العربية والتعريب.. مرونة واعيّة واستقلالية راسخة!
تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT
تأخذ العربية -إذا شاءت- مقتدرة لا عاجزة، وتعطي -إذا أعطت- مستغنية لا خاضعة..
حقيقة وددت لو استحضرها الغيارى المتحمسون، وهم يتتبعون "موضات" و"حساسيات" اللغات الأجنبية، ويجاهدون في سبيل إسقاطها على العربية، وهم بذلك الاعتسار يحجرون واسعا، وظني أن القوم وقعوا في جرعة الحماس الزائد تلك عن حسن نية، لكن إنزال العربية على شرط اللغات الأخرى تصرف بين الظلع، وسوف أضرب لذلك مثلا، ثم أعطف على موضوع التعريب، لعلاقته المباشرة بذلك التحجير.
يستدعي القوم الطيبون صنيع الصينيين في ترجمة كلمة (Apple) بمقابلها في اللغة الصينية (الذي يعني التفاحة)، وفي هذا خرق لقاعدة منهجية وسنة علمية تقضي بأن الأعلام لا تترجم.. وعندي أن هذا الصنيع لا يخلو من "الحساسية القومية" الباعثة على "التحفظ الوقائي" المفرط، الذي يحكم إغلاق باب الانفتاح اللغوي في وجه غزو الدخيل؛ لفرط الإحساس بضعف المناعة، أو لمجرد التحرز وسد ذريعة تسرب الدخيل، أو لغير ذلك من الأسباب.
وللعربية "جهاز مناعة" ذاتي، ونظام حماية فطري يضبط سياسة "تجنيس" الدخيل عبر آلية "التعريب"، التي بوّب عليها إمام اللغة ابن جني حين عقد -في كتاب "الخصائص"- بابا ذكر فيه أن "ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم".
بل أبعد من ذلك نجد العربية تخالف السياسة اللغوية الصينية المتبعة في ترجمة اسم شركة (Apple) (حسب ما يذكر بعض مدوني مواقع التواصل الاجتماعي وصناع المحتوى الإلكتروني)، فأشهر أئمة النحو العربي -والاسم الأول في هذا العلم- هو سيبويه، وقد تواترت المراجع على أن معنى هذا الاسم (العلم): "رائحة التفاح"!
ولعمري لو اعتمد العرب الترجمة في "تعريب" ذلك الاسم لغصت أمات كتب اللغة بعبارة: قال رائحة التفاح ومذهب "رائحة التفاح" كذا وكذا..!.. ولكنهم تنكبوا الترجمة، وتركوا الاسم باقيا على أصله الفارسي المركب؛ فلم يتصرفوا فيه إلا بمجرد كتابته بالحرف العربي!
هذا عن ترجمة الأعلام، التي سلم فيها اسم سيبويه من التصرف الذي لحق بأسماء أعجمية كثيرة، طوعت بتحريف هيكلها الحرفي -حذفا أو إبدالا- كما في اسم هرقل، الذي هو تحريف للاسم الأعجمي (Heraclius)، ولذريق، الذي هو تحريف للاسم الأجنبي (Rodericus)، وكما في اسمي واشنطن، وبريطانيا.
وإنما سقت هذه الجزئية -استطرادا- لصلتها -غير المباشرة- بموضوع التعريب وارتباطها -الضمني- به، كما أشرت آنفا.
فأما التعريب فسوف أسوق له مثالا، اختلط فيه حابل الحماس الزائد بنابل التحامل الانطباعي، ولا ألفين متعجلا يقول: "أنت تشنأ الغيورين على العربية، وتشهر سيف العداء في وجوه سدنتها الذائدين عن حمى الضاد".. فما ذاك أردت، وإنما هو النقد والاستدراك مع توخي الأمانة العلمية ومراعاة التجرد الموضوعي ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.
ولو ترك النقد مداراة، واطرح الاستدراك مجاملة لضاع علم كثير، وصلنا عبر بساط النقد والاستدراك والتعقب والتصحيح، وأستحضر هنا -بالمناسبة- استدراك الزبيدي -مؤلف "تاج العروس"- على الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط"، وتعقب أحمد فارس الشدياق معجم الفيروزآبادي بكتابه "الجاسوس على القاموس" (وهو كتاب يعرف من عنوانه!).
