ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
يبدو أنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يساوره شعور الملل ويصيبه أحيانًا، نتيجة الاعتياد على بعض الأمور التي لا يتلذذ بتأديتها وقد تخلو من محفزات الرغبة أو تزول متعتها بعد وقت قصير من مزاولتها.. وبالطبع، لا أتحدث هنا عن الملل في حالته النوعية كالتعب والإرهاق؛ كونه ينتهي عند رفع تلك الحالة؛ سواءً بالراحة والاسترخاء أو النوم، كما لا أتحدث عن الاكتئاب فهو شأنٌ آخر؛ وبما أن الحيوانات ربما لا تدرك المضمون الحقيقي للملل- وإن تفاضلت فيما بينها بمعدلات ذكاءٍ متفاوتة حسب تباين أنواعها- إلّا أنها تتفق جميعًا في دوافعها الغريزية للبقاء في أدنى غايات الرفاهية والترف وأقل درجات الخطورة والعنف إلّا عند الضرورة.
الملل عدو قديم بعمر وجود الإنسان وقِدم حياته على الأرض وهو الخصم اللدود للعمل والمثابرة مما يفرز العجز كنتيجة حتمية تؤدي للضجر وبالتالي سوء أو ضعف الأداء وصولًا للتخلي والترك الكلي وهو هروب للخلف، وبمعنى آخر هو قاتل العزائم الخفي في كسب المغانم ونيل المكارم وهو حائل الصد الوهمي ضد علو الهمم وتسنم ذُرى القمم، ولذلك ربط بمترادفات الموت وخروج الروح كالسأم والزهق وبلا شك هو شعور ممقوت لا يرجوه أو يأمله أحد، فيدفع الحصيف به عن نفسه بوسائل مختلفة وطرقٍ شتى حتى يتجنب الوقوع في شِراك غوائله، بل ويتقي شر حضوره وجور جواره فضلًا عن بقائه وحلوله.
لكن الملائكة لا يسأمون وهم في الصفيح الأعلى يسبحون دون كللٍ أو ملل ذلك بأنهم خلق مكرمون وقدر لهم الخالق تنزيههم من نوازع التنافس الغرزية، بينما الشياطين في حضيضهم الأدنى يتنافسون على إيقاع الإنسان في كل مفسدة ومظلمة وتحييده بالباطل عن الحق في تحسين وتزيين سوء عمله، وهي نجاة وهمية من مصيدة الملل بالنكوص في سعة استحسان المكاره واستمراء المحرمات لتضيق دوائرها حتى يستعصي لاحقًا الفكاك من قيودها.
إذن.. نخلُص هنا بأن شعور الملل خطير وسلبي يقع فيه الإنسان فقط نتيجة تكرارٍ إجباري يتحول معه الفعل إلى شكلٍ نمطي وصورة من صور الرتابة الدائمة التي لا تتغير لتصبح محفزًا للسأم والزهق ثم البحث عن التغيير، إلّا أن مكمن النجاة منه غائر في سر الحياة التي خُلقنا عليها ومن أجلها وفي اقتناص فنون العيش والتعايش وإيجاد الدافع لمواصلة عملٍ ما وبصفة مستمرة لا يكتشفه إلا متلمس الخبايا في بحثه عن السعادة ولو في أبسط صورها، فنجد مثلًا أن الشعوب التي تقع تحت وطأة الظلم والاضطهاد لا تستسلم له حيث اكتشفت مكامن سر الحياة والتعايش فيما بينها وقد نجد طفلًا فلسطينيًا ناجٍ وحيد من قصف شياطين الإنس لمنزل أهله وهو يطرب ويستمتع ذات صباح بتغريدات عصفور الدويري على نافذة بقايا المستشفى، قبل أن تفيض روحة المتسائلة وتسمو إلى المنازل الملائكية مستصغرةً أنقاض ما خلفته آلة المكر والطغيان المدعومة بالساكتين عن الحق من خرسان الشياطين.
