لجريدة عمان:
2025-03-18@12:43:56 GMT

مقصورتان من الشعر العماني في نظم سور القرآن

تاريخ النشر: 20th, April 2024 GMT

مقصورتان من الشعر العماني في نظم سور القرآن

«المقصُورة»: هي القصيدة المُقفَّاة، تنتهي بألف غير ممدودة، وعرف الأدب العربي قصائد مقصورة كثيرة، أشهرها وأطولها مقصورة العالم اللغوي والأديب أبوبكر ابن دريد، التي اشتهرت باسم: «مقصُورة ابن دريد»، عدد أبياتها 254 بيتًا، تبدأ بهذا المطلع:

يا ظبيةً أشبهَ شيءٍ بالمَها

ترْعَى الخُزامى بين أشْجارِ النَّقا

إمَّا تَرَىْ شَعْرِي حَاكى لونُه

طُرَّتَ صُبْحٍ تحت أذيالِ الدُّجَى

واشتعَلَ المُبيَضُّ في مُسوَدِّهِ

مثلَ اشتِعالِ النَّارِ في جَزْلِ الغَضَا

قصيدة طويلة، تتناغم أبياتها على إيقاع بحر الرَّجز، وتعاقب على شرحها كبار الشراح، وكتبوا فيها مؤلفات، وفي مكتبتي نسخة من شرح محمد بن أحمد بن هشام اللخمي (ت: 577هـ)، ومنذ ظهور المقصورة الدُّريديَّة، حاول كثير من الشعراء معارضتها، وتخميسها وتوشيحها وإعرابها وترجمتها وشرحها، وما تزال محاولاتهم تتكرر إلى اليوم، شأنها شأن بعض القصائد الأخرى الشهيرة، التي تمثل ذؤابة الشعر العربي، كبُرْدة كعب بن زهير: (بَانَتْ سُعادُ فَقَلبِي اليوْمَ مَتبُولُ) ونهج البردة للإمام البوصيري: (أمِنْ تَذَكُّرِ جِيرانٍ بِذِي سَلَمِ)، وكلاهما من عيون شعر المديح النبوي، والشعراء يجارون القصائد العيون، بغية التقرب من شأنها، لاختبار ملكاتهم الشعرية، وتوظيف قاموسهم اللغوي، وغرس المعاني البيانية في قصائدهم.

وفي التجارب الشعرية العمانية، ظهرت قصيدتان شعريتان، امتازتا أنهما من شعر المقصور، والميزة الثانية أنهما نَظمَتا سور القرآن الكريم، بترتيب المُصحَف الشريف، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، وهما للشاعرين الشيخين: أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني (ت: 1920م)، وسيف بن سعيد الكمياني النزوى (ت: 2013م)، ولفرادة هاتين القصيدتين، وبراعة نظمهما، وعدم تسليط ضوء الكتابة عليهما، أخصِّص هذه المقالة.

1 - مقصورة أبو مسلم: ليس بغريب على الشاعر «أبو مسلم البهلاني»، أن ينظم سور القرآن الكريم في مقصورة شعرية، لتجربته الكبيرة في كتابة شعر السلوك، والتوسل بأسماء الله الحسنى، وديوانه: «النَّفَسُ الرَّحْمَانِي» شاهد على ذلك، وفي كتابة شعر المقصور، له تجربتان أحدهما وهي الأشهر، المقصورة الطويلة، يبلغ عدد أبيتها: 393 بيتًا، وبلغت من البيان الشعري ذروة سالت لها أقلام الشراح، كالشيخ منصور بن ناصر الفارسي (1975م)، حيث كتب فيها شرحًا وافيًا، نشره في كتابه «الدُّرَرِ المَنثورَة في شرح المقصُورة»، ووعتها الصدور تعليمًا وحفظًا، مطلعها:

تلكَ رُبُوعُ الحَيِّ في سَفحِ النَّقا

تَلُوحُ كالأخْلالِ مِنْ جَدِّ البِلى

أخْنَى عليها المِرزَمانِ حِقبَةً

وعَاثَتِ الشَّمألُ فيها والصَّبا

وله مقصورة أخرى لم تحظ بتلك الشهرة الواسعة، التي حظيت بها المقصورة الطويلة، وتختلف اختلافًا كليا عن سابقتها، وهي التي نعنيها بالذكر في هذه المقالة، فهي أولا في نظم سور القرآن الكريم، وهو ما لم يشر إليه الشارح الأديب والشاعر محمد الحارثي إلى هذه البراعة، رغم أنها من ضمن القصائد التي نشرها في كتاب: «الآثار الشِّعرية لأبي مسلم البهلاني»، الصادر عن دار الجمل عام 2010م في مجلد واحد، لعله لم يقف على النسخة من ديوان أبي مسلم، الصادرة عام: 1346هـ/ 1928م، عن المطبعة العربية بمصر، والتي عُنِيَ بنشرها الشيخ يوسف توما البستاني، صدرت النسخة بعد وفاة البهلاني بثماني سنوات.

وما يعنينا هنا التقديم الذي تصدَّر قصيدة «المقصورة» القصيرة، وتقع في 118 بيتًا، وهو ما نصه: (مقصورة مرتبة على سور القرآن الكريم، نظمها وقدمها مستشفعا بها، لدى عظمة السلطان حمد بن ثويني بن سعيد، عم عظمة سلطان زنجبار خليفة بن حارب بن ثويني ..)، تكمن أهمية هذا التقديم في الإشارة إلى أن القصيدة مرتبة على سور القرآن الكريم، وأن الشاعر كتبها مستشفعًا بها لدى السلطان حمد، وهو ما لم يشر له الأستاذ محمد الحارثي، ولربما لم ينتبه له، فقد وردت أسماء السور ممتزجة بمفردات البيت، وذابت في معاني القصيدة، بدءا من مطلع القصيدة القائل:

«فاتِحَةُ الحَمْدِ» أيَادِي مَنْ عَفَى

والحِلْمُ أصْلٌ للمَقاماتِ العُلا

يزْدَهِرُ المَجْدُ بـ«زَهْراوَيْهِما»

مثلُ انجِلاءِ الشَّمْسِ فِي رَأدِ الضُّحَى

ما نَتَجَتْ مَنْ يَعرِفُ المَجْدَ «النِّسا»

لوْ كانَ خُلوًا منهُما عَمَّنْ عَصَى

«مائِدَةُ» الاحْسانِ مِنْ باسِطِها

فَضْلٌ وأزْكَى الفَضْلِ ما يُولِى الرِّضَا

بل فسر خطأ معنى مفردة صِحَاب «الحِجْر»، في بيت المقصورة، في بيت رقم: 14، القائل:

مَنْ غادَرَتْ هيبَتهُ أعْداؤُهُ

مِثلُ صِحَابِ «الحِجْرِ» صَرْعَى في الفَلا

يقول الحارثي في إشارة شارحة للبيت: (حتى في مدائحه، لا يتوقف أبو مسلم عن تلقط هذه الإشارات التاريخية، بإلحاح مثير للتساؤل؛ فالحِجْرُ: هو حِجْرُ بن عدي الكندي، من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب، قتله معاوية صَبرًا، وقيل هو أول من قُتلَ صبرًا في الإسلام، وهو صحابي، وقبره بغوطة الشام: (الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني: ص814).

وبرأيي هذا غير صحيح، لأن الشاعر ذكر اسم سورة «الحِجْر»، التي تأتي بعد سورة «إبراهيم»، برمزية اسم السورة، ودلالاتها البيانية، والدليل على ذلك قول الشاعر في بيت سابق:

مَنْ فَضْلُهُ في فَضْلِ كُلِّ أمَّةٍ

كَمِثلِ «إبراهيم» فيمَن قدْ خَلى

وفي البيت الذي يليه يقول:

مُسَوَّمُ الجِرْدِ العَوادِي عندها

مِثلُ لُعَابِ «النَّحْلِ» مَسفُوحَ الطَّلا

إشارة إلى سورتي «إبراهيم» و «النحل»، وهكذا تتالى أبيات القصيدة، ومعها أسماء سور القرآن الكريم، في نظام لا يخرج بيت عن آخر، سكب فيه أبو مسلم شيئا من صفاء عبقريته، وأبدع نظمها، دون أن يشذ بيت عن سابقه أو لاحقه، لتأتي القصيدة صرحًا واحدًا، في بيان يؤكد على عبقرية أبو مسلم، وموهبته الفذة التي لا تُجَارى، وإن كنت لست مع هذا المديح المبالغ فيه، ولكن لا أحد يعلم بالحاجة التي وقع فيها أبو مسلم حينذاك الوقت، ولذلك لا نعلق على مديحه واستشفاعه بسور القرآن، لأنا لا نعرف ظروف كتابته للقصيدة، إنما ننظر إلى بيانها الرفيع، وإشراقات المعاني المخبوءة بين أبياتها.

2 – مقصورة الكمياني: المعلم النحوي، الشيخ سيف بن سعيد بن علي الكمياني، كلما خطرت ذكراه على البال، تذكرته وهو يخرج من جامع القلعة بنزوى، بدشداشة ومصر أبيض، فقد عمل الشيخ معلمًا لعلوم العربية لسنوات طويلة، وفي السنوات الأخيرة من عمره فقد بصره، وأوجد مجلسًا أدبيًا في بيته يلتقي فيه ببعض من طلبته وأصدقائه وجيرانه، مستعيدًا مهنة التدريس التي مارسها، وقد صدر للشيخ سيف ديوانًا طبع عام 2015م، بعد وفاته بعامين، بعنوان: «اللآلئ المهذبة في الأسئلة والأجوبة»، يتضمن بين صفحاته مقصورة، مرتبة على سور القرآن الكريم، أسماها: «النفحات الوهبية في التوسل بالسُّور القرآنية»، عدد أبياتها 131 مطلعها:

«فاتِحَةُ الحَمْدِ» بها رَبُّ السَّمَا

أدْعُوهُ كشْفَ الضُّرِّ عَنَّا والبَلا

ثم بـ«زَهْراوَيْهِمُ» أدْعُوكَ يا

مَنْ وَسِعَ الأكوانَ نُوْرًا وَهُدَى

وبـ«النِّسَا» يا خَالقَ الخَلقِ اسْتَجِبْ

دُعَاءَ مُضْطَرٍ ونِعْمَ المُرْتَجَى

«مائِدَةٌ» يا مَنْ دَعَاهُ عَبدُهُ

عيسَى بإنزالِ لها يا ذا العُلا

وواضح من بنية القصيدة أن لغة النظم يطغى عليها، وكأن الشاعر كان متكلفًا في نظم أسماء سور القرآن، مستجديًا ذائقته الشعرية في التوسل والتضرع والدعاء بها، وقد تبدو بعض الأبيات متناسقة النظم، وفي بعضها ضعف بياني، وإن كانت القصيدة موزونة عروضيًا على بحر الرجز، ولنقارن بين أبيات أبي مسلم الأبيات السابقة، التي تتناول نظم سور: إبراهيم والحجر والنحل، وبين نظم الكمياني لهذه السور، يقول الكمياني:

وبالخَليلِ عَبْدُكَ الطيِّبُ «إبرَاهِيمُ»

نِعْمَ العَبْدُ نِعْمَ المُنْتَمَى مَنْ قَدْ جَعَلتَهُ أبًا للمُسْلِمِينَ

واصْطفَيتَهُ خَليلًا مُرْتَضَى

يا رَبُّ بـ«الحِجْرِ» اقْصِمِ الأعْدا وَمَنْ

أرَادَ كيْدًا وَأذِقْهُ ما جَنَى

مَوْلايَ مَنْ أوْحَى إلى «النَّحْلِ» بأنْ

مِنَ الجِبالِ اتَّخِذِي بَيْتًا يُرَى

واضح أن الشيخ كان متكلفًا في نظمه، ولم يكترث بإضفاء مسحات بيانية على قصيدته، فأغلب ديوانه نظم تقليدي، ويظهر من قصائده أن ملكته الشعرية متواضعة أمام ملكة أبي مسلم الفذة، مختتما قصيدته، ببيتين يصوِّر فيهما سجع البلابل في أغصان الأشجار، وشدو صوت مرتل القرآن يقول:

ما سَجَعَتْ بَلابِلُ الأيكِ عَلى

غُصُونِ بانٍ في الظِّلالِ والرُّبَى

وما شَدَا شَادٍ بصَوْتٍ مُطْرِبٍ

يَتلو كِتابَ اللهِ صُبْحًا وَمَسَا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: سور القرآن الکریم أبو مسلم الح ج ر فی بیت فی نظم

إقرأ أيضاً:

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي

تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.

وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:

يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك

أظن حالك صاير(ن) مثل حالي

انت عويلك يوم فاتك معشاك

وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي

وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك

انا فقدت من الخويا الغوالي

حذراك من سود الليالي تغشاك

ويعتم عليك الضو عقب الدلالي

وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:

سار القلم بداجي الليل مهتاج

سار بهوى قليبي وحير دليلي

بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج

من وجد وجدي الويل فرقا خليلي

عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج

ودموع عيني سيل دوما يسيلي

واجب علي أهله بكل ملعاج

ودموع عيني مثل نهر تسيلي

سمعت انا بظلمة القبر مهتاج

عفت الحياه وعند قبره نزيلي

ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج

تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي

ياقبرها يامنوة الروح وسراج

والله انا عندك طنيب ودخيلي

مجنون ليلى كان داير بلجلاج

ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي

هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج

أو علي من رمل السبايب هيلي

واحفر على قبري بازميل وهاج

اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي

انقش سقيم عايف الطب واعلاج

أضحى طريح الحب وامسى قتيلي

من لامني يبلاه بالهم وهاج

عليه حسبي الله ونعم الوكيلي

الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغانٍ (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلان

يعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.

قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.

ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.

ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي الشعر النبطي، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوة إلى الشِّعر النَّبَطِي) (الجزيرة)

ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".

إعلان

يرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.

إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.

تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) الشعر النبطي في مرايا العصر الحالي

تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.

إعلان

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.

الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.

ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:

لادك في قلبي من الهم هوجاس

حطيت فوق النار زين المحاميس

وحمست ما يجلى من الهم وعماس

بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس

لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس

من لذته تنجال عنه النواحيس

ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:

ياما حلى الفنجال مع سجّة البال

في مجلس ما فيه نفس ثقيله

هذا ولد عم وهذا ولد خال

وهذا رفيق ما لقينا مثيله

قصائد الشعر النبطي نلحظ بها جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) القيم البدوية المجتمعية والإخوانيات في الشعر النبطي

يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:

ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ

خذ لك على درب التـــجاريب مرواس

مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه

ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس

واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه

ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس

يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه

ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس

ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه

لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس

وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه

ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس

ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه

يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس

الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه

يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس

وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه

ودايم على عورات الأجواد عـــســاس

وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:

صناديد لهم باب النَّشيد

تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ

الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ

والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ

وابن ثابت وأبي سلمى زهير

وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ

وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس

هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ

وذي الرمة والأقرع مع جميل

ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ

وبشار بن بردٍ والمهلهلْ

ومَن سمي الفحل بمقدماته

وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ

وطرفة واطراف المعاني طراته

وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه

إنّ الشعر النبطي  لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.

إعلان

مقالات مشابهة

  • رائد مسلم: سمعت صوت “الآذان” من محطة الفضاء
  • سلطان بن أحمد القاسمي يشهد افتتاح معرض “روائع الفنون من متحف الشارقة للحضارة الإسلامية” في المتحف الوطني العماني
  • رئيس الدولة يستقبل عدداً من العسكريين الإماراتيين الفائزين بمسابقة القرآن الكريم التي أقيمت في السعودية
  • محمد بن زايد يستقبل العسكريين الإماراتيين الفائزين بمسابقة القرآن الكريم التي أقيمت بالسعودية
  • البنك الوطني العماني يطلق حملة "شهر العطاء" لدعم المجتمع
  • سحور رمضاني لموظفي مجموعة «بن حم»
  • مذكرة تفاهم بين "البنك الوطني العماني" و"إنجاز عمان" لتمكين الشباب
  • القصيدةُ إذ تتوهّجُ؛
  • لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
  • كاريكاتير .. فيما 2 مليار مسلم يتفرجون .. غزة تجوع في رمضان !