شهد السياق الدولي، مطلع الشهر الجاري، وبالتزامن من الإعداد لقمة الناتو التي تمت في ليتوانيا مطلع يوليو/تموز الحالي، اتصالات متنوعة وديناميكية متسارعة بين قادة الدول الأعضاء في الناتو، من أجل ضمان موافقة تركيا على انضمام السويد للحلف، وهي العملية التي كانت تركيا تضع شروطا أمامها.

وعقب ذلك، وعلى مستوى إقليمي، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة ذات صبغة خاصة لعدد من دول الخليج.

وبين الجدل الذي مر بشأن الموافقة لانضمام ستوكهولم للناتو، وزيارة دول الخليج التي كانت على انقسام فيما قبل وبعضها في حالة صراع مع تركيا، يطرح سؤال التموقع التركي بين الغرب والشرق، وطبيعة التغيرات الحاصلة في العلاقة بدول الخليج ومن ثم العالم العربي والإسلامي.

مفاوضات انضمام السويد.. هل تحقق تركيا رغبتها بالانضمام للاتحاد الأوروبي؟

لم يكن سهلا أمام السويد الحصول على موافقة أنقرة في الانضمام لحلف الناتو، كما كان من الجيد بالنسبة لتركيا تذكير شركائها في حلف الناتو ببعض المصالح الحيوية التي يعد المس بها انتهاكا بأمنها القومي، خصوصا فيما يتعلق بالدعم السياسي المضمر والمعلن لما تصنفه تركيا ضمن التهديدات الإرهابية المهددة للاستقرار.

ومن ثم فالجدل الذي صاحب عملية الانضمام يعكس حالة من الدقة في التفاوض من أجل المصالح الإستراتيجية لتركيا، سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي، في رسم أفق جديد بين أنقرة والدول الغربية، بالإضافة إلى نزع فتيل التوتر مع الولايات المتحدة بخصوص التسلح، وقد كانت شروط تركيا مدار الخلاف بينها وبين السويد من جهة، وبينها وبين الولايات المتحدة، ثم أوروبا من جهة أخرى، ونذكرها كالآتي، حسبما صرحت به أنقرة قبل جولة المفاوضات التي سبقت التوافق مع السويد:

أولاً: شروط تركيا بشأن أمنها

شروط تتصل بمنع الدعم من السويد لكل التنظيمات التي تصنفها تركيا في خانة التنظيمات الإرهابية، وبالأساس حزب العمال الكردستاني، حيث طالبت منذ توقيع المذكرة الثلاثية في مدريد 28 يونيو/حزيران 2022، بتقديم عدد من المطلوبين والتعاون المشترك لإزالة المخاوف الأمنية لديها بخصوص الإرهاب.

وتشكل هذه النقطة بؤرة الإزعاج لتركيا على المستوى الداخلي وفي محيطها الإقليمي، ومن ثم فالحصول على ضمانات بخصوصها، من طرف السويد، قد كان برعاية أميركية كما أشار لذلك فحوى المكالمة التي جمعت بين الرئيسين التركي والأميركي، مما جعل سحب أنقرة للفيتو يعجّل بمسألة الانضمام، حيث يتطلب انضمام أي عضو جديد موافقة كامل الأعضاء الثلاثين لحلف الناتو، كما أن التفاوض بشأن هذه النقطة يعد رسالة للدول الأعضاء بالحلف، والتي لا تتبنى المقاربة التركية فيما يتعلق بالإرهاب أو الموقف من مصدر التهديدات المسلحة والعنيفة داخل أو بجوار تركيا.

والموافقة الأميركية على تزويد تركيا بطائرات "إف-16" (F-16) يعني تخفيف التوتر الذي برز بين الولايات المتحدة وتركيا منذ اقتناء الأخيرة صواريخ "إس-400" (S-400) من روسيا، والذي طال كذلك استبعادها من المشاركة في تصنيع "إف-35" (F-35) وإجراءات عقابية أميركية أخرى بحق الاقتصاد التركي، وكلها كانت تعكس مدى التباين بين الطرفين في المواقف من عدد من القضايا الدولية، حيث اتجهت أنقرة إلى الاستقلال أكثر عن التكتل الغربي، وفتح مسارات جديدة مع موسكو وغيرها بما يضمن مصالحها الحيوية والإستراتيجية.

