جريدة الرؤية العمانية:
2024-09-18@20:51:57 GMT

مصيدة الملل

تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT

مصيدة الملل

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

يبدو أنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يساوره شعور الملل ويصيبه أحيانًا، نتيجة الاعتياد على بعض الأمور التي لا يتلذذ بتأديتها وقد تخلو من محفزات الرغبة أو تزول متعتها بعد وقت قصير من مزاولتها.. وبالطبع، لا أتحدث هنا عن الملل في حالته النوعية كالتعب والإرهاق؛ كونه ينتهي عند رفع تلك الحالة؛ سواءً بالراحة والاسترخاء أو النوم، كما لا أتحدث عن الاكتئاب فهو شأنٌ آخر؛ وبما أن الحيوانات ربما لا تدرك المضمون الحقيقي للملل- وإن تفاضلت فيما بينها بمعدلات ذكاءٍ متفاوتة حسب تباين أنواعها- إلّا أنها تتفق جميعًا في دوافعها الغريزية للبقاء في أدنى غايات الرفاهية والترف وأقل درجات الخطورة والعنف إلّا عند الضرورة.

الملل عدو قديم بعمر وجود الإنسان وقِدم حياته على الأرض وهو الخصم اللدود للعمل والمثابرة مما يفرز العجز كنتيجة حتمية تؤدي للضجر وبالتالي سوء أو ضعف الأداء وصولًا للتخلي والترك الكلي وهو هروب للخلف، وبمعنى آخر هو قاتل العزائم الخفي في كسب المغانم ونيل المكارم وهو حائل الصد الوهمي ضد علو الهمم وتسنم ذُرى القمم، ولذلك ربط بمترادفات الموت وخروج الروح كالسأم والزهق وبلا شك هو شعور ممقوت لا يرجوه أو يأمله أحد، فيدفع الحصيف به عن نفسه بوسائل مختلفة وطرقٍ شتى حتى يتجنب الوقوع في شِراك غوائله، بل ويتقي شر حضوره وجور جواره فضلًا عن بقائه وحلوله.

لكن الملائكة لا يسأمون وهم في الصفيح الأعلى يسبحون دون كللٍ أو ملل ذلك بأنهم خلق مكرمون وقدر لهم الخالق تنزيههم من نوازع التنافس الغرزية، بينما الشياطين في حضيضهم الأدنى يتنافسون على إيقاع الإنسان في كل مفسدة ومظلمة وتحييده بالباطل عن الحق في تحسين وتزيين سوء عمله، وهي نجاة وهمية من مصيدة الملل بالنكوص في سعة استحسان المكاره واستمراء المحرمات لتضيق دوائرها حتى يستعصي لاحقًا الفكاك من قيودها.

إذن.. نخلُص هنا بأن شعور الملل خطير وسلبي يقع فيه الإنسان فقط نتيجة تكرارٍ إجباري يتحول معه الفعل إلى شكلٍ نمطي وصورة من صور الرتابة الدائمة التي لا تتغير لتصبح محفزًا للسأم والزهق ثم البحث عن التغيير، إلّا أن مكمن النجاة منه غائر في سر الحياة التي خُلقنا عليها ومن أجلها وفي اقتناص فنون العيش والتعايش وإيجاد الدافع لمواصلة عملٍ ما وبصفة مستمرة لا يكتشفه إلا متلمس الخبايا في بحثه عن السعادة ولو في أبسط صورها، فنجد مثلًا أن الشعوب التي تقع تحت وطأة الظلم والاضطهاد لا تستسلم له حيث اكتشفت مكامن سر الحياة والتعايش فيما بينها وقد نجد طفلًا فلسطينيًا ناجٍ وحيد من قصف شياطين الإنس لمنزل أهله وهو يطرب ويستمتع ذات صباح بتغريدات عصفور الدويري على نافذة بقايا المستشفى، قبل أن تفيض روحة المتسائلة وتسمو إلى المنازل الملائكية مستصغرةً أنقاض ما خلفته آلة المكر والطغيان المدعومة بالساكتين عن الحق من خرسان الشياطين.

