صالح الرزوق: عن التجربة الفنية لصباح الأنباري
تاريخ النشر: 30th, July 2023 GMT
صالح الرزوق منذ فترة ليست قريبة وصلتني مجموعة من مؤلفات الصديق المسرحي المجدد صباح الأنباري، وقطعت على نفسي وعدا بالاطلاع على هذه المؤلفات و التنويه بها، ولكن كانت الظروف دائما تفرض بعض الانتظار لسبببن. الأول أنني تناولت أعماله المسرحية عدة مرات، وعملنا معا على كتاب مشترك بعنوان “سيرة كاتب ومدينة” صدر في دمشق عام 2012، وتكلمنا فيه بأسلوب حواري عن أهم الشخصيات الفنية والأدبية التي مرت على مدينته بعقوبة، وما أحاط بتلك المدينة من ظروف ومصاعب.
بتعبير آخر لم يعد لدي شيء أضيفه عن مجتمع وبيئة الأنباري. الثاني أنه كتب عن تجاربي المتواضعة في عدة مناسبات. ولم أر من اللائق أن ندخل في الإخوانيات وتبادل المديح. فتجربة الأنباري غنية، وتستحق التعريف، ولا يزال يضيف عليها بين حين وآخر. وهي درامية أيضا، فقد اختار له الواقع سيناريو يصلح ليكون بدوره نصا أدبيا. عدا عن ظروف اعتقاله في ظل النظام العسكري السابق، وعدا عن مشكلة المنع من التوظيف، ثم التهديد بالقتل والتصفية بعد سقوط النظام وسيطرة الإسلاميين على الشارع، تبقى هجرته إلى أستراليا، واكتشاف آفاقها الجديدة، حكاية تستحق السرد والتصنيف. وإذا فهمنا أنه في العراق كان كائنا اجتماعيا فهو في أستراليا كائن افتراضي أو فني، معظمه من خياله وبقايا حياته السابقة، وأقله من الدخول في معمعة التقدم بالعمر وإضافة مفردات جديدة لملفه الأدبي. وهنا يجدر بي التنويه بهذه الملاحظة. لم يكتب الأنباري شيئا خارج إطار مرجعياته الوطنية. وأسلوب الخيال العلمي الذي يختبئ به لا يبتعد كثيرا عن معاناة أبناء العالم الثالث. وكل مفردات الأنباري مدينة للديكتاتوريات العسكرية بمعانيها وحبكتها. وإذا اتفقنا جدلا أنه متأثر باللامعقول والتجارب الملحمية للحداثة التخريبية فهذا عائد فقط إلى رغبته بالهروب من المشكل القومي وحروبه، والأهم النأي بالنفس عن خساراته المتكررة التي فتحت الباب للاحتلال وتصفير الإنجازات. فبناء العقل العربي في العراق كان من صناعة الدكتاتور، غير أن سعارات خطابه السياسي، وما فرضته من علاقات دبلوماسية مع دول شرق أوروبا، تبقى مكسبا تنويريا هاما حتى لو رافقه ما أسميه نكسة الوجدان. وقد أحسن الأنباري التعبير عن هذه اللحظة في كتابه “مذكرات مونودرامية” الصادر عن دار ضفاف عام 2015. وإن كنت أعتقد أنه يأتي في منزلة متوسطة بين كافة أعماله فهو الأقرب لنفسه، والأكثر تعبيرا عن الأقنعة المتعددة التي يضعها ثم يتخلى عنها ليمرر أطروحته عن الداء والدواء أو البناء فوق خرابنا الفانتازي. فعراق العائلة الهاشمية جاء على أنقاض الأتراك، وجمهورية قاسم على أنقاض النظام الملكي. ولا يجب أن ننسى جدلية الإلغاء والتثبيت التي تناوبت عليها الأحزاب والميليشيات. وقد سجل انطباعاته عن هذه الفوضى في مسرحياته الصامتة، ولكنه أدارها بطريقة مثالية في مسرحية “ليلة انفلاق الزمن” 2001. وهي عندي حوارية درامية وليست مجرد مسرح تجريبي، فالجدل بين أبطالها يحول كل واحد منهم إلى نموذج، وذلك بطريقة الأنباري الجميلة والمتألقة التي كتب بها عن نماذج حركية اختار لها اسم الشواف والسماع والشمام.