عربي21:
2025-04-28@00:50:52 GMT

إسماعيل هنية: عن الفقد والإكمال

تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT

* هناك أحداث تخلق أصنافا جديدة.. أشياء جديدة.. فروعا من خارج المعتاد وأفكارا لم يعهدها الناس. السابع من تشرين الأول/ أكتوبر هو النقيض الأبعد لكل هذا. جوهر الطوفان، بعد نصف عام على حصوله، يختصره مسمّاه: جرف للحدود وإطاحة بالفواصل. الطوفان هو عودة للفكرة الشاملة وتقريب لمساحات أريدَ لها أن تبدو منبتّة عن بعض، لقد عاد التوحيد، لا بوصفه مقولة عقائدية بل مزاجا للفكر والإدراك.

ونتاج هذا الجرف الشامل لم يكن فوضى، نتاجُه كان معنى مقدسا أصاب أعداء المقدّس في مقتل. حتى بين المعقول وغير المعقول، بين المؤكد والممكن والمستحيل، الحد بين هذه جميعا صار أشبه بالسديم. ومهما حاول الناقمون على السابع من أكتوبر، هؤلاء الذين يُكَنون عن توسّط ذكائهم وفقْر خيالهم بلفظ العقلانية، مهما قال ودبّج هؤلاء، فأبراج عاجهم سوّيت بالأرض، ووعي الناس أفلت من أيديهم. وسيحفظ التاريخ هذه اللحظة طويلا: كيف ارتبط أكبر تحرر في المخيلة الجماعية العربية، لا بمسألة فكرية ولا علمية ولا فلسفية، وإنما بضربة عسكرية لإسرائيل. هذا يخبرنا بكل ما يلزمنا عن "مركزية القضية" ومعنى هذا المفهوم.

* في العاشر من نيسان/ أبريل الجاري، شاءت الأقدار أن تسجِّل أداةُ تصوير مشهدا لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وهو في ردهة أحد المشافي في الدوحة يتلقّى خبرا ثقيلا ذاع سرّه الآن، وبعد أن دعا لأبنائه الشهداء بالتيسير والتسهيل، عقّب قائلا: "منكمّل"، ن المشهد كثيفا، لا بكثرته، بل بالعكس تماما؛ كثيفا بما غاب عنه، بالصمت الغالب فيه، بإيجازه وهدوئه واقتصاده، وبما حكاه سلوك رجل واحد -لحظة المُصاب- عن تاريخ حماس بأكملها؛ عن معدنها ومدرستها، وعن سرّ صعودها المنافي لحدود الممكن وضرورات المعقولمستأنفا زيارته للجرحى، وكأن شيئا -بالظاهر- لم يكن. لا حاجة للوجدانيات هنا، أمام مشهد كهذا أوفى ما يقدّمه المرء لمشاعره هو أن يشعر بها لا أن يجعلها مدار الكلام. ما يستحق كلاما فعلا هو مسألة المعنى، المعنى الذي كان من القوة ما جعل القائد يحيى السنوار يرسل أول خطاب علني ممهور باسمه منذ السابع من أكتوبر يعزي فيه رفيقَه وينوّه بمشهدية الاحتساب الأثيرة.

هذه لحظات لا تأتي على موعد مضروب، ويبدو وكأن يد الله -في غفلة من الجميع- تمتد من ثنايا الغيب لتُسفر الحجابَ عنها في كل قضية كبيرة. لحظةٌ تنصهر فيها آلاف الصور والمشاهد لتصبح صورتَهم جميعا وتختزل آلاف الفجائع بمشهد وحيد لا يبلغ الدقيقة، لا دم فيه ولا أشلاء، لكنه مضمّخٌ برائحتها ورازحٌ تحت ظلها ومفعمٌ بكرامة الأب الذي ظهر فيها. ومرة أخرى فها هو الطوفان من جديد، لا بوصفه اجتياحا عسكريا في السابع من أكتوبر، بل لحظة مهيبة في العاشر من نيسان/ أبريل، تجرف الحدود وتطيح بالفواصل وتُماهي آلاف الأشياء، وتحشد ألف شهيد وكأنهم أبناء رجل مكلومٍ واحد صار فجأة أبا للجميع.