ولذلك يبرز فحوى المكالمة الهاتفية بين الرئيسين التركي والأميركي جو بايدن، واللقاء الذي جمعهما، مرونة من الطرفين، قد تكون انعكاساتها ذات أثر إيجابي على تركيا من جهة. ومن جانب آخر، بالنسبة للناتو وأوروبا في الحد من قدرات روسيا.

ثانياً: تجديد طرح طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي

وهو الطلب القديم الجديد، بحيث تقدمت تركيا لأول مرة سنة 1987 بطلب العضوية للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبعد أن نالت وضعية دولة مرشحة للانضمام سنة 1999، دشنت مفاوضات العضوية في التكتل الأوربي سنة 2005، وهي المفاوضات التي توقفت سنة 2016 بدعوى وضعية حقوق الإنسان.

لكن، هل يمثل طرح الرئيس التركي مسألة العضوية، بعد الصمت عنها طويلا، تعبيرا عن إرادة ورغبة قد تتحقق في الأمد المنظور، أم أن هناك وعيا بعوائق أخرى تجعل أنقرة أبعد ما تكون عن الانضمام للاتحاد الأوروبي، وأن التصريح بالتفاوض من أجل العضوية بالاتحاد هو من باب المقايضة والحجاج في التداول السياسي؟

ولقد ابتعدت تركيا في واقع الأمر عن أوروبا كثيرا طيلة العقد الماضي في خياراتها الإستراتيجية، ورؤيتها لموقعها في مسرح الصراع الإقليمي والدولي، ثم من جانب أبعد في استعادة جوانب من الشروط السياسية والثقافية والاقتصادية للاستقلال، وإسباغ ذلك صبغة البعد الحضاري الذي يُمكّن لتركيا أن تجمع في ثنايا تشكلها أقدار الجغرافيا، التي تجمع بين الشرق والغرب، بل حلقة وسطى بين الشرق والغرب، لكن روحها التي تمنحها الاستقلال واستعادة الفعل الحضاري بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، والجوانب التاريخية التي تشكل المخيال الفردي والجماعي، يؤكد طبيعة الدوافع الذي تجعل عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي بعيدة المنال.

وعلى الرغم من حصول تركيا على شراكة متقدمة مع الاتحاد، ومسألة الانضمام هذه، لا تتوقف بشكل أساسي على مدى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والحقوقية، وكذا مدى ملاءمة تركيا للشروط، إذ تعد هذه الأخيرة متقدمة على دول أخرى بأوروبا الشرقية في هذا المجال، وإنما بسبب خلافات بعضها مبطن كما أشرنا له أعلاه، وبعضها معلن، يتصل بتباين المواقف والمصالح في قضايا إقليمية ودولية، ثم في الموقف والنهج الذي اتجهت فيه تركيا منذ عقدين، ولعل الانتخابات والصراع السياسي يعكس طبيعة الأماني والتطلعات الغربية عموما بشأن ذلك، وهو ما جعل أنقرة من قبل تتجه الى الشرق، وأساسا العمق العربي والإسلامي. ونستحضر ذلك على الرغم من أن حصول انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي واقعيا له انعكاسات إيجابية للطرفين الأوروبي والتركي، وإن كان العالم الآن يشهد نشوء تكتلات جديدة قد تكون أكثر فاعلية في المستقبل.

تركيا والعمق العربي الإسلامي

ليس جديدا على تركيا هذا الاتجاه إلى الشرق الأوسط، فقد شهدت العلاقات التركية العربية، قبل أن يندلع الربيع العربي، تناميا ملحوظا للعلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية، ويعد ذلك في واقع الأمر، من رؤية أعمق، تعبيرا عن طبيعة الانتماء من جهة. ومن جهة أخرى؛ تكمن قوة تركيا في علاقتها بعمقها العربي الإسلامي، والقوة هنا في تجلياتها الرمزية والمادية، بينما تشكل القطيعة مع هذا الفضاء الحضاري غربة في المكان والزمان لتركيا، وقد كان القرن الماضي تجليا لتلك الغربة.

وقياسا على تركيا، فإن قوة العالم العربي، بتجلياتها المختلفة ووحدة لحمته، ستظل معدمة في غياب الوصل مع الامتداد الإسلامي الذي يتجاوز، في ديموغرافيته وثرواته وقدراته العلمية والاقتصادية والعسكرية، ما لدى العرب من مقدرات وإمكانات على الرغم من أهميتها.

وبصيغة أخرى يمكن القول إن عنصر ومدخل النهضة والتقدم العربيين سيظل أملا مجهدا، وتحقيقه يتم بمقتضى تجسير العلاقة مع كل دول العالم الإسلامي بالتزامن مع التشققات الحاصلة في النظام الدولي.