بل نجد الزبيدي -المتأخر- لا يستنكف أن يكتب عبارة: "وَهَم صاحب القاموس"!.. ولم يزل المتأخرون من المعاصرين يستدركون على الفيروزآبادي -على جلالة شأوه وعلو كعبه.. وهذا في "مادة اللغة"، فكيف بالآراء الانطباعية؟!
أكتب هذا بين يدي تعقيبي على ما ذهب إليه ابن دولتي صاحب الأمالي محمد لغظف حين شنع على مجمع اللغة العربية، ونعى عليه اعتماد -وإجازة- كلمة "الترند"، والحق أن المجمع القاهري لم يزد على أن أعمل أصلا من أصول "التعريب" المبوب عليها في قواعد المجامع اللغوية العربية، التي تعتمد "المعرب"، و"الدخيل"، وتميل إلى "الاقتراض" تبعا لضوابط ناظمة ومحددات مقررة.
وليس في كلمة "ترند" تنافر حرفي ولا استعصاء نطقي، فهي -في قالبها الحرفي وهيكلها الشكلي- تشبه كلمة "فرند" التي تذكر المعاجم اللغوية العربية أنها من الدخيل (أي اللفظ الأجنبي المجنس، الذي ليس عربي الأصل)، وإذا حليت كلمة ترند بأداة التعريف (أل الشمسية)، ساغ نطقها، وذابت عجمتها.
وقد ساق الأستاذ محمد لغظف -في تسويغ اعتراضه على إجازة كلمة الترند- استطرادا احتج فيه بامتناع بعض المجامع اللغوية الغربية من إدخال كلمة (Trend) في "لغتهم الوطنية"، وذلك استئناس مردود؛ لأن للعربية كيانها اللغوي المستقل، فليست تحتاج إلى اتباع هذه "الموضة الوطنية" أو تلك "الحساسية اللغوية"، أيا كان مصدرها!
وما أجمل اجتماع الحسنيين: حلاوة الجرس الإيقاعي، ودقة التعبير الدلالي، وأصالة الاشتقاق في التعريب، فقرب المأخذ، وحضور السلاسة، وغياب التكلف، حبيب إلى النفس، سائغ في الذهن، ناعم الوقع في الأذن.. لكن التعريب (بالمفهوم الواسع) على أضرب.
ومن الأضرب القولبة الصرفية -مع الاحتفاظ بالأصل الأجنبي- كما في تعريب "التلفزة" و"التلفاز"؛ فهذا التصرف فيه زيادة على التعريف بـ"أل"، ومنه استعمال كلمات من العربية الفصحى لتعريب أسماء المخترعات العصرية ذات التسمية الأجنبية، كما في "الهاتف"، و"السيارة"، وقد يكون اسم المخترع العصري أقرب للشرح والتقريب فتكون ترجمته ركيكة، وحينئذ يتعين التعريب لدفع تلك الركاكة.
واللغة العربية -مع انفتاحها الواعي- ذات "استقلال تام"، يجعلها مختلفة عن غيرها من اللغات الشقيقة والصديقة.. فهي لا تساير الصينية -مثلا- في "حساسيتها اللغوية" التي أجاءت الصينيين إلى ترجمة اسم شركة (Apple) بمقابله الذي يعني "التفاحة"، ولو اتبعت العربية أهواء المجامع اللغوية الأجنبية، واستنسخت قوانينها لانهدّ ركن استقلاليتها واستلبت ذاتيتها الحية!
هذا، وإن للعربية ما ليس لغيرها من اللغات؛ فهي معصومة من الانقراض الذي عصف بلغات إنسانية كانت حية ذات يوم، وهي محفوظة من الانسلاخ الذي يهدد لغات أخرى تعيش على الحضور السياسي وتتغذى على التأثير الاقتصادي.
ولو كانت العربية تحت رحمة القوة السياسية والتأثير الاقتصادي لامحت من خريطة "التداول العالمي"؛ لاستسهال أهلها واستهانتهم بها، وتفريطهم في استشعار كونها "لسانا" و"هوية" -في وقت معا- ثم لضعف حضور الدول العربية، وانتكاس وطنية رسمياتها الحاكمة، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالشأن اللغوي، واتصل بـ"اللغة الرسمية".. وأعظم بها مفارقة حرى، وبلية مضحكة!
