الاستهلاك والانتاج سواء فى القمح أو غيره من المحاصيل.
ويضيف عز أن السوق المحلى مغطى حاليا بـ 60% من انتاج التقاوى لمحصول القمح ومع حملات التوعية للفلاحين واستخدام التقاوى المعتمدة ذات الانتاجية الأعلى ومع السعر العادل سيكون الانتاج أفضل، والأهم هو دور البحث العلمى فى إنتاج تقاوى تواجه التغيرات المناخية وهو ما يتفق معه دكتور المليجى ويضيف عليه بضرورة زراعة أصناف مقاومة للحرارة العالية وتغيير مواعيد الزراعة لتجنب فترات الحرارة المرتفعة.
فيما يشدد الدكتور مجدى علام خبير البيئة العالمى على أهمية رفع الوعي لدى المزارعين ومتابعتهم فى حال حدوث تغيرات مناخية غير متوقعة بالرسائل النصية وبوسائل الاعلام.
ويضيف علام أن مصطلح الزراعة الذكية مناخياً والذى أصدرت الفاو نموذجا استرشاديا له أصبح الآن الأكثر تداولا ومناسباً بالاعتماد على التكنولوجيا والاستشعار عن بعد لتحليل المعلومات وخريطة الطقس وطرق مكافحة الآفات ومراقبة التربة والمحاصيل خلال مراحل نموه لافتاً إلى أن الزراعة الذكية مناخياً ستساعد فى تحقيق زيادة مستدامة فى انتاج المحاصيل وتحقق التكيف مع تغير المناخ، وتخفض من تأثير الاحتباس الحرارى، والأهم هو التوعية المستمرة للمزارعين وابتكار طرق جديدة ونماذج حقلية يرونها بأعينهم ليكون التأثير فى التغيير أفضل.