يعلم تقريبًا كل سكان العالم اليوم أن الاحتلال الصهيوني يمارس سياسة التمييز المتطرف والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني المظلوم صاحب المكان المعلوم والحق المهضوم والحال المكلوم، وقد توالت خلال أكثر من سبعة عقود من الممارسات الشيطانية الإسرائيلية أجيال تشبعت بثقافة الاعتياد على تلك المشاهد اللاأخلاقية وشكلت في وعيهم جزءًا رتيبًا من أخبار الصباح والمساء، وربما باتت لا تعني الشيء الكثير لدى بعض شعوب العالم وليس الغربي وحسب بل حتى العربي والإسلامي، وقد تطور اعتياد الناس على مشاهدة العنف والقتل والدمار التي يقترفها الاحتلال إلى نوع من دواعي الواقع المُمل التي يتجاوزونها خلال تقليبهم للأخبار اليومية كالذي يتجاوز الإعلانات التجارية التي تحاول جاهدة ترسيخ حضورها في عقله الباطن دون أن يشعر بالتكرار والإعادة الملامس لحدود الضجر.
عمدت الحكومة الصهيونية منذ طوفان الأقصى إلى نفس سياستها المعتادة ولكن بشكلٍ مكثف في صناعة متوالية القتل والتدمير وعجت بها معظم القنوات والمواقع الإخبارية وتطبيقات التواصل، الأمر الذي يجعل المتابع يشعر بشيء من الاعتياد بعد فترة وجيزة ثم يألفها وتبدو طبيعية حتى الوصول به إلى مرحلةٍ يعتقد فيها أن العدد القليل من الشهداء اليوم يعتبر خبرًا جيدًا بالمقارنة مع العدد الكبير في اليوم السابق، وكلما طال أمد هذه المتوالية ازداد عدد الموتى إلى أن يتغلل الشعور بالملل ويبدأ بالتسرب إلى نفوس المتابعين وبالتأكيد أنها مرحلة منفرة يحاول معظم الباحثين عن وهم السعادة إلى تجنبها بالبحث عن الأخبار المفرحة أو على الأقل التي تجنبهم الوقوع في مصائد السأم والزهق.
قد لا يستطيع الكثير تجاوز بعض الحالات كما حللها الأستاذ أنيس منصور في كتابه "وداعًا أيها الملل" والتي تعود على المرء بالضجر نظرًا لارتباطها بحياته اليومية وهو ما يفسد عليه معيشته، ولذلك يعمد إلى تجاهل هذه الحالة وهو الحل الأمثل باعتبارها غير موجودة أو ذات تأثير ثانوي من خلال إلهاء النفس بأمور أخرى تكسر الرتابة. وقد يتجاوز الإنسان مرحلة الشعور بالملل إذا كان ما يقوم به يعود عليه بالكسب المادي أو المعنوي، وبالضرورة وحسب التجارب فإن الشعور بالملل لا يتفق نهائيًا مع ممارسة العبادات والقربات لله والعطاء والإنفاق في سبيله مهما طال بمتخذها الأمد لما تعود به تلك الأعمال والأفعال على النفس من راحةٍ وسكينة وطمأنينة مما يحفز على مواصلتها والاستمرار بها، ولكن القليل مَن سبر غور مكامن السعادة الخفية تلك، فلا ملل في الطاعات ولا يقع في الملل من الدعم والمساندة إلا من كان يرائي بها أو كانت نزوات عنفوانٍ مؤقتة، وربما يصاب من أكره عليها بالاكتئاب، وهو الأمر الذي تحدث عنه أنيس منصور في كتابه وغفل عن اصطياد مفاهيم الملل الذي اعتقد أنه يودعه.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العشاء الذي أسهم في إنقاذ أوروبا
في عام 1979، خلال الزيارة الأولى ليوحنا بول الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد تربعه على كرسي البابوية الكاثوليكية، التقى بول الثاني بالرئيس جيمي كارتر في البيت الأبيض. ولم يمض وقت طويل على ذلك، حتى وجه البابا دعوة إلى زبجنيو بريجينسكي، مستشار الأمن الوطني للرئيس كارتر، لحضور عشاء في سفارة الفاتيكان بواشنطن. كان كارتر قد رغب خلال مناقشته مع البابا حديث الانتخاب في تناول مسألة انحدار الأخلاق بجانب الشؤون العالمية، أما بريجينسكي فكانت في ذهنه مواضيع أكثر نزوعا إلى العملية.