وبعد؛ فحسب العربية عامل بقاء وصك خلود أنها تستمد حفظها من حفظ الكتاب الذي بها نزل، وفيه أنزلت الآية العظيمة "9 من سورة الحِجْر": {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات کما فی
إقرأ أيضاً:
مبادرة “بالعربي” تحصد جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بدورتها الثالثة
حصدت مبادرة “بالعربي”، إحدى أبرز المبادرات المعرفية التابعة لمؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، والرامية إلى تشجيع استخدام اللغة العربية ومفرداتها في الحياة اليومية جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بدورتها الثالثة، تقديراً للإنجازات الكبيرة التي حقَّقتها في خدمة اللغة العربية ونشر الوعي اللغوي بين أفراد المجتمعات العربية. وكرَّم مجمع الملك سلمان للغة العربية، فريق المؤسَّسة خلال حفل تكريم الفائزين بالجائزة والذي تم تنظيمه مؤخراً في العاصمة السعودية الرياض.
وأعرب سعادة جمال بن حويرب، المدير التنفيذي لمؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، عن بالغ سعادته بحصول مبادرة “بالعربي” على هذا التكريم الرفيع الذي يثبت من جديد نجاح المؤسَّسة في تعزيز اللغة العربية وتكريس حضورها داخل الأوساط المعرفية والأدبية والمجتمعية، وتوسيع مساهمتها في المحتوى الرقمي العربي على الشبكة العنكبوتية، وقال سعادته: “لطالما سعت المؤسَّسة إلى إطلاق المبادرات واحتضان الفعاليات التي تُعنى باللغة العربية وتؤكد مرونتها وحيويتها وقدرتها على احتواء إبداعات الفكر الإنساني في كل زمان. وتمثِّل مبادرة “بالعربي” مثالاً نموذجياً في هذا السياق، إذ نجحت على مدار السنوات في تحفيز الأجيال الشابة لاستخدام لغتهم العربية كلغة تواصل على منصات التواصل الاجتماعي، وعمَّقت معرفتهم بكنوز العربية وقدرتها الاستثنائية على تقديم أساليب متنوعة ودقيقة للتعبير عن الأفكار”.
وأضاف سعادته: “يمثِّل الفوز بهذه الجائزة حافزاً جديداً للمؤسَّسة لمواصلة جهودها الدؤوبة في دعم اللغة العربية وتعزيز استخدامها اليومي عبر مختلف القنوات، والتمسك بها لغةً للعلم والمعرفة، فهي تمثل هويتنا وتختزل تاريخنا الحضاري وتعبر عن انتمائنا الأصيل لحضارتنا العربية العريقة”.
وحصدت مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة الجائزة عن فئة المؤسَّسات لفرع نشر الوعي اللغوي وإبداع المبادرات المجتمعية، تقديراً لما حققته مبادرة “بالعربي” من تعزيز لحضور العربية على المستويين الإقليمي والدولي، عبر تشجيع الفئات الشابة على التوسع في استخدام اللغة العربية على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي وتحفيزهم إلى إنتاج محتوى إبداعي يبرز جمالية اللغة ومكانتها الحضارية الفريدة.
ومن جهة أخرى، قدَّمت المؤسَّسة العديد من المشاريع الأخرى الدافعة لمسارات تمكين اللغة العربية، عبر استضافة العديد من المحاضرات والفعاليات، وإعداد الدراسات العلمية، وتنظيم الجلسات النقاشية التي تعنى بموضوعات الترجمة والأدب، فضلاً عن احتضانها المبادرات والمشاريع والفعاليات التي تُسهم في زيادة الوعي بأهمية اللغة العربية بصفتها جسراً للتواصل بين المجتمعات، ووسيلة حيوية لحمل الفكر واحتواء التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع الذي يشهده العالم.
وتُعد الجائزة تأكيداً جديداً لأهمية التعاون بين المؤسَّسات المعرفية العربية من أجل تعزيز الهوية اللغوية وإثراء الحراك الفكري داخل الأوساط المختلفة، حفاظاً على التراث اللغوي العربي الغني، وترسيخاً لقدرة اللغة على استيعاب تطورات المستقبل بكل ما تحمله من تحديات وفرص.