* كان المشهد كثيفا، لا بكثرته، بل بالعكس تماما؛ كثيفا بما غاب عنه، بالصمت الغالب فيه، بإيجازه وهدوئه واقتصاده، وبما حكاه سلوك رجل واحد -لحظة المُصاب- عن تاريخ حماس بأكملها؛ عن معدنها ومدرستها، وعن سرّ صعودها المنافي لحدود الممكن وضرورات المعقول. مَن هي حماس منذ 37 عاما إلا هذا الأب الذي يعيش الفقْد على احتساب ويقابل كل فجيعة بعبارة: "منكمّل". تستحق هذه الكلمة، التي نطقها رئيس المكتب السياسي، أن تعَدّ واحدة من وثائق الحركة وبياناتها الأهم منذ نشأتها. "منكمّل" هي الكوجيتو الحمساوي، وخلاصة النهج العقائدي الذي خطّته حركات المقاومة في منطقتنا؛ "الإكمال" الذي يُرمِّم الفقْد ويَجبر الكسر ويدير آلة الفعل.

تسلل لقاموسنا مصطلح جديد تحت إهاب التعريب يدعى "الرمنسة"، ومعناه إسباغ الرومانسية على الأشياء وشحنها بالعواطف. وكغيره من مصطلحات أَدمنها كُتّاب ومثقفون، فهو ليس أداة تُعِين الناس على وصف ما يريدون، بل أداة تؤثر -على نحو مرهف ولئيم- بكيف يفكرون. ويندر أن تجد استخداما لهذا اللفظ إلا من باب الذم والانتقاص، فمُراده الفعلي هو ألا يواجه الناس مآسيهم بأدوات الصبر التي يعرفونها في تقاليدهم وتراثهم
* تداركا لكلام قد يقال، يجدر أن يسجل المرء هامشا قبل الخاتمة: لا أعرف صورة أوفى للطغيان الأوروبي على خيالنا من مقولة نبوية، لا تخص الخيال، وإنما تخص شيئا مختلفا تماما: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكله أصابَه غبارُه". بكل معنى فكري وثقافي يمكن استحضاره، أكثرنا اليوم مجلّل بالغبار، أبشع أشكال هذا الاجتياح للمخيلة العربية يحصل تحديدا من بوابة اللغة. لا يعود الأمر هنا مجرد غبارٍ باستعارة الصورة النبوية، بل عاصفة رملية عاتية.

قبل سنوات، تسلل لقاموسنا مصطلح جديد تحت إهاب التعريب يدعى "الرمنسة"، ومعناه إسباغ الرومانسية على الأشياء وشحنها بالعواطف. وكغيره من مصطلحات أَدمنها كُتّاب ومثقفون، فهو ليس أداة تُعِين الناس على وصف ما يريدون، بل أداة تؤثر -على نحو مرهف ولئيم- بكيف يفكرون. ويندر أن تجد استخداما لهذا اللفظ إلا من باب الذم والانتقاص، فمُراده الفعلي هو ألا يواجه الناس مآسيهم بأدوات الصبر التي يعرفونها في تقاليدهم وتراثهم.. ألا يستلّوا معنى من وسط الفجيعة يستندون له ويصطبرون اتكاء عليه، فهذه كلها "رمنسة للمعاناة" كما يزعم أنصار هذه التقليعة اللغوية الجديدة؛ المعاناة التي يراد لها أن تظل كريهة ودميمة ولا شيء آخر. للأمم التي استقرت أمورها ولا تحتاج نضالا دمويا لتحرر نفسها، فإنّ ترفَ الحال يسمح بهكذا ألفاظ، لكن ماذا يفعل لفظ كهذا في حَيّنا الغارق في الدم؟ هذا سؤال يستحق التفكير في وجه التسفيه الليبرالي الدائم لقيم الاحتساب والصبر ولأدبيات المقاومة ومغالبة الفقْد والإصرار على "الإكمال". ماذا يبقى لنا، بل وماذا يبقى منّا، لولا هذه الأشياء؟

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حماس هنية الصبر حماس غزة هنية الصبر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من أداة ت

إقرأ أيضاً:

OpenAI تطلق نسخة «خفيفة» من أداة البحث العميق في ChatGPT

أعلنت شركة OpenAI عن إطلاق نسخة "خفيفة" من أداة البحث العميق الخاصة بـ ChatGPT، لتصبح متاحة لمشتركي خطط Plus وTeam وPro، على أن تصل أيضا للمستخدمين المجانيين ابتداءً من اليوم.