يعلم تقريبًا كل سكان العالم اليوم أن الاحتلال الصهيوني يمارس سياسة التمييز المتطرف والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني المظلوم صاحب المكان المعلوم والحق المهضوم والحال المكلوم، وقد توالت خلال أكثر من سبعة عقود من الممارسات الشيطانية الإسرائيلية أجيال تشبعت بثقافة الاعتياد على تلك المشاهد اللاأخلاقية وشكلت في وعيهم جزءًا رتيبًا من أخبار الصباح والمساء، وربما باتت لا تعني الشيء الكثير لدى بعض شعوب العالم وليس الغربي وحسب بل حتى العربي والإسلامي، وقد تطور اعتياد الناس على مشاهدة العنف والقتل والدمار التي يقترفها الاحتلال إلى نوع من دواعي الواقع المُمل التي يتجاوزونها خلال تقليبهم للأخبار اليومية كالذي يتجاوز الإعلانات التجارية التي تحاول جاهدة ترسيخ حضورها في عقله الباطن دون أن يشعر بالتكرار والإعادة الملامس لحدود الضجر.

عمدت الحكومة الصهيونية منذ طوفان الأقصى إلى نفس سياستها المعتادة ولكن بشكلٍ مكثف في صناعة متوالية القتل والتدمير وعجت بها معظم القنوات والمواقع الإخبارية وتطبيقات التواصل، الأمر الذي يجعل المتابع يشعر بشيء من الاعتياد بعد فترة وجيزة ثم يألفها وتبدو طبيعية حتى الوصول به إلى مرحلةٍ يعتقد فيها أن العدد القليل من الشهداء اليوم يعتبر خبرًا جيدًا بالمقارنة مع العدد الكبير في اليوم السابق، وكلما طال أمد هذه المتوالية ازداد عدد الموتى إلى أن يتغلل الشعور بالملل ويبدأ بالتسرب إلى نفوس المتابعين وبالتأكيد أنها مرحلة منفرة يحاول معظم الباحثين عن وهم السعادة إلى تجنبها بالبحث عن الأخبار المفرحة أو على الأقل التي تجنبهم الوقوع في مصائد السأم والزهق.

قد لا يستطيع الكثير تجاوز بعض الحالات كما حللها الأستاذ أنيس منصور في كتابه "وداعًا أيها الملل" والتي تعود على المرء بالضجر نظرًا لارتباطها بحياته اليومية وهو ما يفسد عليه معيشته، ولذلك يعمد إلى تجاهل هذه الحالة وهو الحل الأمثل باعتبارها غير موجودة أو ذات تأثير ثانوي من خلال إلهاء النفس بأمور أخرى تكسر الرتابة. وقد يتجاوز الإنسان مرحلة الشعور بالملل إذا كان ما يقوم به يعود عليه بالكسب المادي أو المعنوي، وبالضرورة وحسب التجارب فإن الشعور بالملل لا يتفق نهائيًا مع ممارسة العبادات والقربات لله والعطاء والإنفاق في سبيله مهما طال بمتخذها الأمد لما تعود به تلك الأعمال والأفعال على النفس من راحةٍ وسكينة وطمأنينة مما يحفز على مواصلتها والاستمرار بها، ولكن القليل مَن سبر غور مكامن السعادة الخفية تلك، فلا ملل في الطاعات ولا يقع في الملل من الدعم والمساندة إلا من كان يرائي بها أو كانت نزوات عنفوانٍ مؤقتة، وربما يصاب من أكره عليها بالاكتئاب، وهو الأمر الذي تحدث عنه أنيس منصور في كتابه وغفل عن اصطياد مفاهيم الملل الذي اعتقد أنه يودعه.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ما الذي يُفسر تعافي اقتصادات جنوب أوروبا؟

يتوقع التقرير الأسبوعي لـ QNB أن تتفوق اقتصادات جنوب أوروبا مرة أخرى هذا العام،  متوقعا أن يبلغ متوسط نمو ناتجها المحلي الإجمالي الحقيقي نسبة 1.6%، مقارنة بنحو 0.8% في منطقة اليورو وذلك على خلفية ازدهار السياحة، وتحسن القدرة التنافسية النسبية، فضلاً عن تصحيح الاختلالات المالية. 

