لجريدة عمان:
2025-04-30@06:59:24 GMT

بين أحمد أمين وطه حسين بقلم شاهد عيان!

تاريخ النشر: 20th, April 2024 GMT

بين أحمد أمين وطه حسين بقلم شاهد عيان!

(1)

من بين أهم ما يستوقف قارئ كتاب «في بيت أحمد أمين» لنجله حسين أحمد أمين، هو تلك القدرة الاستقصائية المدهشة على نقل تفاصيل دقيقة من مشاهد الحياة اليومية في هذا البيت العريق الذي كان يضج بالحياة والأدب والفكر والثقافة، وشهد لقاءات وتجمعات أعظم العقول المصرية والعربية في النصف الأول من القرن العشرين.

حسين أحمد أمين هو الابن قبل الأخير في سلسلة الأبناء والبنات الذين أنجبهم أحمد أمين، تلاه مباشرة "جلال أمين" أخوه الأصغر وصاحب النصيب الوافر من الشهرة العارمة في مصر والعالم العربي خلال العقدين الأخيرين قبل رحيله في 2018.

كان الأخوان "حسين أمين" و"جلال أمين" هما الثمرة الناضجة لنشأتهما في بيت أدب وعلم وثقافة وفكر، بيت أحمد أمين أحد أعمدة الثقافة المصرية والعربية ومؤرخ الحياة الفكرية والعقلية للمسلمين منذ فجر الإسلام وضحاه وظهره حتى استواء يومه.

درس الأول العلوم السياسية والتحق بالسلك الدبلوماسي، ومثل مصر سفيرًا في العديد من الدول حتى أحيل إلى التقاعد ليتفرغ للكتابة تماما. أما الثاني فقد درس الاقتصاد ونال إجازاته العالية، فيها وأصبح من الخبراء المعدودين في عالمنا العربي في هذا العلم الحيوي شديد الاتصال بالسياسة وشؤون الحكم والمجتمع وأحوال الناس، ولهذا فلم يكن غريبا أن يحظى جلال بوفرة كبيرة جدا في الانتشار والمتابعة سواء من خلال مقالاته الدورية التي كان ينشرها في كبريات الصحف المصرية والعربية، أو من خلال كتبه التي أصدرها منذ ثمانينيات القرن الماضي في الهلال، ثم في العقود الأخيرة من حياته في دار الشروق، وكان جلال أمين من أكبر كتابها وأبرز مثقفيها.

(2)

نال حسين أحمد أمين شهرة كبيرة أيضًا بسبب كتاباته في الصحف والمجلات وترجماته وكتبه المهمة، وخاصة كتابه موضوع حديثنا هذا «في بيت أحمد أمين» الذي حاز شهرة واسعة وقبولًا في أوساط القراء ولفت الانتباه إلى تفاصيل دقيقة ومشاهد حيوية في تاريخ هذه الأسرة الشهيرة في الثقافة العربية، فقد مثل حسين أحمد أمين شاهد عيان ثقة على وقائع وأحداث وشخصيات في حياة أبيه، خاصة في سنواته الأخيرة، كما نقل لنا بأمانة وصدق دخائل وأسرار بعض العلاقات الملتبسة بينه وبين مشاهير عصره، وخاصة صنوه وصديقه طه حسين عميد الأدب العربي.

من بين فصول الكتاب، وأوراقه المزدحمة بالمشاهد والذكريات والتفاصيل الماتعة، لا أنسى أبدًا المشهد الذي كان يصف فيه لقاء طه حسين وهو يزور المرحوم أحمد أمين في المستشفى قبل وفاته مباشرة.. كان أحمد أمين فقد بصره تقريبًا ولم يعد يرى، فمد يده متلهفًا للسلام على صديق العمر، وفعل طه حسين الأمر نفسه وهو يمد يده بحثا عن يد صديقه، وقام حسين أحمد أمين الابن بعقد كفي الصديقين ليلتقيا ويسلما على بعضهما بعضا، ويبث كل منهما سؤاله ومحبته وافتقاده لصديقه.. والله إنها لحظة بالعمر كله.

أبكاني هذا المشهد الرائع من إنسانيته ورقته ولحظة تعبيره عن معنى الصداقة الحقيقية والعشرة والعمر مهما كان فيها ومهما شابها أو أصابها من قذى أو منغصات..

كان الجميل في الكبيرين هو معرفة كل منهما بالآخر وقدره وقيمته.. ومهما بدا في مسار تلك العلاقة من مكدرات ومشاحنات أو منافرات الأصدقاء المعتادة فإنها لا تطغى أبدا على رسوخ نشأتها وأساسها المتين المكين، وقد أعادني هذا المشهد الإنساني النبيل إلى جذور تلك العلاقة التي أتصور أنها من بين أهم أشكال الصداقة في الأدب العربي الحديث كله.

(3)

لهذا المشهد الإنساني المثير للمشاعر جذور في سيرة الرجلين الكبيرين، وإن كان أحمد أمين قد فصل فيها في القول بحماسة غاضبة في سيرته الذاتية الرائعة «حياتي»، وهي واحدة من أهم وأقيم السير الذاتية في ثقافتنا العربية الحديثة، وإن كانت شأنها شأن أغلب السير الذاتية في الأدب العربي يمكن وصفها بالمتحفظة، حيث التعفف عن ذكر مواطن الضعف، أو إمكان التوتر في قضية التفكير في الدين، أو حتى العلاقة بالمرأة، فلا شيء في ما كتبه أحمد أمين عن الجوانب الإنسانية المتصارعة، أو نزوات الشباب ونزقه.