وتعتمد النسخة الجديدة على نموذج OpenAI المحدث "o4-mini"، وهو إصدار أقل قوة من أداة البحث العميق الأصلية، لكنه يتميز بتكلفة تشغيل أقل، ما يسمح بزيادة حدود الاستخدام للمستخدمين، بحسب ما أوضحت الشركة.

OpenAI تبدي اهتمامها بشراء متصفح كروم من جوجلنماذج OpenAI الجديدة أكثر ذكاء... لكنها "تتخيل" أكثر من اللازم

وقالت OpenAI في سلسلة منشورات على منصة “إكس”: “الإجابات ستكون عادة أقصر، لكنها ستحافظ على العمق والجودة التي اعتدتم عليها، وبمجرد وصول المستخدم إلى الحد الأقصى لاستخدام النسخة الأصلية، يتم التبديل تلقائيا إلى النسخة الخفيفة”.

وتأتي هذه الخطوة في وقت تشهد فيه سوق أدوات البحث الذكي تنافسا متصاعدا، مع إطلاق أدوات مشابهة من قبل شركات كبرى مثل جوجل Gemini ومايكروسوفت Copilot وxAI جروك. 

وتعتمد هذه الأدوات على نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على التفكير المنطقي والتحقق من صحة المعلومات، وهي مهارات بالغة الأهمية عند إجراء أبحاث معمقة.

وأكدت OpenAI أن النسخة الخفيفة من أداة البحث العميق ستتاح لمستخدمي خطط المؤسسات والقطاع التعليمي الأسبوع المقبل، بنفس مستويات الاستخدام المتوفرة لمشتركي خطة Team.

OpenAI تطلق جيلا جديدا من الذكاء الاصطناعي يعتمد على التفكير قبل الإجابة

جدير بالذكر أن شركة OpenAI، أعلنت عن إطلاق نموذجين جديدين من نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة o3 وo4-mini، وهما من فئة النماذج "الاستدلالية" المصممة خصيصا للتفكير والتأمل قبل تقديم الإجابات، في محاولة لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي على التحليل العميق وحل المسائل المعقدة.

ووصفت الشركة نموذج o3 بأنه "الأكثر تقدما" على الإطلاق في مجال الاستدلال، متفوقا على جميع إصداراتها السابقة في اختبارات تشمل الرياضيات والبرمجة والمنطق والعلوم وفهم الصور. 

واحدة من أبرز المزايا الجديدة في هذه النماذج هي قدرتها على التفكير باستخدام الصور، إذ يمكن للمستخدمين الآن رفع صور مثل الرسومات على السبورة أو المخططات من ملفات PDF، ليقوم النموذج بتحليلها كجزء من عملية التفكير قبل إعطاء الإجابة. كما يستطيع التعامل مع الصور منخفضة الجودة، وإجراء عمليات مثل التكبير أو التدوير أثناء التحليل.

طباعة شارك OpenAI ChatGPT Gemini الذكاء الاصطناعي

مقالات مشابهة

  • احتدام المنافسة في الذكاء الاصطناعي.. طرح أداة بحث منخفضة التكلفة
  • أوبن إيه.آي تطلق نسخة خفيفة وسريعة.. هذا الهدف منها
  • ساعة أبل.. رفيق ذكيّ يجعل حياتك أسهل!
  • عسكرة الذكاء الاصطناعي .. كيف تتحول التكنولوجيا إلى أداة قتل عمياء؟
  • والدة بيسان إسماعيل تُحرج خطيب ابنتها.. فيديو
  • OpenAI تطلق إصداراً جديداً من أداة البحث العميق
  • OpenAI تطلق نسخة «خفيفة» من أداة البحث العميق في ChatGPT
  • إسماعيل يوسف: كولر يتحمل مسؤولية خروج الأهلي.. وهذه ليست شخصية الفريق
  • OpenAI تطرح نسخة خفيفة من أداة ChatGPT المخصصة للبحوث المتقدمة
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع