موقع النيلين:
2025-03-03@14:35:30 GMT

الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين

تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT


الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين
بيرق العز وبريق نداء الدماء يا دار مساليت أنا حي
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
في عالمنا المحكوم بالبراغماتية ، والفردانية ، وتقديم المصالح الخاصة وتأليه منطق البيع حتى ولو على حساب الوطن والناس والإنتماء ..
فالأذكياء فقط هم من يتخذون المواقف الباهرة ، لا يعبرون ، أو ، يمضون إلا وقد حفروا على جدار الحياة ذكرى ” من فعال وخلق ” وقد أودعوها أحسن الأعمال ، وأسمى الخِصال ، وجعلوها أبلغَ ناطق عنهم من بعد الرحيل .


فالإحسان كل الإحسان هو أن تتركَ الدنيا وذكراكَ بالخير مِلؤها : ” إنّ الموتَ موتُكَ في الذكرى ! ”
وفي هذا المقال ، وبعد مرور ما يقارب العام ، على أحداث مذبحة مدينة الجنينة ، نقف في حدود المكان والزمان ، محاولة للكتابة ، كتابة تجرؤ على المشاعر وتهزها ، تبوح وتصفع بحنان .
ولسان حالنا لا يحاكيه إلا محمد مهدي الجواهري :
قِف بأحداث الضّحايا لا تُسِلْ
فوقها دَمعاً ولا تَبكِ ارتجالا
لا تُذِلْ عهدَ ” الرجولات ” التي تكرهُ الضَعْفَ
وتأبى الانحِلالا
وتَلقَّفْ من ثَراها شَمّةَ
تملأُ المنخِرَ عِزا وجلالا
وَضَعِ ” الإِكليل ” زَهْراً يانعاً
فوقَ زهرٍ من ضمير يَتلالا
ثم خَفِّضْ من جَناحيك بها
ثم أبلغْها إذا شِئتَ ” مقالاً ” !
نقف لا على الرصيف ، وإنما في لب المكان والزمان ، والمشهد لم يكن يبعث على الإنتظار والتلكؤ .
وهل للشاكين من أوجاعمهم حرج ليقال لهم كفوا عن الكلام .
وفي طقس عبورنا إلى الكلام ، لا يمكن تجاوز ذاك الرجل الأمير ، الذي مضى إلى الله ، مغدورا بفوهات بنادق مليشيات الدعم السريع .
الرجل الذي ظل وباستمرار أن يتبنى المواقف الصعبة ، وأن ينازل في سبيل حقوق أهل الدار ، أشرس الوحوش ، وأعتى الظلاميين في هذا العصر .
وهو سليل دوحة سلاطين دار مساليت ، من أبيه إلى أجداده الذين ، أسسوا سلطنتهم الإسلامية المستقلة – كيانا وأرضا – ووقفوا بشموخ وإباء في معاركهم ضد ” الكولونيالية ” الأروبية الفرنسية . مدافعة عن الأفق الغربي . محققين إنتصاراتهم الداوية في ” كرندق ” و ” درجيل ” و” دروتي ” التي ارتجت لها أركان فرنسا جسدا ونفسا ، وأسهموا بها في تشكيل واقع جديد للسودان ، جغرافية أرض ، وبعد إجتماعي آخر ، أضيف في أنسجة تكوين مجتمعاته ..
هو الأمير الشهيد طارق عبدالرحمن محمد بحرالدين أبكر .
عاش الحيات بتقشف يشبه تقشف النساك ، وبساطة أسلوب تقول وتفصح عن جوهر رجل أخلص في الحفاظ على وديعة الأسلاف الأماجد ، وإرث السلطان بحرالدين أندوكه ، والسطان الشهيد تاج الدين .
عاش كل حياته دون أن يحني ظهره لأي عاصفة ، أو يدخل في جحور لصوص السياسية ليساوم أو يراوغ ،
أو ينسحب من ميدان السجال ، بل أستمر في التحدي شاهدا على كل الأحداث الجثام في صدر دار مساليت ، عاش ساطعا صلب المشاكسة ، حتى إستشاهده البطولي مغدورا محاصرا داخل بيته بجيوش الجنجويد الذين إغتالوه وسط أفراد أسرته ، تشفيا وغيظا منه .
والإغتيال كان ولا يزال هو نصيب كل أبناء المساليت الأفذاذ في البطولة ، من الذين سطعوا بجميل الأفعال وجليل الإنتماء للبلد .
الإغتيال كان دائما هو الوسيلة التي ظل الجنجويد وباستمرار ، يتوسلونها في منهج القتل الإنتقائي المترصد للقادة المجتمع الأذكياء في دار مساليت .