، وكأنه أراد أن يخترع فرسانه الثلاثة، وأن يتحدى رواية إسكندر دوماس بمسرحية مختصرة تسخر من معنى البطولة. وهذا يناسب واقعنا المؤسف، فهو واقع يتحكم به رجال مهزومون، ولا سلطة لهم على أي شيء، لا الأرض ولا المجتمع، ولذلك حولوا بلدانهم إلى ما يشبه السجن. وقد نوه الدكتور سيد على إسماعيل (وفريقه من طلاب المشاريع الجامعية) بأهم مزايا و أساليب الأنباري في كتاب من تأليف جماعي صدر بعنوان (صوامت صباح الأنباري) عام 2018 . لكن تبقى نقاط تحتاج إلى توسيع. أهمها الذاكرة الحية والدائمة للأنباري، فهو نادرا ما يغفل أسماء رفاق دربه الذين تركوا بصمة على جدران حياته النفسية. وإن جاز لنا المقارنة أرى أنه كتب عن محي الدين زنكنة مثلما فعل روج غلاس حينما كتب عن ألاسدير غراي. كانت المقاربة فنية وليست نقدية أو أنها تعويم للمكنون النفسي أكثر من التنقيب والحفر في الأعمال الأدبية. وقد نوه غلاس أنه لم يكتب سيرة حياة غراي كما يراها الآخرون و لكن كما كان يريد أن يراها هو بالتواطؤ مع غراي نفسه. وهذا هو ما أفهمه من الصور المتعددة التي أوردها الأنباري عن زنكنة في مسرحياته وفي دراساته. ولم تكن توجد مسافة بين الناقد والنص، وكان كلاهما واحدا بمقدار تشابه الأنباري مع زنكنة في الواقع. وقد أعطى كلام الأنباري وغلاس عن حلقة أدباء بعقوبة وحلقة أدباء غلاسكو، على التوالي، مصداقية قلما تجدها في النقد الأدبي. وأكاد أقول إنهما كتبا عن ذاكرة وتاريخ المرحلة وليس عن نتاجها. ولم يكن هناك شيء يفصل بين وجهي الورقة. ولتفهم معنى مسرحيات زنكنة عليك أن تقرأ قصص سعد رحيم وشعر أديب كمال الدين والدور الإداري الذي لعبه عبد الحليم المدني. والشيء بالشيء يذكر. كان المدني رئيسا لفرع اتحاد أدباء بعقوبة قبل أن يكتب قصصه المتألقة عن غزو الفضاء ليتساوى بها مع أهم رموز أدب الخيال العلمي. أو كما أفضل أن أقول الأدب العجائبي (وأستشهد هنا بتودوروف ودراسته عن غرائب الخيال الفني كالباب المسحور والمدينة المغمورة تحت الماء وغير ذلك. وهو ما يستدعي للذهن أعمال الأمريكي لافكرافت Lovecraft التي تصنف في مجال أدب الرعب). وهذا ما فعله غلاس. فقد صور لنا ألاسدير غراي بعيون أدباء وفناني حانة كيرليرز، ومنهم جيمس كيلمان وموراغ ماغيل كريست وألان بيسيت. ولا يمكن أن تنسى في هذا المضمار أغنيس أوين. ولم يكن صوت غراي في هذا السياق معزولا ولا تكميليا ولكنه توسيع لمعنى إسكوتلاندا في التاريخ النفسي لأدبائها. وتجد كل ذلك أيضا في لوحات غراي، فهي أبعد من أن تكون انطباعات أو تصورات عن بلده، ولكنها تفرضه على ذات الآخرين، بمعنى أنها تقرب إسكوتلاندا من الضمير الإنساني. وكل مسرحيات الأنباري تصب في هذا الاتجاه. لقد أراد أن يخترع أو أن يبني بلده، ورغم ضائقته السياسية وسعه أمام الوجدان، وجعل منه حالة أو تجربة. وهكذا أمكننا أن نلاحظ أن كتاباته تذكر بما عانت منه تشيلي وكوبا وفيتنام، ناهيك عن فلسطين. وأرى أن بعقوبة كانت تظهر في خلفية كتاباته كما كانت الخالدية تظهر في أعمال محمد البساطي وماكوندو في أدبيات ماركيز ولانارك في قصص غراي، إن لم نذكر حلب وأحوالها في أعمال وليد إخلاصي. وفي ذهني نقطة أخيرة، وهي عن التعادلية في مسرح الأنباري، والتعبير لتوفيق الحكيم. فالأنباري ليس راديكاليا كما يحب أن يعرف بنفسه ولكنه توفيقي. وحقن الحداثة بشحنة من التراث مبدأ أساسي في كتاباته. غير أنه ليس سلفيا، فهو لا يعيد إحياء الذاكرة الإسلامية، ولكن ينفخ في ذاكرة بلاد ما بين النهرين ويلجأ لرموز يستعيرها من حمورابي وجلجامش وهذا الرعيل. ولا ينسى أن يدعم ذلك بجدلية النور والظل، حتى أن جملة أعماله لا تخلو من ظلال مطبوعة على الخلفية مع دائرة ضوء في الوسط وكأنه يحاول إنتاج نص برؤية مركبة نصفه من مسرح خيال الظل والنصف الثاني من فن المسرح الحديث.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
أنقرة تحتضن الجولة الأولى للمفاوضات الفنية بين إثيوبيا والصومال
أنقرة – عُقدت في العاصمة التركية أنقرة، امس الثلاثاء، الجولة الأولى من المفاوضات الفنية إثيوبيا والصومال، ضمن “إعلان أنقرة”، الذي يجري بوساطة تركية.
وفي إطار الجولة، التقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بشكل منفصل مع نظيريه الإثيوبي والصومالي، اللذين كانا في أنقرة للمشاركة في المفاوضات.
وخلال اللقاءين أكد فيدان على الأهمية البالغة للتعاون الإقليمي في ظل عالم يشهد استقطابا شديدا، وشدد على أن النجاح النهائي لهذه المفاوضات أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.
كما أشار إلى أن هذه العملية تمثل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل مستقبل القرن الإفريقي وتحويل التحديات إلى فرص.
وشدد على أن تحقيق الاستقرار والازدهار في هذه المنطقة أمر ضروري، وأن الخطوات المتخذة في هذا الإطار ستشكل نموذجاً يُحتذى به لدول أخرى.
وأضاف فيدان أن عملية التفاوض بين الصومال وإثيوبيا لا تقتصر على التعاون بين البلدين فحسب، بل تمثل رؤية سياسية للقارة الإفريقية بأكملها.
وأوضح أنها تعد مبادرة استراتيجية شاملة على غرار مشروع طريق التنمية بين تركيا والعراق، مبينا أن أنقرة مستعدة للعب دور نشط في تسهيل ودعم وتنفيذ هذه العملية.
وتناولت المفاوضات الفنية دور تركيا في مشاريع الربط الإقليمي، حيث تم تقديم أمثلة على مشاريع ممر الوسط، وخط سكة حديد باكو – تبليسي – قارص، ومشروع طريق التنمية.
كما تم تبادل وجهات النظر حول التشريعات الجمركية ومشاريع الموانئ وتأثير ممرات النقل على التنمية والمعايير الدولية ذات الصلة.
وخلال الجولة الأولى من المفاوضات التي جرت في أجواء إيجابية، بحسب مصادر دبلوماسية تركية، ناقشت الأطراف آليات تنفيذ رؤية إعلان أنقرة، وسبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين إثيوبيا والصومال، بالإضافة إلى إطار عمل محتمل للاتفاقيات الثنائية والخطوات المستقبلية.
وتبنت الدول الثلاث بيانا مشتركا في ختام الجولة الأولى من المفاوضات الفنية، حيث اتفقت الأطراف على عقد الجولة الثانية من المفاوضات في مارس/ آذار المقبل برعاية تركيا.
وجاء في البيان المشترك أن الجولة الأولى من المفاوضات الفنية، التي عقدت في إطار إعلان أنقرة، نُظمت الثلاثاء في أنقرة برعاية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وبمشاركة وزير الخارجية الإثيوبي جيديون تيموثيوس ووزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية علي محمد عمر.
وأشار البيان إلى أن إعلان أنقرة الذي تم التوصل إليه بوساطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وضع رؤية تمهّد الطريق لمستقبل أكثر ازدهارا واستقرارا، بفضل الاتفاق الذي تم بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود.
وأكد البيان أن الوفدين الإثيوبي والصومالي أظهرا التزامهما التام بروح ونص إعلان أنقرة خلال الجولة الأولى من المفاوضات الفنية.
وحسب البيان المشترك، فقد تم الشروع في العمل على خطوات ملموسة لتنفيذ هذه رؤية إعلان أنقرة وتحقيق تنمية مستدامة قائمة على المصالح المتبادلة.
وبوساطة تركيا، تمت في 11 ديسمبر/ كانون الأول الماضي تسوية الأزمة المستمرة منذ نحو عام بين الصومال وإثيوبيا، الجارين في منطقة القرن الإفريقي (شرقي القارة).
وخلال قمة ثلاثية في أنقرة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، توصل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى اتفاق لحل الأزمة بين بلديهما.
واتفق البلدان على العمل معا “بشكل وثيق للتوصل إلى نتائج فيما يتعلق بالإجراءات التجارية ذات المنفعة المتبادلة من خلال الاتفاقيات الثنائية، بما في ذلك العقود والإيجارات والأدوات المماثلة، التي ستمكن إثيوبيا من التمتع بوصول آمن وسليم ومستدام إلى البحر ومنه، تحت السلطة السيادية للصومال”.
وتدهورت العلاقات بين البلدين منذ أن أبرمت إثيوبيا اتفاقا مع إقليم “أرض الصومال” الانفصالي مطلع يناير/ كانون الثاني 2024، منح الإذن لأديس أبابا باستخدام سواحل الإقليم على خليج عدن لأغراض تجارية وعسكرية.
ورفضت مقديشو صفقة إثيوبيا مع “أرض الصومال”، ووصفتها بأنها “غير شرعية وتشكل تهديدا لحسن الجوار وانتهاكا لسيادتها”، فيما دافعت الحكومة الإثيوبية عن الاتفاق قائلة إنه “لن يؤثر على أي حزب أو دولة”.
الأناضول