كانت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2007 بداية لفترة طويلة من الأداء الاقتصادي الضعيف في اقتصادات جنوب أوروبا (إسبانيا، واليونان، وإيطاليا، والبرتغال). وكانت التحديات المالية والهيكلية الكبيرة التي تواجهها هذه الاقتصادات (والتي تضمنت، من بين أمور أخرى، تصاعد الديون السيادية، وجمود أسواق العمل، والقطاع الخاص المثقل بالديون)، قد جعلتها معرضة بشكل خاص لصدمات سلبية كبيرة.

وخلال الفترة من 2007 إلى 2022 والتي تشمل الاضطرابات الرئيسية الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، وأزمة الديون السيادية، وجائحة كوفيد، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لاقتصادات جنوب أوروبا بمعدل 0.1% في المتوسط كل عام، أي أقل بقرابة نقطة مئوية كاملة من معدل النمو السنوي البالغ 1% لمنطقة اليورو ككل.

 

بعد جائحة كوفيد، شرعت اقتصادات جنوب أوروبا أخيراً في السير على طريق التعافي النسبي على خلفية العوامل الدورية والهيكلية. وخلال الفترة 2023-2025، من المتوقع أن يبلغ متوسط نمو ناتجها المحلي الإجمالي الحقيقي 1.7%، أي ما يقرب من ضعف معدل نمو منطقة اليورو البالغ 0.9%.

قال بنك قطر الوطني QNB في تقريره الأسبوعي أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسر تحسن نمو اقتصادات جنوب أوروبا.

وأوضح أن السبب الأول أن نهاية جائحة كوفيد أدت إلى طفرة في السياحة والتي قدمت دفعة قوية لاقتصادات جنوب أوروبا، حيث كان لهذا القطاع تأثير كلي كبير على الاقتصاد. ومع انحسار الجائحة ورفع القيود على السفر، انتعشت السياحة بقوة وبدأت فترة طويلة من التوسع. وتشهد المقاييس المختلفة لأعداد الزوار، وإجمالي الإيرادات، وإشغال الفنادق نمواً بمعدلات تتراوح بين 15 و20% في جميع أنحاء جنوب أوروبا. وهذا يوفر ضمناً دفعة كبيرة لاقتصادات جنوب أوروبا، حيث تتراوح تقديرات إجمالي الإسهام المباشر وغير المباشر للسياحة في الناتج المحلي الإجمالي بين 8% و20%. وبالمثل، فإن ذلك يساهم في إجمالي الوظائف بشكل كبير. ففي إيطاليا، يعمل 4.5 مليون عامل في القطاعات المرتبطة بالسياحة من إجمالي القوة عاملة البالغ 25 مليون عامل، بينما يعمل 2.7 مليون في هذه القطاعات في إسبانيا من أصل 24 مليون عامل. وبالإضافة إلى تأثير الاستهلاك من قِبل السياح، فإن إنفاق العاملين في مجال السياحة وشركات السياحة يعمل كمُضاعِف لبقية الاقتصاد. وبالتالي، فإن "الإنفاق الانتقامي" على السياحة بعد الجائحة كان له تأثير إيجابي كبير على اقتصادات جنوب أوروبا من خلال القنوات المباشرة وغير المباشرة.

وتابع QNB أن السبب الثاني: بالمقارنة مع الاقتصادات الأكثر اعتماداً على التصنيع في منطقة اليورو، استفادت اقتصادات جنوب أوروبا من التحسن النسبي في قدرتها التنافسية بعد الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون السيادية، وكذلك من تحصنها بشكل أفضل من أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، فقد كانت اقتصادات جنوب أوروبا أقل اعتماداً على واردات الغاز من روسيا، مقارنة بالدول الأكثر استهلاكاً للطاقة في منطقة اليورو، وهي ألمانيا والنمسا وسلوفاكيا، وهذا جعل اقتصادات جنوب أوروبا أقل عرضة لنقص الطاقة وارتفاع الأسعار. بالإضافة إلى ذلك، تسببت الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون السيادية في تعديلات كبيرة في أسواق العمل في اقتصادات جنوب أوروبا، مما فرض ضغوطاً هبوطية على الأجور وبالتالي انخفاضاً في تكاليف العمالة النسبية. وارتفعت معدلات البطالة إلى ذروتها في جميع أنحاء اقتصادات جنوب أوروبا في المتوسط بنسبة 13.3 نقطة مئوية من أدنى مستوياتها قبل الأزمة. أدت هذه التعديلات الضخمة إلى انخفاض ضغوط الأجور وتكاليف العمالة للشركات. ونتيجة لذلك، تظهر تكاليف وحدة العمل تبايناً كبيراً بين اقتصادات جنوب أوروبا ومجموعة الدول التي تضم ألمانيا والنمسا وسلوفاكيا منذ بداية الأزمة المالية العالمية، فقد زادت هذه التكاليف بنسبة 34% في المتوسط في اقتصادات جنوب أوروبا، مقارنة بنحو 62% في مجموعة الدول ذات الاعتماد الكثيف على الطاقة في منطقة اليورو. 

وقد أصبحت تأثيرات أزمة الطاقة والقدرة التنافسية واضحة في قطاع التصنيع، فخلال الفترة بين الربع الثاني من عام 2023 والربع الثاني من عام 2024، توسع متوسط الإنتاج الصناعي بنسبة 1% في اقتصادات جنوب أوروبا، بينما انكمش بنسبة 4.1% في اقتصادات مجموعة الدول ذات الاعتماد الكثيف على الطاقة في منطقة اليورو. ووفرت المكاسب النسبية في القدرة التنافسية وانخفاض التعرض لأزمة الطاقة ميزة نسبية لقطاع التصنيع في دول جنوب أوروبا مقارنة بجيرانها الأوروبيين الأكثر كثافة في التصنيع. 

وثالث الأسباب كما يوضح بنك قطر الوطني في تقريره أن عملية خفض الديون في القطاع الخاص وتحسين استدامة الديون السيادية تعمل على تقليل مخاوف عدم الاستقرار المالي واستعادة ثقة المستثمرين. وبعد الأزمات السابقة، قامت الأسر والشركات في اقتصادات جنوب أوروبا بخفض الديون بوتيرة مدهشة، فقد انخفض متوسط نسبة ائتمان القطاع الخاص إلى الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات جنوب أوروبا بنحو 65 نقطة مئوية من ذروته البالغة 134% في عام 2011 إلى المستويات الحالية البالغة 69%. كما كانت جهود التكيف التي بذلتها الحكومات مهمة أيضاً، حتى لو كانت أصغر، بالنظر إلى التوسعات المالية الكبيرة التي كانت ضرورية خلال جائحة كوفيد، فقد انخفض متوسط الدين الإجمالي في اقتصادات جنوب أوروبا بنحو 14 نقطة مئوية من 139% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014 إلى 125% هذا العام. وقد أتاحت هذه التحسينات ارتفاع معدلات الاستثمار الخاص، وهو عنصر أساسي في الناتج المحلي الإجمالي من منظور الإنفاق. ففي الفترة بين الربع الأول من عام 2023 والربع الأول من عام 2024، توسع متوسط الإنفاق الاستثماري في اقتصادات جنوب أوروبا بنسبة 2.2%، بينما انكمش بنسبة 0.6% في منطقة اليورو. وبالتالي، أدى تصحيح الاختلالات المالية إلى تحسين ظروف الاستثمار والنمو في اقتصادات جنوب أوروبا. 

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • شاهد - الصاروخ اليمني فلسطين (2) الذي ضرب قلب يافا
  • مكاري: لا أحد كان يتوقع الخرق الاسرائيلي الذي حصل أمس
  • المغترب حمدوك الذي لم يُعرف له موقف ولم يُسمع له صوت قبل توليه المنصب
  • تعرف على جهاز البايجر الذي استخدمه العدو لارتكاب جريمته في لبنان
  • مدبولي: الحفاظ على القيم والأخلاق حجر الأساس الذي تنطلق من خلاله مبادرة بداية
  • ما هو جهاز بيجر الذي أصاب المئات وتسبب بحالة هلع في لبنان وسوريا؟
  • بعد طائرة “يافا”.. ما الذي حمله الصاروخ اليمني إلى قلب الكيان؟
  • العرب في مصيدة الانتخابات الأمريكية
  • ما الذي يُفسر تعافي اقتصادات جنوب أوروبا؟