فاغتيال الأمير طارق عبدالرحمن بحرالدين بتلك الوحشية هو ليس حلقة من الحلقات المتسلسلة تراتبيا في مشروع ” جماعات الشتات ” لاجتثاث الأصلاء من جذور أرضهم فحسب ، وإنما إختيارهم للأمير طارق عبدالرحمن بحرالدين ، كان إنتخابا قصديا تم بعناية ودراسة ، ذلك لما في شخصيته من دلالات ” رامزة ” يدرك معناه قادة مشروع ” الشتات ” ، فالأمير طارق عبدالرحمن بحرالدين هو لوحده دال وشارة علامية كبرى في معنى دار مساليت ووجوده الكائن في قلب أهل السودان .
ونلخص ذلك المعنى في كون أن طارق هو الأبن الأكبر – من البنين – للسلطان الراحل عبدالرحمن بحرالدين الذي تم تنصيبه سلطانا على سلطنة دار مساليت في العام 1951م بعد وفاة والده السلطان ” محمد بحرالدين ” الملقب باسم ” أندوكه ” أحد أعظم سلاطين الدار حكمة وعلما ، حسب الباحث ” إبراهيم شمو ” في دراسته : دار مساليت النموذج الإفريقي الإنساني للتعايش السلمي بالرأس المرفوعة ” أو ” أربعون عاما على ظهور الخيل قابضة على أسنة الرماح 1875 – 1915م ”
قائلا :
كان السلطان بحرالدين – 1915 – 1951م – حكيما عبقري القيادة شجاعا وشهما وصاحب مروءة ، متدينا ، ورعا ، لا يرضى بالدنية في دينه أبدا ، ولم يكتثر للحاكم الإنجليزي ولم يطأطأ جبينه أبدا لأحد مهما على في سلطاته وحكمه في بلاد السودان .
وبتلك الصفات الشخصية في السلطان بحرالدين أندوكه أصبحت دار مساليت أكثر جذبا للناس وتدفق الخلائق من شرق السودان والغرب ومن الشمال وتوافد الجلابة تجارا وأهل جاه وعلماء وفقهاء كلهم ساهموا في إزداهار الجنينة عاصمة السلطنة ومركزها الروحي .
ومن ثم ، سار على نهج حكمته أبنه عبدالرحمن رجل كان يتقطر حكمة وحنكة ودربة ، جمع الناس حوله ودا ومحبة للبلد وأهلها .
كان إنتماءه للناس جميعا بمختلف قبائلهم وأعراقهم واتجاهاتهم الفكرية وتنظيماتهم السياسة .
لم يرى الناس للسلطان ” عبدالرحمن بحرالدين ” أي نشاط سياسي يضعه في جانب الإنتماء الحزبي الضيق ، كان يجتمع عنده الحكام والمعارضون فكلهم عنده على مسافة واحدة .
لم يزايد في أي مسألة من مسائل الناس والأرض ، عفيف اليد واللسان .
كان عظيما في كل شأن من شؤون الناس ، ولم يكن جبارا ، ولم يصغر خده عند أبواب قادة السياسة ، أو في بلاط والي من الولاة ، حتى تاريخ وفاته في يوم 6 فبراير 2000م
ذلك هو طقس الحياة التي تربى في كنفها وترعرع الأمير طارق ، والمشرب العذب الذي نهل منه ، والأساس الذي تشكل به وجدانه بإنتماءه الصاعق لدار مساليت وأهلها داخل مدينته الحبيبة ” جنينة السلطان ” التي تتبعه إلى كل مكان ذهب إليه ، وذكراها كمثل الذهب الأصفر محفور في قلبه .
وقضى طفولته وسنوات شبابه ، تحت تأثير معايشته لواقع حياة والده الباهرة ، في قيادة حياة الناس وإدارة شأنهم ، ملتصقا بالجذور ، وتراب الدار وثقافة أهله بالدرجة الأولى .
وظل على علاقة بكل تفاصيل الناس ، بمختلف كياناتهم الإجتماعية ، علاقة تقوم في شكل أساسي على مستويات الحساسية والعاطفة والوعي .
كما أبدى منذ بدايات صباه ، شعورا بالمسؤولية إزاء ما أنجزه الآباء والأجداد ، فوطد ارتباطه بالمأثورات المعنوية ، خاصة ، المتعلقة باللغة ، ومكونات الشخصية الثقافية ، فعشقها وعمل على الحفاظ عليها قصصا وحكايات شعبية وأحاجي ومرويات باذخة المعاني والقيم ، يرويها للناس أينما حل .
وما زاد قيمة شخصيته العارفة بالتاريخ ، هو أن المتعلمين من أبناء مدينة الجنينة ، بتعدد أجيالهم ، يجد أن علاقتهم مع تاريخ وثقافة دار مساليت هي علاقة نزاع وتشاكس ، بإستثناء قلة قليلة ، ألمعهم هو الأمير طارق عبدالرحمن بحرالدين ، الإستثناء المائز في علاقته بتاريخ وثقافة الأسلاف الأماجد ، فهي علاقة قائمة على الصداقة الحميمة والفضول والتفاهم والإستيعاب الإيجابي .