ودافع هذا القول ليس المقتضى الثقافي والعقدي وحسب، وإنما في طبيعة الخصائص والروح المشتركة، ثم في ملامح التكامل الاقتصادي والعلمي والعسكري والثقافي، كما أن قسمات التاريخ ومشكلاته تجعل العالمين العربي والإسلامي في نفس الكفة، مهما تبدت الانزياحات والخلافات والانقسامات المتعددة، ذات الأبعاد السياسية أو الطائفية أو الاثنية.

وقد عرفت العلاقات التركية، كما أشرنا لذلك، نموا متصاعدا مطلع عقد الألفية الجديدة، لكنها تأثرت بسبب الاختلاف الذي حصل مع عدد من دول المنطقة بسبب الموقف من الربيع العربي، الذي انتظرت منه أنقرة أن يسفر عن تحول ديمقراطي يشكل أفقا مشتركا للعمل والنهوض، مما جعل تركيا ومعها قطر على خلاف حاد مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وحدث ما يشبه القطيعة بينهما. لكن التغيرات، التي حصلت على المستوى الإقليمي والدولي، أدت إلى تغيير جملة من الإستراتيجيات التي اتسمت بانقسام حاد، والانتقال إلى تخفيف التوتر، مما يعد مدخلا لترميم التصدع واستئناف العلاقات. وفي جانب آخر لتلك التغيرات، يمكن إدراج المصالحة السعودية الإيرانية.

وبناء على ذلك، تشكل زيارة الرئيس التركي ملمحا لذلك التغير، وعنوانا لسمة جديدة ستطبع العلاقات، حيث يشكل البعد الاقتصادي هاجسا للجانب التركي، مقابل التطلعات التي تمنحها تركيا لدول الخليج على مستوى الاستثمار، باستثناء الجانب القطري الذي تجمعه من قبل شراكة إستراتيجية متعددة الأبعاد مع تركيا.

إن تطوير العلاقات بين تركيا والعالم العربي واستئنافها بأفق جديد ذو سمة خاصة لتركيا على المستوى الاقتصادي، كما أنه مهم في الآن نفسه للعالم العربي، ليس فيما يخص الاستثمار وحسب، وإنما على مستوى تبادل الخبرة، حيث شهدت تركيا تطورا ملحوظا في الصناعات العسكرية وغيرها من المجالات.

ولا يتوقف الأثر على هذا المنحى، وإنما فيما تمنحه التباينات على المستوى الدولي من إعادة تشكيل أحلاف جديدة على مستوى الإقليم. وتركيا في الآونة الأخيرة باعتبارها قوة إقليمية، أضحت تمتلك خبرة في الصراعات الحاصلة والقدرة على المناورة وتحصيل المكاسب. ولعل هذا قد يمنح مصر مستقبلا امتيازات أكبر على مستوى شرق المتوسط بخصوص الغاز، إذا اتجهت العلاقات نحو مصالحة أكثر، ذلك أن جملة من النزاعات الحاصلة تتلاشى معها مصالح عدد من الدول العربية والإسلامية، كما أن الانقسامات تؤدي إلى مزيد من الإضعاف.

ويحمل الجانب العربي عددا من الهموم والمآسي، ومن ثم فإن عملية الاستئناف للعلاقات، وتعميقها بشكل أكبر، ستبقى ناقصة إذا لم تستحضر ضرورة المصالحات العمودية، أي بين النظم السياسية والنخب والقوى والتيارات الأساسية في المجتمعات، بعبارة المستشار طارق البشري رحمه الله؛ لتجاوز حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي وتوحيد مختلف الإرادات، بالإضافة إلى المصالحات الأفقية بين الدول والأنظمة والنسيج المجتمعي والأيديولوجي والمذهبي للمنطقة، ومن ثم يمكن القول إن مجتمعاتنا بحاجة إلى مصالحات عميقة على المستويين العمودي والأفقي، وهذا سيكون موضوع مقالة مستقلة، لكن عملية المصالحة السياسية والمجتمعية يمكن أن تؤدي فيها تركيا دور الوسيط في العلاقة بين عدد من الأنظمة العربية التي تتجه معها علاقاتها بالتحسن.

ختاما: إن السمة البارزة لتركيا الجديدة، في علاقتها بأوروبا والعالم العربي، تتجه إلى تجسير الصلة بشكل أكبر، وتجاوز ما يمكن أن يؤدي إلى جملة من التوترات، ذلك أن التطلعات التي رسمت للحقبة الراهنة، أو للمرحلة الحالية عقب الانتخابات الأخيرة، بحاجة إلى كثير من الحذر في تدبير العلاقات والصراعات في الآن نفسه، باتجاه الشرق أو الغرب، ومن ثم كانت مسألة انضمام السويد لحلف الناتو مكسبا لتركيا في التفاوض لتحقيق عدد من مصالحها الإستراتيجية، وفي الوقت نفسه عنوانا لتخفيف التوتر مع الولايات المتحدة وأوروبا.

كما جاءت الزيارة لعدد من دول الخليج مؤشرا على تعميق الشراكة التي ستنعكس آثارها على النموذج التركي، وقد تكون مقدمة لديناميات جديدة في العلاقات مع عدد من الدول العربية، مما يعكس حالة وعي إستراتيجي وقدرة على قراءة التغيرات واستشراف خيارات بديلة أكثر واقعية ومرونة، وهنا تكمن أهمية الديمقراطية والكاريزما معا.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة العالم العربی على المستوى دول الخلیج ترکیا على على مستوى ترکیا فی کما أن من جهة عدد من

إقرأ أيضاً:

الشرع في أنقرة.. هل تغير تركيا وسوريا وجه المنطقة؟

"لقد تمّ فتح صفحة جديدة ليس في سوريا فحسب، بل في منطقتنا بأكملها، بعد 13 عامًا من الدماء والدموع".

هذه العبارة التي وردت على لسان الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره السوري، أحمد الشرع، في أنقرة، لخّصت الآثار الإستراتيجية المرتقبة لانتصار الثورة السورية، وتطبيع علاقة الدولتين.

من هنا كان احتفاء تركيا واضحًا بزيارة الشرع في الرابع من فبراير/ شباط الجاري، والتي جاءت بعد ساعات من زيارة مهمة مماثلة للسعودية ولقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

وقبل الزيارتين بأيام قليلة في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، حطت طائرة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في دمشق، في أول زيارة لزعيم عربي إلى سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد.

هذه الفعاليات الرئاسية المتعاقبة، عكست تنسيقًا تركيًا- قطريًا- سعوديًا، في الملف السوري والإيمان المشترك بضرورة دعم النظام الجديد وتثبيت أركانه حتى لا يتعرض لانتكاسة تضر بالأمن الإقليمي ضررًا بالغًا.

في هذا الإطار، نستطيع قراءة زيارة الشرع لتركيا، وطرْح عدد من الأسئلة المحورية بشأن إعادة تعريف العلاقة بين الدولتين، وما يمثله إعادة الإعمار من أهمية إستراتيجية لتركيا، وصولًا إلى الملف الأهم المتعلق بالدفاع والأمن، وكيف يمكن أن يؤثر هذا التعاون المرتقب على تعزيز الأمن الإقليمي.

إعلان إعادة تعريف علاقة البلدين

تم اختزال مفهوم "الشرق الأوسط" في الكتابات العربية، في نطاق جغرافي، يشمل تقريبًا الدول المنضوية تحت مظلة الجامعة العربية دون غيرها.

ذلك التوصيف كان مطلوبًا بفعل الضغوط الاستعمارية، لتأكيد الانفصام مع الميراث العثماني، ونشوء ما عرف بالدولة القومية "الحديثة".

في المقابل، فإن العديد من المصادر الغربية عرّفت منطقة "الشرق الأوسط" استنادًا إلى معيارين؛ الأول: المعيار الجيوثقافي المعتمد على الإسلام باعتباره الدين الذي يمثل غالبية شعوب المنطقة، أما المعيار الثاني: فكان يستند إلى الميراث التاريخي المشترك الذي خلفه العثمانيون.

هذا التعريف يوسع منطقة الشرق الأوسط، لتشمل تركيا الحالية، ويمتد إلى ألبانيا والبلقان باعتبارها مناطق ذات إرث إسلامي وعثماني لا يزال موجودًا حتى الآن.

ومع سقوط نظام الأسد البعثي، من المهم أن تعمل الدولتان على بناء سردية جديدة لتعريف علاقة البلدين، تتجاوز السرديات المغلوطة التي شكلت وعي أجيال متعاقبة في كلا الطرفين، إزاء الروابط التاريخية والثقافية التي تربطهما.

ووَفقًا لما أكده أردوغان خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الشرع، عن تطوير العلاقة الثنائية "بشكل متعدد الأبعاد وفي جميع المجالات، بدءًا من التجارة إلى الطيران المدني، ومن الطاقة إلى الصحة والتعليم"، فإن تنقية مناهج التعليم في كلا البلدين من جميع التحيزات والتأويلات العنصرية المرفوضة، تمثل أولوية إستراتيجية لبناء فصل جديد ومهم في علاقة البلدين وتاريخ المنطقة.

وهنا يجب الإشارة إلى الخطوة التي أقدمت عليها أنقرة، باعتقال رئيس حزب ظفر "النصر"، أوميت أوزداغ، على ذمة اتهامات بترويج خطابات عنصرية تهدف إلى نشر الكراهية.

ومن المعروف أن أوزداغ قاد خلال السنوات القليلة الماضية، حملة واسعة لاستهداف وجود اللاجئين السوريين في تركيا، أدت إلى بعض أعمال العنف بحقهم، آخرها في ولاية قيصري في يوليو/ تموز الماضي.

إعلان

فاعتقال أوزداغ وآخرين معه، كان رسالة واضحة من الحكومة التركية، أنها قد تتأخر لحساسيات داخلية، لكن لا يمكنها تجاوز ما حدث بحق السوريين من دعايات عنصرية.

كما أن إعادة تعريف علاقة البلدين يجب أن تستحضر التاريخ المشترك للشام والأناضول، منذ عهد السلاجقة مرورًا بالعثمانيين، وأيضًا يجب عدم إغفال التداخل العرقي المتبادل والعابر لحدود الدولتين والمتمثل في الوجود العربي والكردي والتركماني في كل من سوريا وتركيا، وأيضًا حضور الأغلبية السنية، إضافة إلى الطائفة العلوية في الدولتين.

ومع إضافة حدود مشتركة تربو على 900 كيلومتر، فنحن هنا إزاء مساحة جغرافية تقترب من مليون كيلومتر مربع، وعدد سكان يزيد على مائة مليون نسمة، ما يعني أننا أمام تشكل تعاون إستراتيجي جديد، سيكون له حضوره القوي في ملفات المنطقة المضطرية.

إعادة إعمار سوريا

تولي تركيا إعادة إعمار سوريا أولوية قصوى، حيث أكد أردوغان في تغريدة على منصة "إكس" استعداد بلاده "لتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار المدن المدمرة والبنية التحتية الحيوية في سوريا".

كما عزز وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، هذا المعنى في تصريحات لوكالة الأناضول بقوله: "رئيسنا أردوغان قائد سياسي، كان دائمًا ما يولي اهتمامًا خاصًا للقضايا الاجتماعية والخدمات العامة منذ أن كان رئيسًا لبلدية إسطنبول، وهو قادر على فهم الوضع الذي يمر به الشعب السوري بكل تفاصيله".

وأهمية ملف إعادة الإعمار لا تتوقف عند فاتورته التي قد تتراوح ما بين 400 إلى 500 مليار دولار، ولا تقتصر على الأبعاد الإنسانية فحسب، بل تمتد إلى عدة نواحٍ إستراتيجية التي تهم البلدين وأهمها:

أولًا: إعادة الإعمار ستوفر البنية التحتية اللازمة لإعادة تشغيل الاقتصاد السوري، واستئناف النشاط التجاري، ما يعني تفعيل اتفاقيات التجارة الحرة بين تركيا وسوريا، وهو ما أشار إليه وزير التجاة التركي، عمر بولات مؤخرًا. ثانيًا: أيضًا ستوفر إعادة الإعمار الفرصة أمام عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم التي هجروا منها، وهذا الملف لا تقتصر أهميته لدى تركيا على كونه سيحل مشكلة داخلية لديها، بل إلى أبعاد إستراتيجية أوسع وأشد أهمية. فالهجرة الواسعة التي شهدتها سوريا خلال سنوات الثورة كانت من مكون واحد تقريبًا هو العرب السُّنة، ما أدى إلى خلل كبير لصالح مكونات عرقية ومذهبية أخرى تمتلك أجندات ومشاريع هوياتية وانفصالية مثلت تهديدًا للأمن القومي التركي. ثالثًا: كما ستعمل إعادة الإعمار على تقوية دعائم نظام ما بعد الأسد، وهو ما يعد هدفًا إستراتيجيًا لأنقرة خلافًا لما يدعيه البعض من رغبة تركيا في بقاء سوريا ضعيفة. إعلان

فأنقرة يهمها تقوية الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، لتتمكن من بسط نفوذ الدولة على كامل الأراضي السورية، والقضاء على التنظيمات الانفصالية، التي تعد خطرًا إستراتيجيًا على تركيا أيضًا.

 تقوية الأواصر الدفاعية

خلّفت سنوات الثورة مشاكل أمنية عميقة ليس في سوريا وحدها، بل في المنطقة كلها وخاصة تركيا.

فالفراغ الأمني الذي خلفه انسحاب نظام الأسد من مناطق في الشمال، تم ملؤه بتنظيمات انفصالية "كردية"، تابعة لحزب العمال، مما شكل تحديًا أمنيًا خطيرًا لأنقرة.

إضافة إلى احتلال تنظيم الدولة مساحات واسعة في شمال سوريا، ما أدى إلى تأسيس تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة للقضاء عليه.

ولم يكن الأمر مقتصرًا على الجيوش الغربية وحدها، فقد جلب نظام الأسد القوات الروسية لحمايته، ومن قبلها استدعى الحرس الثوري الإيراني والمليشيا المنضوية تحته.

والآن تضع تركيا هدفًا معلنًا وهو تفريغ المنطقة من الجيوش الغربية، وتأسيس تحالف تركي – عربي لمواجهة أي تهديد محتمل من تنظيم الدولة، بحيث يتم القضاء على أي ذريعة لوجود تلك القوات الأجنبية.

من هنا تولي أنقرة ملف الأمن والدفاع في سوريا أهمية قصوى، وفي مقدمته إعادة بناء الجيش.

ففي نفس يوم زيارته أنقرة، نشرت رويترز نقلًا عن مصادر أن الشرع سيناقش مع أردوغان، إنشاء قواعد تركية جديدة وسط سوريا، وتدريب الجيش السوري، وأن المحادثات قد تتطرق إلى توقيع اتفاق دفاعي.

ورغم أن كلمة الرئيسين في المؤتمر الصحفي لم تتطرق إلى أي من هذه التفاصيل الدفاعية، عدا إشارة أردوغان إلى التعاون المشترك لإنهاء سيطرة قوات "قسد" على شمال شرق سوريا، فإن ثمة ما يعزز ما نشرته رويترز.

ففي الثلاثين من يناير/ كانون الثاني الماضي، قام وفد عسكري من وزارة الدفاع التركية بأول زيارة من نوعها لدمشق، التقى فيها وزير الدفاع السوري ورئيس الأركان، لمناقشة قضايا الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب.

إعلان

وفي السادس من فبراير/ شباط الجاري، أعلنت وزارة الدفاع في أنقرة أنه:

"سيتم إعداد خارطة طريق مشتركة لتحسين قدرات الجيش السوري، واتخاذ خطوات ملموسة بما يتوافق مع مطالب الحكومة السورية الجديدة".

كل هذا يشير إلى جدية تركيا في سعيها لإعادة تأسيس الجيش السوري، إضافة إلى اضطلاعها بمهام أمنية داخل سوريا خلال هذه الفترة.

وأخيرًا:

إن هذه الفرصة الإستراتيجية التي أتيحت للدولتين، تعد الأعظم والأهم منذ انهيار الدولة العثمانية قبل قرن من الزمان، وفي سبيل تعظيم الاستفادة منها، يجب عليهما التعاون معًا لمواجهة التهديدات التي ستعمل على إفشالهما معًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • كحول مغشوشة تودي بحياة 100 شخص في تركيا
  • الشرع في أنقرة.. هل تغير تركيا وسوريا وجه المنطقة؟
  • هل أغلقت أفغانستان سفارتها في تركيا؟
  • من هو الجنجويدي المجنون الذي سيبيت الليلة في منطقة السوق العربي
  • في أول ظهور رسمي.. زوجة الرئيس التركي تلتقي عقيلة «الشرع» في أنقرة
  • الدور التركي في النزاع السوداني مابين الوساطة والمصالح الاستراتيجية
  • سيف المعيلي أميناً عاماً للاتحاد العربي للتحكيم الدولي
  • الشرع: ندعو الرئيس التركي لزيارة سوريا ونسعى لشراكة إستراتيجية مع أنقرة
  • أمين منظمة التعاون الإسلامي يلتقي نظيره في الهلال الأحمر التركي
  • الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مؤتمر صحفي مع السيد الرئيس أحمد الشرع في أنقرة: أرحب بالسيد الشرع وممتن لاستضافته في أنقرة