سودانايل:
2025-01-31@18:59:00 GMT

الحزب الشيوعي والحرية والتغيير

تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT

في مقال سابق لي بعنوان "الحرب العبثية بين الأدلجة ومعركة تكسير العظام"، تناولت بالنقد دور الحزب الشيوعي السوداني في إضعاف التجربة الديمقراطية الرابعة، واسقاط حكومة حمدوك، وقد كان نقدي قاسياً بقدر حجم المُنتَقَد، والدور التاريخي المؤثر الذي لعبه في توجيه دفة السياسة السودانية منذ تأسيسه في أربعينات القرن المنصرم حتى تاريخه، وهو دور ممهور بكثير من التضحيات، والجسارة، والفكر الإبداعي النضالي، لكن الحزب، ككافة الأحزاب الوطنية السودانية، لم يكن بمأمن من الاستهداف والاختراق، والتأثر بالحالة العامة للسودان من وهن وفقر ومرض وتخلف، لكن موقفه، خلال تجربة الدولة المدنية، تحت مظلة حكم حمدوك، كان لا يشبه الحزب، بأي حال من الأحوال، حتى وهو في أسوأ حالاته.


جاءتني بعض الملاحظات والعتاب، من أشخاص، أكن لهن ولهم، احترام عميق، بأنني لم أكن منصفاً في حق الحزب الشيوعي، وأن انسحاب الحزب من تحالف الحرية والتغيير كانت له مبرراته، وأن الحزب لم ينسحب، إلا بعد أن أوصدت في سبيله وسبيل الثورة الأبواب وسدت السبل، وكان قد أصدر عدة بيانات في أبريل ومايو 2019 موضحا فيها موقفه الرافض لأي انقلاب عسكري، أو إبقاء أي من رموز النظام البائد على سدة الحكم، أو أي شكل لإعادة انتاج الأزمة، بإنتاج النظام المندحر، كما طال الحزب بالحل الجذري للأزمة الوطنية، واجتثاث نظام الفساد والاستبداد والاقتصاد الطفيلي من جذوره، ومحاكمة كل من أجرم في حق الشعب السوداني، ورفضه لأي محاولة لتكريس الأمر الواقع، والاعتراف بأي سلطة عسكرية، والعمل على قيام حكومة مدنية مدتها أربع سنوات تكونها القوى الوطنية التي صنعت الثورة لتحقق حلم سودان الغد (سودان بكرة)، ودعت تلك البيانات الشباب على البقاء في الميدان حتى تحقيق النصر المؤزر. كما طرح الحزب الشيوعي برنامج التغيير الجذري الذي دعا فيه لتسريح كافة المليشيات المسلحة وتكوين جيش وطني مهني بعد إعادة هيكلته...إلخ.
لا شك في أن هذه المطالب ليست موضع خلاف بين مكونات الحركة الوطنية، ولا يتناطح فيها عنزان خرجا وبح صوتهما في هذه الثورة، لكنه برنامج ليس في حاجة لعمل سياسي بل إلى عصى موسى، لتحقيقه في تلك الظروف، فمن هو العسكري الذي بيدة السلاح والسلطة الذي يرمي سلاحه، ويتخلى عن الثروة، ويسلم نفسه إلى أقرب مركز بوليس ليحاكم ويسجن لو لم يعدم؟.
المثل يقول إذا أردت إن تطاع فأمر بالمستطاع، و(مد كرعيك على قدر لحافك)، حكم موجزة تلخص لنا كيف نقدر ونتصرف ونقرأ الواقع الذي حولنا.
عندما انتصرت الثورة السودانية في 11 أبريل 2019 كان الجميع يدرك ومتفق بأن ذلك النصر كان نصراً محدوداً، ولاستكماله كان لابد من مواصلة الثورة بصبر وتؤدة، حتى تحقق غاياتها، ولأن الثورة كانت سلمية، شباب عزل ضد خصم شرس، مؤدلج، مسلح، لايري الحقيقة إلا من خلال ما تصوره له آلته الإعلامية، خصم متمكن من كل مفاصل الدولة، والثروة، بيده أكثر من 80% من مداخيل الاقتصاد السوداني، كان لابد من الجلوس والتفاوض والحوار مع قيادة الجيش وربيبه الدعم السريع، ما يسمى باللجنة الأمنية التي كونها البشير في أواخر أيام حكمه، والتي آلت إليها أدوات السلطة من سلاح وسيطرة اقتصادية، وكان لابد للعب على أوتار التناقضات وتضارب المصالح، دراسة الواقع وتحليله، المحيط الإقليمي والمحيط العالمي ودول الجوار، والأهم من كل ذلك الاختلاف ما بين قيادة الدعم السريع ممثلة في الفريق محمد حمدان دقلو، وقيادة الجيش المؤدلجة ممثلة في عبد الفتاح البرهان وبقية عقده الفريد، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية للثورة، وصون الدماء وتسكين الدهماء. وكانت قوى الثورة في تحالف الحرية والتغيير في أمس الحاجة لخبرات وتجارب الحزب الشيوعي، خاصة في تحليل الواقع وفن التفاوض، وذلك لما يملك من خبرات متراكمة من كوادر عركتها الحياة السياسية مثل عبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد والخاتم عدلان ودكتور الشفيع خضر، وكان شخص بخبرات وكاريزما وحكمة المهندس صديق يوسف يمكن أن تسهم اسهاماً كبيرا في تسيير الأحداث وتغيرها وتحقيق المكاسب للثورة، وفعلا كان للمهندس صديق يوسف دور زعامي وقيادي في التحالف وحظي باحترام الجميع وكان من الممكن أن يسهم بدور أكثر فعالية في مجلس رأس الدولة المكون من قيادة الجيش والدعم السريع وستة من المدنيين، ولم يكن مجلساً شكلياً، كما هو في الأنظمة البرلمانية، بل لعب المجلس أدوار سياسية حاسمة في الفترة الانتقالية، وكان من أسباب انقلاب البرهان في أكتوبر 2021 هو تسليم رئاسته للمدنيين حسب ما جاء بالوثيقة الدستورية.
في خضم ذلك الصراع السياسي المحتدم بين اللجنة الأمنية الممثلة في القيادات العسكرية والمدنيين أصدر الحزب بيان بسحب ممثله المهندس صديق يوسف وانسحابه من تحالف الحرية والتغيير، رافضا ما أسماه بالهبوط الناعم، وطرح طريق آخر للمضي فيه وهو طريق التغيير الجذري... والآن لا عدنا نملك هبوطاً ناعماً أو خشناً، بعد أن خسرنا كل شيء وعدنا إلى مربع (ون) نبحث عن وطن يأوينا.