فوظف الأمير طارق عبدالرحمن بحرالدين موهبته واهتمامه بثقافة البلد ، وولعه بالتاريخ ، الجماعي والفردي ، على السواء ، في أحاديثه وانفعالاته ، كجسر للوصول بالناس إلى الوقائع المكونة للحياة الإجتماعية وحتى السياسية ، لتكون هي النبراس في متاهات حاضر البلد ، وبها يتم تجديد عقد إجتماعي يتناسب وظروف المكان والزمان .
فقد كان الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين يتمتع بموهبة سردية حيوية مفرضة التصوير ، ذات إيحات مكثفة ، يقول ما يعني بوضوح ، لا يستغيض ولا يدلق المشاعر مجانا .
فالماضي والحاضر هما أبرز تيمات كلامه ، وأعني تاريخ بلاده والأصول التي تأسست عليها أنساق البنية الإجتماعية في دار مساليت بتعددها وتباينها .
في كل خاطرة كلام من كلاماته ، تجد أنه يعمل عمليات كشف للذات الثقافية في الدرجة الأولى .
بكل ما يكتنف هذه الذات من غموض والتباس ،
وما سبب إيجابياتها ونقائصها وتناقضاتها وتعقيداتها وجمالها ، مثبتا ومبرهنا عن شجاعة أدبية عالية .
لا يتردد في قول المسكوت عنه ، على المستويين الإجتماعي والسياسي ويكشف عن الحالة الرهابية التي نعيشها في البلد .
فقد كان ملتزما إجتماعيا ، قلقا على مستقبل الناس ، ولم يكن يوما على الحياد ، أو منسحبا ولا يدفن رأسه في الرمل .
ويشير دائما أن والده ، علمه ألا يستسلم للواقع أبدا ، أن يقول الحق ، فالحقيقة تقفز في العيون ، الحقيقة هي بطاقة الخروج الوحيدة من العتمة .
تلك هي شخصية الأمير الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين ” الرمز ” واقعا ، وما ينبغي أن يكون .
ذلك هو مغذاه الذي أدركه الذين يقرأون ما وراء كلماته ..
وذلك هو جوهر خطورته في ظن جماعات ” الشتات ” من المستوطين الجدد ، الذين تسربوا إلى الوطن من وراء حدود دول غرب إفريقيا وصحراءها .
تلك الجماعات المنغلقة ، التي لا تعرف الإنفتاح واحترام الإختلاف ، يمارسون بخبث شتى أنواع التمييز ، ضد كل من لا يطابق نموذجهم الثقافي .
بأهدافهم البغيضة ، للكيانات السودانية الأصيلة أرضا وتاريخا وحضارة .
فقد ظل أهل ” الشتات ” يرون في شخصية الأمير الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين ، كل سوءاتهم وضعفهم ، وفقرهم للقيم الإنسانية ونبلها ..
كان الأمير الشهيد طارق هو المرآة التي ينظر فيها
” الشتات ” ..
ويعرفون أنهم مجرد أجسام خاوية من ذكاءات الأرواح ، لا تعرف للحياة معنى إلا بسلب حق الآخر مالا ونفسا وأرضا .
ذلك هو الشهيد طارق عبدالرحمن بحرالدين الذي ظن المتوهمون أنه ، باغتيالهم له ، قد إغتالوا ذاكرة الأمة والبلد .
بيد أن مقتله أحيا وجدان الأمة السودانية ، حتى أصبحت دار مساليت جزءا من مشاعر كل سوداني أصيل لا ينام على ضيم .
ونقرأ ما كتبه عنهم جميعا حسين خوجلي : برقية في بريد جنينة السلطان تاج الدين
” إلى الجريحة المغدورة جنينة الشهيد السلطان تاج الدين الذي كسر صَلف الفرنسيين قديما وزرع ابتسامة الفخر على شفاه الأحرار قبل أكثر من مائة عام .
عزيزتي الجنينة إن السودان قد طوى إلى الأبد المساحة الرمادي فاختاري ما بين أبيض الحق وأسود الحقيقة ، وصباح الصيام وليل القيام. وأقبلي منا مجموعة من المشاعل المتلاحقة وهذا أولها حتى يكتمل التحرير والتغيير :
السلطان جنينتو الليلة أمست نايحه
والبنوت هناك ما بين قتيلة وصايحه
غدروها الشتات وجور الليالي الكالحه
يا المَسَلاتي كافح ولا شيل الفاتحة .. ”
ختاما ..
لك سلام الله في علياءك أيها الشهيد ، وجعل الله روحك في حواصل طير خضر تسوم من ثمار الجنة .