كان الهاجس المشترك الذي يسيطر على البابا والمستشار هو الاتحاد السوفييتي. وفيما يتناولان عشاء بسيطا في السفارة البابوية للكرسي الرسولي، استكشفا السبل التي يستطيعان بها معا إضعاف قبضة موسكو على الأمم الواقعة في أسرها. أصيب بريجينسكي بالذهول من فرط معرفة البابا بالشؤون الجيوسياسية وسعة اطلاعه عليها. فقال مازحا: إن كارتر أقرب إلى زعيم روحي بينما البابا أشبه برجل دولة دنيوي. فإذا بالزعيم اليسوعي يؤكد المزحة بضحكة ارتج لها بطنه حسبما كتب بريجينسكي في يومياته الخاصة التي حصلت عليها بصفة حصرية.
ابتداء بذلك العشاء، جمع تحالفا وثيقا بين الرجلين بولنديي المولد، اللذين كان أحدهما أول بابا للكنيسة الكاثوليكية من خارج إيطاليا منذ أربعمائة وخمسة وخمسين عاما وكان الثاني أول أمريكي بولندي الأصل يتولى منصبا استراتيجيا رفيع المستوى (ولعله الوحيد إلى الآن).
وتبين في أواخر عام 1980 أن تلك العلاقة وليدة الصدفة شديدة الأهمية، وذلك عند إثناء السوفييت عن غزو بولندا التي كانت (حركة التضامن) قد ظهرت فيها للتو بوصفها تحديا جسيما للحكم الشيوعي. ودامت الشراكة من خلال التحاور في زيارات بريجينسكي للفاتيكان، وفي مراسلات مطولة بخط اليد، واتصالات عبر الهاتف. حتى أن هاتف بريجينسكي في البيت الأبيض كان فيه زر للاتصال السريع عليه حرف الباء من كلمة البابا.
علاقة البابا يوحنا بول مع بريجينسكي مثال ناصع لنجاح الدبلوماسية عند توافر الثقة المتبادلة. وقد يندر التوافق الغريزي، لكنه يكون عظيم الأثر عند توافره. والحوار الدائم سواء بين الأصدقاء أو بين الخصوم أمر شديد الأهمية في عالمنا المتقلب اليوم. والقدرة في لحظة التوتر على تناول الهاتف مع العلم بإمكانية الوثوق في الطرف الآخر أمر لا يتحقق إلا نتاجا لعمل وجهد مستمرين.
غير أن صعوبة تخصيص الوقت اللازم لذلك أمر يزداد صعوبة. كما أن التكنولوجيا تتيح وجود المبعوثين الرئاسيين على مقربة من البيت الأبيض ليستجيبوا لسيل الطلبات المتنافسة. والعالم بات أشد تعقيدا مما كان عليه الحال قبل أربعين سنة، ولم يتدن وضع الدبلوماسيين في الولايات المتحدة قط بقدر ما هو اليوم. والرصد الإعلامي المستمر على مدار الساعات الأربع والعشرين يجعل الخصوصية والسرية أمرا شديد الصعوبة. فزيارة كزيارة هنري كيسنجر السرية إلى بكين سنة 1971 لتمهيد التقارب مع ماو تسيتونج أمر يصعب تصوره اليوم.
كما أن كيسنجر أقام علاقات قوية مع نظرائه السوفييت (في حين كان بريجينسكي مكروها هناك، فأبقاه الرئيس كارتر بعيدا عنهم). وحتى مع قيام الرئيس ريتشارد نيسكون بإغواء الصين لتبتعد عن كتلة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، كان كيسنجر يتودد إلى وزير الخارجية السوفييتي المتزمت أندريه جروميكو، ويتناول العشاء بين الحين والآخر مع أناتولي دوبرينين السفير السوفييتي القديم في واشنطن. فاستطاعت الولايات المتحدة إبعاد الصين عن الاتحاد السوفييتي مع ترسيخ الوفاق مع موسكو فكان ذلك مأثرة للدبلوماسية. وكان أيضا ثمرة لاستثمار الوقت في تمتين العلاقات الشخصية.
من الأمثلة القليلة الحديثة على الحوار الدائم بين الخصوم مثال جيك سوليفان ـ مستشار الأمن الوطني للرئيس جو بايدن ـ ووانج جواي كبير الدبلوماسيين الصينيين. ففي النصف الثاني من ولاية بايدن، التقى الرجلان في فيينا، ومالطا، وبانكوك، وبكين، وواشنطن لإجراء محادثات وصلت إلى خمسين ساعة بحسب ما قال سوليفان. غير أن سعي جيك سوليفان إلى إضفاء طابع الاستقرار على العلاقات الأمريكية الصينية انتهى فجأة بانتصار دونالد ترامب في نوفمبر الماضي. ولم يستجب الرئيس ترامب حتى الآن لطلب الصين منه تعيين مبعوث خاص.
بدون الثقة التي تنجم عن صلابة العلاقة بين المسؤولين، تزداد كثيرا خطورة أن يقع بالصدفة حادث عسكري ناجم عن سوء التواصل أو الجهل. فيجب في المقام الأول ألا توجد مفاجآت. والحديث المسهب يوضح نوايا الجانب الآخر ويقلل فرص حسابات خاطئة قد تكون مهلكة. وحتى بدون أولويات الرئيس ترامب المتغيرة التي لا يمكن التنبؤ بها، فإن عالمنا اليوم أشد صعوبة على أي رئيس أمريكي من مناورة الانقسام بين القطبين في أثناء الحرب الباردة.
لم يكن دأب المناورات السياسية الأمريكية قط أن تتوقف عند حدود البلد. لكن السياسة الخارجية لم تكن مسيَّسة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بقدر ما هي اليوم.
فلقد بلغ الخطر على بولندا سنة 1980 نقطة الذروة بعد أن خسر كارتر الانتخابات أمام رونالد ريجان. ففي السادس من ديسمبر، حذر رئيس المخابرات الأمريكية ستانسفيلد تيرنر الرئيس الأمريكي من احتمال قيام الاتحاد السوفييتي بغزو بولندا في غضون ثمان وأربعين ساعة. وكان للسوفييت قرابة خمس عشرة كتيبة على حدود بولندا. وكان بريجينسكي والبابا يوحنا بول يعملان معا منذ أسابيع عبر الهاتف لتحذير حركة التضامن وزعيمها الكاريزمي ليخ فاونسا من أجل كبح الخطاب المعادي للسوفييت. إذ قالا له إنه لا ينبغي إعطاء السوفييت ذريعة لعبور الحدود.
في الوقت نفسه، أوضحت واشنطن وزعماء الأمم المتحالفة والفاتيكان للسوفييت أن بولندا أمر غير قابل للهضم. فخلافا لغزو السوفييت للمجر سنة 1956 ولتشيكوسلوفاكيا سنة 1968، سوف يقابل الجيش الأحمر مقاومة ثقيلة من العمال المنتمين إلى نقابة فاونسا العمالية الجماهيرية، ومن الكنيسة الكاثوليكية، بل ومن عناصر في الجيش البولندي. وفي أثناء ذلك، كان بريجينسكي يطلع فريق الرئيس التالي على المستجدات. ووافق مستشار الأمن الوطني القادم ريتشارد ألن على تأكيد تحذيرات كارتر لموسكو.
لم يقتصر انتفاع علاقة بريجينسكي بالبابا يوحنا بول على أصولهما البولندية فقط، وإنما انتفعت أيضا من التوقيت: فقد انتخب كاروف فويتيلا لمنصب البابوية سنة 1978. وعندما أعلن الفاتيكان النتيجة، أمر يوري أندروبوف ـ رئيس جهاز كيه جي بي ـ بإعداد تقرير عن الانتخابات، فكشف التقرير عن مؤامرة بريجينسكي لتزوير اجتماع الكرادلة. لم يكن من أساس لذلك الزعم. ولكن علاقة البابا وبريجينسكي جاءت تعويضا لجنون موسكو. وبسبب التنسيق بينهما في التكتيكات، وهو التنسيق القائم على الثقة والصداقة، ساعدا في الحيلولة دون وقوع غزو كان يمكن أن يغير
مسار التاريخ.
إدوارد لوس صحفي إنجليزي يعمل محررا للشؤون الأمريكية وكاتب عمود في فايننشال تايمز.
** خدمة نيويورك تايمز