عاطف عبدالله

atifgassim@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی

إقرأ أيضاً:

تعقيب على مذكرات محمد سيد أحمد الحسن

بقلم عبد الله رزق ابو سيمازه

على مشارف المائة (حيث ولد حوالي عام ١٩٣٠)، توفي السيد محمد سيد أحمد الحسن، بعد حياة عمرها بالكدح، وبالكفاح والنضال، كناشط وفاعل إيجابي في وسطه الاجتماعي والسياسي، كما تعكس ذلك مذكراته التي أعدها وحررها، ابنه المهندس عادل سيد أحمد، تحت عنوان: (في سياق الأحداث: مذكرات محمد سيد أحمد الحسن)، والتي يمكن النظر إليها، أيضا، كأمثولة في البر بالوالدين.
ورغم تقدمه في السن، فقد حافظ الراوي، وهو يملي مذكراته، على ذاكرة متقدة، مكنته من استعادة تفاصيل ما عاشه او عايشه من الوقائع والأحداث المهمة، والاسماء والتواريخ، بكثير من الدقة.
تعكس المذكرات، من ناحية، الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، لمنطقة حيوية من مناطق الخرطوم، هي منطقة الديوم، جنوب السكة حديد، وتوثق، من ناحية أخرى، مساهمة صاحب السيرة، محمد سيد أحمد الحسن، في تلك الحياة، بكل تنوعها وعنفوانها. وقد اؤتي محمد سيد أحمد، وهو الذي لم يتلق تعليما نظاميا كافيا ومتقدما، حظا كبيرا من الكاريزما وقوة الارادة، والمهارات و الجدارات القيادية التي اهلته لأن يكون في الطليعة دائما : رئيسا لفرع الحزب الشيوعي بالمنطقة منذ أن انتمي للحزب، وسكرتيرا للمديرية، ورئيسا للنادي و للجمعية التعاونية والخيرية، وقائدا نقابيا بارزا، ومن قبل، شغل موقع مرشد لجماعة الاخوان المسلمين... (لحسن الحظ، فان الجماعة، على عهد مؤسسها، حينذاك، على طالب الله، لم تكن حزبا سياسيا، وإنما كانت مجرد جمعية دينية تحض على مكارم الأخلاق.)
شكل نشاط محمد سيد أحمد ضمن الحزب الشيوعي، في المنطقة، جانبا كبيرا من المذكرات، والتي غلب عليها طابع القصص والحكايات القصيرة والنوادر، حيث يتجلى التاريخ، الذي يصنعه الناس العاديون، وهم يمارسون حياتهم العادية، دون جلبة او ضوضاء، او كثير ادعاء، فيما اختار لها المحرر، المهندس عادل سيد أحمد، قالب الانترفيو (Interview)، بدلا من السرد، كشكل فني، ربما لم يكن معهودا، في كتابة المذكرات.
لكن صاحب المذكرات لم يكن مجرد كادر سياسي في حزب ثوري. فهو، مثل مالكولم إكس، ثقف نفسه بنفسه، عبر اطلاع واسع، ليبرهن بأن القراءة المثابرة، تعين في تغيير الفرد، وبما تفتحه أمامه من آفاق للمعرفة غير نهائية، تمكنه من المساهمة على نحو فعال في تغيير مجتمعه. فالراوي، ومنذ ان غادر مسقط رأسه في المقل، في أقصى شمال البلاد، قاصدا الخرطوم، وهو صبي يحمل في دواخله مشروع رجل عصامي، قد توفر على عقلية متفتحة، وطاقة ديناميكية، يسرت له النجاح باستمرار في سوق العمل، بالذات، الميدان الحيوي للنشاط الفاعلية. فهو لم يكتف بالعمل في شركة شل، لكنه ارتاد ميادين أخرى للعمل، انعكس في ترقي وضعه الاجتماعي، حتى ان بعض زملائه في الحزب استنكف التعامل معه بحجة انه أصبح برجوازيا، ويعيش في مستوى حياتي مترف: البيت الفخم المزود بالثلاجة والتلفزيون بجانب السيارة.. الخ
ولان محمد سيد أحمد، صاحب السيرة، قد شغل، من جهة، والي حد كبير بحياة الفكر، على حد تعبير إتش دي لورانس، وحياة الكدح وبالكفاح، والنضال، في جبهاته المتعددة: فرع الحزب، النقابة، الجمعية التعاونية، النادي.. الخ، من الجهة الأخرى، فقد غابت من مذكراته ملامح الحياة الثقافية والفنية والرياضية لمنطقة الديوم، والتي كانت عاصمة لفن الغناء، خاصة، موازية لأم درمان.
غير بعيد من هذا السياق، َوردت، عرضا، الإشارة لبيت العزابة، دون تفصيل. وبيت العزابة، والذي قد يكون وكرا حزبيا، تنعقد فيه الاجتماعات، وتخرج منه المنشورات، ويختفي فيه الملاحقون والمطاردون من قبل الأجهزة الأمنية. فهو ظاهرة او كينونة اجتماعية - ثقافية - سياسية شديدة الاثارة. وقد اشتهرت بيوت العزابة، في المدن الكبيرة خاصة، باحتضانها القعدات، التي يؤمها سياسيون وأدباء ومغنون، وجمعت، بجانب شريحة الأفندية، فسيفساء من أبناء الطبقة الوسطى، حيث وفرت لهم إطارا لممارسة حيواتهم السرية. بجانب ذلك كانت مختبرا لكثير من ناشئة الفنانين لإنضاج تجاربهم وتلمس خطاهم على طريق الفن..
وعلى الرغم مما توفر لصاحب المذكرات من قدرات وخبرات ومعرفة ووعي، إلا أن القارئ قد يلاحظ انه، كناشط سياسي، كان ينقصه الطموح. فلم يتطلع لان يكون عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الشفيع احمد الشيخ، مثلا. ولم ينخرط بقوة في الصراع الداخلي، لترجيح كفة اي من طرفي الصراع، أثر الخلاف الذي أحدثه الموقف من انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩، وما ترتب عليه من صراعات وانقسام في الحزب. وقد انتهى به هذا الاستنكاف الصراع، والذي ربما كان منطلقه رؤية مثالية للحزب وللشيوعية، موغلة في الرومانسية الثورية، الي أن يرى في الانقسام نهاية الحزب، ومبرر، من ثم، لاعتزاله العمل العام.
خلت المذكرات، بشكل لافت للنظر، من تعليق صاحب المذكرات على فوز السكرتير العام للحزب الشيوعي، محمد ابراهيم نقد، في دائرة الديوم وحي الزهور، في انتخابات عام ١٩٨٦، والذي قد يري فيه محصلة تراكمية لجهوده ونضالات مع زملائه من الشيوعيين، وتتويجا لتلك الجهود والنضالات الممتدة.

عبد الله رزق ابو سيمازه
القاهرة - الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥م.

amsidahmed@outlook.com  

مقالات مشابهة

  • بالفيديو .. من هو عاطف نجيب ابن خالة الأسد الذي تسبب باشتعال الثورة السورية؟
  • هذه هويّة الشخص الذي عُثِرَ على جثته يوم أمس داخل مجرى نهر أبو علي
  • تعقيب على مذكرات محمد سيد أحمد الحسن
  • صحيفة تكشف.. عشرات الملايين من الدولارات تصل إلى الحزب
  • اتفاقات نوعية مع الخارج تنتظر والرئيس عون يعطّل الألغام
  • جيش المشرق.. أنشأته فرنسا وكان بذرة لهيمنة العلويين على سوريا
  • ترامب يعلق على حادث تحطم طائرة الركاب في واشنطن: "وضع سيء وكان يمكن منعه"
  • فيديو الجيش في منشأة الحزب.. رسالة إلى الخارج
  • دولفين يرد الجميل للبحار الذي أنقذه.. فيديو
  • المخرج خالد الحلفاوي: والدي علمنا احترام النفس.. وكان يختار أدواره بعناية