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
السبت 20 إبريل 2024م

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: دار مسالیت ذلک هو

إقرأ أيضاً:

دروس استلهمناها من زيارتنا لمقام الشهيد القائد ورفاقه

 

كانت الحياة تأخذنا في دوامة من التهميش والاستضعاف، كل شيء حولنا كان يوحي بأننا مجرد ظلال تمر في أزقة الأيام بلا أثر.

لا كهرباء، لا مستشفيات، لا مدارس، لا خدمات أساسية، ناهيك عن التزام المواطنين هناك بدفع كافة الجبايات من تلقاء أنفسهم.

ورغم ذلك، كنا نمنح الدولة الثقة وننتظر منها أن ترد الجميل، لكنها لم تفعل.

في هذا الظلام الموحش، كان هناك رجل يقف وحيدًا، يردد كلمات لم يسمعها أحد من قبل، لكنها لم تكن مجرد كلمات، بل كانت “بداية موقف”.

السيد حسين بدر الدين الحوثي (سلام الله عليه) لم يكن يطلب شيئًا لنفسه، بل كان يدعو الجميع ليكون لهم موقف.

ما هو الموقف؟

كلمات كانت تبدو بسيطة، لكنها حملت في طياتها معاني لم يكن أحد يتخيلها، معاني كُتبت بالدم ضد الأعداء، فكانت نتيجتها هذه العزة والشرف والشموخ الذي نعيشه اليوم. كلمات تُترجم بأفعال وتحرك عملي في الواقع ضد الأعداء..

قبل أن تشتعل الحرب الأولى.. كانت التهديدات تحيط بالشهيد القائد من كل زاوية ومكان، لكنه لم يخبر أحدًا بذلك، كان واثقًا بربه ومولاه، يسير في طريقه غير آبه بما يحاك في الخفاء.

تحرك بثقافة قرآنية، وقرآنية فقط، كان الوضع الاجتماعي هشًا، والخدمات شحيحة، ومنطقة واسعة بلا رعاية صحية.

ولأجل خدمتها، أرسل شبابًا إلى صنعاء ليدرسوا الطب ويعودوا بشيء من العلم لمجتمعهم.

أتى بطبيب ليعالج الناس، وحاول جاهدًا أن يجلب الكهرباء، بينما كان البعض في تلك الفترة يراجعون السلطات للإبقاء على “الظلام”!

من بعض اهتماماته المجتمعية، وحتى منتصف الليل، كان يعمل وحيدًا في الوحدة الصحية، يجهّز كل شيء، لأنه يرى في ذلك مرضاة لله وخدمة للمجتمع.

لم يكن يتحرك فقط في الجانب التنموي والخدمي، بل صنع وعياً وأحيا أمة وقاد المنطقة إلى مرحلة متقدمة على بقية المناطق في الموقف الظاهر والمعلن ضد أولئك الذين هزمتهم مسيرته وملازمه اليوم في البحر وفي مختلف الجبهات. ونتيجة لهذا الموقف الشجاع والنادر إلا من شخصه، جاء الأحد!

وفي الساعة العاشرة صباحًا بتوقيت صنعاء، وبينما كان القرار قد اُتخذ من واشنطن، دوّت أولى القذائف قرب منزله المتواضع.

