لماذا لم تتم دعوة الخارجية السودانية لمؤتمر باريس !
تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT
بقلم: محمد بدوي
من البديهي أن الانقلاب العسكري في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ في السودان أنتج حالة دستورية وسياسية جديدة، على المستوي الإقليمي سارع الاتحاد الإفريقي الي تجميد عضوية السودان في ٢٧ أكتوبر٢٠٢١ لان ما تم يخالف للنظام الاساسي للاتحاد الافريقي الذي يناهض الانقلابات العسكرية، داخليا تم اعتقال واقصاء للمكون المدني المشارك في السلطة، أعقب ذلك إلغاء للقرارات الإصلاحية التي تمت خلال الفترة السابقة ل٢٠ أكتوبر ٢٠٢١، على المستوي الشعبي خرج الشارع الذي ثار ضد حكومة الحركة الإسلامية وجناحه السياسي حزب المؤتمر الوطني ثارا ضد الانقلاب، استمر الحال رغم ثورة الشارع والجهود الاقليمية والدولية لإنهاء الانقلاب كاشفا عن الصراع الذي ظل صامتا بين المكون العسكري الممثل في المجلس السيادي الانتقالي الذي انتهي بإشعال حرب ١٥ ابريل٢٠٢٣ المدمرة.
عقب بدء الحرب أشار مجلس الأمن الدولي في أول تناول له إلي توصيف الحالة بالصراع الداخلي، ثم برز منبر جدة للتفاوض والذي انتهي الي تمثيل الاطراف بالقوات المسلحة والدعم السريع رغم المحاولات التي بذلتها وزارة الخارجية لتغيير الامر ليتم التمثيل عبرها بما يضفي صفة الحكومة بدلا من الجيش كمؤسسة تحت مظلتها، استمرت الحالة بإقالة بعض شغالي المناصب السيادية والدستورية الذين تقلدوها بموجب إتفاق سلام السودان ٢٠٢٠" إتفاق جوبا"، لا أود الخوض في دستورية الأمر في هذا الحيز، لكن عدم تسبيب القرارات والابقاء على آخرين في مواقعهم مقروءة مع حالة الانقلاب في ٢٠٢١ دعمت ما ذهب اليه مجلس الامن في توصيف الصراع بالداخلي بين المكون العسكري كأطراف رئيسية .
لعل الجوهري في السياق هو تراكم سجل القمع وازدياد خطاب الكراهية بشكل عنيف معززا منحي استمرار الحرب وفي المقابل، سجل واسع لانتهاكات حقوق الانسان من الطرفين بما قاد مجلس حقوق الانسان الي تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، تعثر لجهود المساعدات الانسانية، تراجع للاقتصاد بنسبة تخطت ال٥٠٪، تدمير للبنية التحتية والخدمات الاساسية المرتبطة بالحق في الحياة، تأثر دول الجوار الغربي ولا سيما التي ظلت تعتمد على ميناء بورتسودان، كما قاد توقف الخط الناقل لنفط دولة جنوب السودان الي تراجع اقتصاد حاد، وتأثرت كذلك بعض الدول المرتبطة لفترات طويلة يمكن القول من ٢٠٠٥ باقتصاديات دولة جنوب السودان، والهجوم على مصنع صك العملة الي توقف طباعة العملة السودانية وكذلك عملة دولة الصومال الفدرالي التي تطبع بالخرطوم منذ ٢٠١٠ والتي اثرت في تحول التعامل المالي للمتعاملين بالعملة الصومالية الي الاستعانة بالتحويلات الرقمية عبر الهواتف والحسابات المصرفية.
التدخل الاقليمية والدولي الذي برز من بداية الحرب لكنه منذ اغسطس ٢٠٢٣ تطور إلي مسار انتقال القتال الي استخدام المسيرات ثم برز تطور اخر في اكتوبر٢٠٢٣ الي ظهور كأشكال اكثر تطورا للأسلحة تعمل بشكل تكميلي عرفت في اعلام الحرب ب " المنظومة" التي برز تأثيرها في تمكن الدعم السريع من السيطرة على حامية الجيش باردمتا بغرب دارفور ثم ظهرت لدي الجيش في اعادة السيطرة على مبان الاذاعة بامدرمان .
عودة العلاقات بين بورتسودان وظهران اعادة لفت الانتباه الي مسار الحالة، واثارت قلق بعض الدول التي تراخت في جهودها التي بداتها كالمملكة العربية السعودية ومنبر جده، على خلفية ان نظام الحركة الاسلامية ظل مقاوما ل٢٦ عاما عمر العلاقة مع طهران ١٩٨٩- ٢٠١٥ وبمجرد انهاءها والتحول الي محوري الامارات والسعودية، تصاعد الصراعات داخل التنظيم والحزب وفقد القادة السيطرة نتيجة للاختراقات التي وصلت الي المفاصل الحساسة بالدولة والتنظيم.
اخيرا جاء مؤتمر باريس وغابت دعوة الحكومة، لكن السجل القريب للحرب كشف ان الظهور الكثيف لكتائب البراء الاسلامية، واعلان حالة الطواري في عدة ولايات واتساع حملات التعبئة من الطرفين التي تتصاعد نحو نسق عرقي في أحدى مظاهرها وظهورها في المنابر الرسمية قادت الي ان بدأت بعض الدول المجاورة في ادارة ظهرها للأطراف في ظل تجاهل نداءات وقف الحرب واستهداف المناطق الاهلة بالمدنيين
خلاصة المشهد التحولات المختلفة والمتواترة في الحالة وتأثيرها على المدنيين والبنية التحتية للبلاد وموارده، اضافة الي تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على دول الجوار واستقرار المنطقة طرح سؤال ماذا بعد مؤتمر باريس ! لتاتي الاجابة في ظل الصراعات المتصاعدة في اوكرانيا، غزة وايران الان على الخط فان الدعم المالي الي جانب طبيعته الانسانية الا انه سياسيا اكسب المانحين شرعية التدخل، بتعبير آخر " الدول المانحة تتدخل بحقها " وهو ما يدفع الب رجحان طرح العودة الجادة الي منبر جده والذي تأطر الحضور فيه كأطراف تحت مسمي الجيش والدعم السريع رغم خطل اقصاء المدنيين دون اقصاء يظل ذلك يفسر عدم دعوة الحكومة لمؤتمر باريس، لأن ما قد يعقب فشل ذلك فربما يقود الي عقوبات فردية بما يجعل اعلانها مربوط بأفراد لطبيعتها في المقام الاول وكيانات اذا نحت نحو العقوبات الاقتصادية، في حال التخطيط للعودة لمنبر جدة على المسهلين استخلاص الدروس من التجربة فقد جاء المنبر اقصر قامة من الازمة وادواته اقل شمولا وما بصم على ذلك توقفه منذ مايو ٢٠٢٣، وتمركزه الجغرافي في قارة دوني ادني اعتبار لتأثير فكرة المكان على شرعية مناهضة التدخل الاقليمي والدولي في دعم اطراف الحرب، وإغلاقه على الطرفيين بينما يتحمل الملايين من المدنيين تكلفة ذلك وهم دون ادني تمثيل حقيقي .
أخيرا : بعد عام من الحرب والحصيلة المريعة من الانتهاكات التي اشرنا اليها فامتداد القتال نحو مدن مليط والفاشر واستمراره في ولاية الجزيرة، واتساع محيط القصف الجوي للاعيان المدنية حول الدلنج، مدني، نيالا والفاشر وغيرها هي خلاصة موقف اطراف الحرب بما يطرح سؤال حول موقف المجتمع الدولي وهل هو جاد في الضغط على الاطراف لوقف الحرب !
badawi0050@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الجيش والمستقبل السياسي في السودان
يعتبر عقدي السبعينات و التسعينات في القرن الماضي الأكثر تأثيرا في التغييرات التي طرأت على القوى السياسية في السودان، و غيرت المعادلات السياسية التي ما تزال مؤثرة في السياسة حتى الآن.. عقد السبعينات شهد توقيع "اتفاق بورتسودان" 1977م بين الرئيس نميري و الصادق المهدي رئيس الجبهة الوطنية، و الاتفاق ليس أتفاقا بين متحاربين فقط بالسلاح و أرادا الاحتكام للعقل بالتوافق على التبادل السلمي للسلطة.. و لكن الاتفاق في جوهره يعد أعترافا من القوى السياسية خاصة " حزب الأمة و الحركة الإسلامية" بقبولهم بفكرة " دولة الحزب الواحد" و كان من قبلهم " أعتراف الحزب الشيوعي و القوميين العرب" الذان نفذا انقلاب مايو 1969م، و المجموعة الماركسية التي ذهبت مساندة لنميري دون حزبها بقيادة عبد الخالق محجوب هي التي هندست فكرة " دولة الحزب الواحد" مع المجموعة العروبية.. أن سيادة فكرة " دولة الحزب الواحد" أضعفت الدفع بتصورات حول قضية الديمقراطية، و مادام الكل كان محصورا في محور " دولة الحزب الواحد" التي تأسس عليه أتفاق بورتسودان1977م، يصبح الكل يعمل من أجل ذلك بالأدوات التي تستطيع أن تحقق له ذلك..
ساعد اتفاق بورتسودان 1977م، الحركة الإسلامية أن تتحول من حركة صفوية محصورة في قطاع النخب الصفوية إلي قوى سياسية تتمدد في القطاع الشعبي، باعتبار أن قيادتها السياسية استطاعت أن تستثمر حالة الهدنة في تشييد صروحها المالية التي ساعدتها على اتساع حركتها السياسية.. في هذه الفترة ضعفت القوى السياسية الفاعلة في القطاع الطلابي حيث ظهر تنظيم " الطلاب المستقلين" الذي أثر تأثيرا مباشرا في الحراك السياسي الطلابي و تنمية قدراته، خاصة أن الحزب الشيوعي كان يعاني من تأثير الانقسام عليه و ما تزال قياداته تعمل تحت الأرض، و كانت الحركة الإسلامية تشعبت أهتماماته في ذلك الوقت.. كان الاتحاديون الذين رفضوا الاتفاق قل عطأهم السياسي بعد موت الشريف حسين الهندي، الذي كان يراهن على قطاعين الطلاب و العمال.. الأمر الذي اعتمد التغيير في إبريل 1985م على نقابات القوى المهنية " التجمع النقابي " و ليس على القوى السياسية، هذه التغيير غيب فكرة رؤية كيفية تتم عملية التحول الديمقراطي..
عقد التسعينات فقدت فيها بعض القوى السياسية أهم دعائمها في ذلك الوقت، إضعاف نظام صدام حسين الذي كان داعما لحزب البعث العربي الاشتراكي في السودان له أثر في ضعف حزب البعث في السودان، و اكان نظام صدام يوفر للحزب في السودان التمويل المالي للحركة، و مئات الفرص التعليمية في الجامعات العراقية كواحدة من أهم أداة للحزب في الاستقطاب وسط الشباب.. الثاني سقوط حائط برلين و سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث كانوا يفروا للحزب الشيوعي التمويل المالي و مئات المنح الدراسية الي تتيح للحزب الاستقطاب وسط الشباب و النخب المثقفة، الأمر الذي أثر سلبا على أحداث تغييرات جوهرية داخل الحزب من الناحيتين التنظيمية و الفكرية، الأمر الذي أدى إلي تراجع كبير لدوره وسط القوى الجديدة في المجتمع.. هذه التأثيرات بالضرورة لها انعكاساتها على العمل السياسي في السودان.. و في هذه الفترة استطاعت الطائفية أن تقبض على مفاصل الحزب الاتحادي الديمقراطي، و هي طائفة محافظة منكفئة على مصالحها الذاتية، فقط تريد أن تجعل من الحزب أداة حماية لتلك المصالح، فهي لا تهتم بعملية تطوير الحزب من الناحيتين التنظيمية و الفكرية لأنها تعتقد أن ذلك ضد مصالحها.. لذلك هي تعتمد على عناصر الولاء للطائفة و هذه الفئة ذات قدرات محدودة و متواضعة، همها أن تكون متواجدة صوريا في المسرح السياسي دون التأثير فيه، لأنها لا تملك الأفكار التي تؤهلها أن تدفع بها في الساحة..
هذه التحولات التي حدثت في عقدي السبعينات و التسعينات لها أثر مباشر في إضعاف القوى السياسية، و حتى القوى الجديدة التي ظهرت بعد ثورة ديسمبر 2018م ، هي قوى سياسية مصنوعة صناعة، حيث استطاع الخارج أن يصنعها من خلال الورش و الندوات التي كانت تقام في كل من كمبالا و نيروبي منذ عام 2004م، و هي ليست قوى سياسية ذات تأسيس فرضته ظروف أجتماعية، و تأسست على أفكار يمكن محاكمتها عليها، هي قوى ذات طبيعة ظرفية لحالة الضعف التي تعاني منها القوى السياسية التقليدية الأربعة.. لذلك تجدها رمت حملها على الخارج، في اعتقاد أن الخارج سوف يشكل لها رافعة للسلطة في مقابل أن تكون أداته لتنفيذ الأجندة المطلوبة، و لإنها ولدت خارج رحم المجتمع لا تثق فيه و توليه أية أهمية..
أن وقف الحرب حتى بعد انتصار الجيش لا يعني أن القوى السياسية قادرة على إدارة الأزمة، بل هي تحتاج إلي معالجات مطلوبة من خلال قوانين خاصة قانون الأحزاب الذي يجب أن يفرض بشكل صارم على الأحزاب قيام مؤتمراتها بشكل دوري، و تحدد فترة زمنية للقيادة أن لا يمكث أي قيادي لأكثر من دورتين بهدف التغيير في القيادات بصورة مستمرة الأمر الذي يدفع الأجيال الجديدة أن تنتمي للأحزاب.. أن التجديد و تعاقب الأجيال في الأحزاب بصورة مستمرة هو الذي يضخ الدم في هذه الأحزاب و يحدث فيها التغيير.. و هذا يقع عبء على القوات المسلحة التي يجب أن تخلق البيئة الصالحة لعملية تبادل السلطة سلميا، و الحرب أظهرت حالة الوهن و الضعف التي تعاني منها القوى السياسية.. نسأل الله حسن البصيرة..
zainsalih@hotmail.com