خرج الناس مندهشين ينظرون إلى الدخان المتصاعد نتيجة القصف العنيف وغير المسبوق.

لم يكونوا يعلمون أن تلك اللحظات ستكون بداية حرب ستغيّر كل شيء…!!

كان العدو مدججًا بالسلاح: راجمات صواريخ مدفعية ثقيلة زحف عسكري منظم.

وعلى الجانب الآخر، لم يكن هناك سوى قلة من المؤمنين المقاتلين، بأسلحة بسيطة وإيمان منقطع النظير، لا يتزعزع ولا يلين.

وقف الشهيد القائد أمام رجاله، نظر في وجوههم وقال، وهو يشير إلى دبابة للعدو:

“يجب ألا تتقدم، فإن تقدمت فستؤذيكم”، ثم سأل: “من سينزل ليضربها؟ من لديه خبرة؟”

كان هناك قاذف واحد ورصاصتان فقط… نزل أحد المقاتلين ذو الخبرة، ورمى. لم يكن الأمر سهلًا، لكن الوضع العام يقول إنه لا مجال للتراجع…!!

في الخربان.. وهي منطقة تقع في أسفل الجبل، ظل “الشهيد السيد زيد علي مصلح” يقاتل لأسابيع، ومعه ثلة من المؤمنين.

تساقطت القذائف عليهم من كل مكان حتى تحولت الأرض المحيطة به إلى غبار.

ورغم ذلك، حين ارتقى شهيدًا، وبقيت جثته عند أعدائه، اهتزت الصفوف…!!

حينها قال الشهيد القائد (سلام الله عليه) بحزن

“رحم الله أخي زيد، فقد نال ما تمناه.”

وترجّل الشهيد زيد، ذاك الرجل العظيم الذي هتف من مترسه في الخربان في بداية العدوان على مران قائلًا:

“سأجعل من مكاني هذا سلمًا للنصر أو معراجًا للشهادة”.

وفي تلك اللحظات، لم يكن هناك مجال للحزن.. كان لا بد من استعادة الأرض وإعادة جثمان الشهيد زيد علي مصلح (سلام الله على روحه).

وقف المقاتلون مع الشهيد القائد وقفة حاسمة، وبعدها أعادوا الكرّة، وهاجموا، فتحررت الخربان رغم نزيفهم، وعادوا بزيد!

وفي خضم المعارك: كان هناك أب يُقاتل وابنه إلى جواره، فجأة! سقط الابن! فنظر إليه الأب للحظات، ثم أكمل القتال. لم يكن في الوقت متسع للبكاء أو الانكسار…!!

لم يكن هناك طعام كطعامنا، بل كان المقاتلون يقتسمون ما لديهم من بقايا خبز، والماء كان يُحمل إليهم على ظهور الحمير. لكن العدو، بحقده، لم يُبقِ حتى على “الحمير”، حتى لا تحمل الماء على ظهرها لأولئك الأبطال مرة ثانية، لأنه يريد أن يقتلهم عطشًا.. أو بأي طريقة.. المهم أن يقضي عليهم.!

وفي إحدى محطات تلك الملحمة التاريخية، في جامع الخميس بالتحديد، حيث كان يتجمع الجرحى للعلاج… بعضهم كان يتحرك بقدم واحدة ويسحب الأخرى، والبعض الآخر كان يحمل جرحًا بليغًا، وآخرون هناك في زاوية المكان، كان الكادر الصحي يخيط جراحهم دون “تخدير”، فقط ببعض الشاش والصبر.

ومن شدة وهول الجراحات، كان بعض المسعفين ينظرون إليهم بحزن وخوف عليهم، لكن الجرحى كانوا يطمئنونهم بعبارات مملوءة بالقوة والصبر ويقولون: “اشتغلوا، بدون تخدير! لا مشكلة!”

في جبل الشرفة، الذي يقع في الجهة الشرقية من مران ويطل عليه، استمر الصمود لمدة 48 يومًا.

وفي لحظة يأس، جاء أحد المقاتلين إلى الشهيد القائد وقال: “يا سيدي، قد أحاطوا بنا.”

نظر إليه الشهيد القائد بثبات وقال له: “الله من ورائهم محيط”.

وحين اشتد الحصار وضاقت الأرض بما رحبت وانقطعت سبل الدفاع، أصبح الماء والغذاء مجرد ذكرى بعيدة، احتمى المجاهدون بجسد قائدهم، كأنهم يلوذون بحكمة السماء حين تضيق بهم الأرض. كان الجرف آخر معاقل الصمود، ينقسم إلى شطرين، شمالي وجنوبي، وبينهما فتحة واهنة، كأنها شق في الزمن يفصل بين الحياة والموت.

من الفتحة الشمالية، كانت القذائف الغازية تتساقط، لا تحمل سوى الموت الصامت، تسرق الوعي وتبث الألم في الجراح. المجاهدون بلا درع يقيهم، بلا وسيلة تحجب عنهم سموم الحرب. تهاوى البعض تحت وطأة الاختناق، أجسادهم معلقة بين الحياة والموت، بينما الشهيد القائد ما زال يتحرك بينهم، يوزع قطعًا من القماش في محاولة لكبح تأثير الغازات، كمن يهب أنفاسه الأخيرة لمن حوله.

حينها، لم يبق سوى اللجوء إلى القسم الجنوبي من الجرف، حيث كان العدو يتربص بفتحة من الأعلى. انهالت القنابل المسيلة للدموع، وكان القائد في قلب المحنة، يأمر رفاقه بملء صناديق الرصاص الفارغة بالتراب، وإلقائها فوق القنابل في محاولة أخيرة لكتم أنفاسها، كما لو أنهم يسابقون الموت بالتراب.

ومع كل دقيقة تمر، كانت النيران المستعرة تحيط بالمكان، والأسلحة تنهش الصخور كما تنهش الأشلاء. وعندما غابت شمس يوم الخميس واشتد العجز، لم يجد العدو سبيلاً سوى زرع لغم هائل عند مدخل الجرف، لينفجر بعد لحظات، كأنما القيامة قد قامت في ذلك المكان. تساقطت الصخور، دفنت البعض تحتها، وسط أنين وصرخات الوجع، في حالة من الألم والخذلان.

لكن العدو لم يكتفِ، فسكب البترول وأشعل النيران، كأنه أراد أن يمحو آثار الصمود، أن يذيب الجسد والذاكرة معًا. غير أن السماء التي كانت تراقب بصمت أبت أن تكون النهاية وفق مشيئة القاتل. بقي القائد لبعض الوقت، وسط اللهب والدخان، ثم جاء فجر الجمعة 26 رجب 2004م حين صعدت روحه إلى حيث لا تصل إليه نيران البشر، تاركًا خلفه جرفًا محترقًا. لكنه في أعين رفاقه لم يكن سوى ضوء يخرج من بين الرماد.

وبينما كان يُحمل الشهيد القائد مضرجًا بدمائه..

وجنود وضباط العدو يحيطون به، يبتهجون بقتله وتصفيته، ظن الجميع وقتها أن النهاية قد حانت، لكن المعركة لم تكن قد بدأت بعد. وما تلك المأساة التي حدثت إلا بداية لميلاد فجر جديد..!

وها نحن اليوم نشهد على أحقية ما سار عليه حين رأينا ثمار ثقافته ومنهجه في مساندة «غزة» فارتقى اليمن بفضل هذا الموقف إلى أسمى مؤاتب العزة والكرامة.

«كن مع الله، تكن قويًا في كل مواقفك.»

وهكذا، استمر الصوت، لم يمت ولم ينتهِ، بل أصبح نداءً يتردد في كل الأقطار…!!! وتستمر المسيرة..

 

مقالات مشابهة

  • المنشد عبدالرحمن عبدالفتاح: بدأت من الإذاعة المدرسية وعبدالباسط مثلي الأعلى
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يسلّم 25 طنًا من التمور لجمهورية طاجيكستان
  • تحت شعار شعب أصيل.. مصر تحتفل بيوم الشهيد
  • غزل المحلة يحيي ذكرى يوم الشهيد طوال شهر مارس
  • الأمير محمد بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز يستقبل رئيس محكمة الأحوال الشخصية بالرياض
  • غياب عبدالرحمن عن مباراة النصر والاستقلال الإيراني بسبب الإصابة
  • انطلاق البطولة الرابعة للشباب بمديرية ذي السفال
  • دروس استلهمناها من زيارتنا لمقام الشهيد القائد ورفاقه
  • الاتحاد الرياضي في محافظة حلب يكرم ابن الشهيد عبدالقادر الصالح
  • من روسيا إلى تمير.. شاب يترقب هلال رمضان من المرصد .. فيديو