لكن العجيب فعلًا أن المرحوم أحمد أمين لم تغلبه عواطفه وتنتصر على صرامة تعقله إلا عندما تحدث عن علاقته المأزومة بطه حسين التي انتهت إلى ما يشبه "قطيعة كاملة"، كان لا بد من أن تنتهي إليها بحكم التضاد بين صفات الشخصيتين، فقد كان طه حسين ناريًّا ساعة الغضب، عنيدًا لا يتنازل عن رأيه بسهولة، ديكتاتوريًا في علاقته بالآخرين، متسلطًا على من يحبه، جذريًا في تفكيره الذي لا يقبل أنصاف الحلول، أو حتى المرونة، وكان أحمد أمين على النقيض من ذلك كله، هادئًا، مرنًا، متسامحًا، ميَّالًا إلى التصالح مع نفسه والآخرين، سهل المعشر مع إباء في النفس، وترفع عن الصغائر وعزوف عن الإيذاء، ويقول ابنه جلال في تقديمه للكتاب مستنتجا من هذه الصفات التي اتسم بها أبوه أحمد أمين:

"كانت إحدى النتائج الباهرة لهذا الاستعداد القوي لدى أبي، إنتاجه لتلك السلسلة الرائعة من الدراسات فيما سماه: تاريخ الحياة العقلية في الإسلام، والتي بدأت بكتاب «فجر الإسلام»، ثم «ضحى الإسلام» (في ثلاثة أجزاء)، ثم أربعة أجزاء من «ظهر الإسلام».

إني إذ أقرأ اليوم في أول كتب هذه السلسلة (فجر الإسلام) الذي كتبه في منتصف العشرينيات من القرن الماضي؛ أي منذ ما يقرب من مائة عام، يعتريني انبهار شديد بهذا الميل الدائم لديه لردِّ كل شيء إلى أسبابه، وإلى تعليق أهمية كبيرة على أثر اختلاف الظروف الاجتماعية والطبيعية في اختلاف العادات وأنماط السلوك والأفكار.

إنه على استعداد دائم لرد اختلاف التفسيرات إلى اختلاف الظروف. لا عجب إذن من تأكيده المستمر على ضرورة "الاجتهاد"، وابتداع حلول جديدة للظروف الجديدة، ونفوره من إخضاع العقل لحرفية النصوص، بدلا من تفسير النصوص بما يقضي به العقل".

(4)

وأتصور أن طبيعة أحمد أمين الهادئة المثابرة أتاحت له من الصبر ما أكمل به ما بدأه مع صديقيه طه حسين وعبد الحميد العبادي من مشروع التأريخ للحضارة العربية في جوانبها المختلفة، السياسية والفكرية والإبداعية.

وقد اتفق الثلاثة على أن يتولى طه حسين التأريخ للحياة الأدبية، في مسيرة الحضارة العربية، و"العبادي" الحياة السياسية، و"أحمد أمين" الحياة الفكرية، ولم يكمل طه حسين وعبد الحميد العبادي ما وعدا به، ومضى أحمد أمين وحده، حاملا عبء إنجاز ما حلم به الثلاثة، فأنجز كتابه العلامة في تاريخ الثقافة العربية. أعني ثلاثيته الرائعة التي بدأت بكتاب (فجر الإسلام) في جزء واحد، وانتقلت إلى (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة، ثم (ظهر الإسلام) بأجزائه الأربعة،

وما كان يمكن إنجاز هذا الكتاب "الموسوعة" إلا بصبر طويل، وتفرغ كامل لسنوات، وحياة هادئة منظمة، حياة "لا تعرف الانفلاتات الديونسية، ولا تقلبات التمرّد الحديّة، بل تعرف الوضوح الأبوللوني الشمسي بنظامه الساطع، وتحدده القاطع، وتتابعه الذي لا يعرف الملل، كما تعرف العقل الذي يحب النظام حبّا شديدا، حيث كل شيء في موضعه وكل شيء في وقته"، كما يرصد بدقة جابر عصفور.

وكان لا بد من أن يقع الصدام عندما تولى أحمد أمين عمادة كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) ورفض أحمد أمين وصاية طه حسين، ولم يقبل طه حسين من صديقه الحكيم أن يرفض له طلبًا، وأن يختلف معه في الرأي، فوقعت القطيعة، وتألم أحمد أمين كل الألم لعنف هجوم صديقه الحميم عليه، ووقع الخصام الطويل الذي كتب عنه صفحات بالغة الصدق والأسى في «حياتي»، لكن من دون أن يذكر اسم طه حسين أو يشير إليه حتى بالأحرف الأولى..

(5)

ويأتي حسين أحمد أمين ليضع مشهد النهاية المشار إليه قبل قليل ليختتم هذا الفصل في حياة الرجلين المهمين الكبيرين. وبالتأكيد كنا سنخسر كثيرا هذه الصورة القلمية المدهشة، وهذا الكنز الإنساني "القيم" إذا لم يوثقه ويسجله وينقله إلينا بأمانة وبراعة حسين أحمد أمين رحمه الله.

ختامًا، فقد كان هذا الكتاب أحد أسباب شغفي بأحمد أمين، وأسرته، وسيرته العصامية المشرفة (وقد قرأته قبل أن أقرأ «حياتي» التي لم تنل أبدًا ما تستحقه من اهتمام وقراءة ومناقشة..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فجر الإسلام ا المشهد طه حسین

إقرأ أيضاً:

الرهانات الخاطئة على فشل الإسلام السياسي

منذ نشوء وصعود الإسلام السياسي في المجال العربي الإسلامي تعرض إلى حملة مادية ورمزية عنيفة منسقة وممنهجة من القمع والاحتواء، وخضعت الحركات الإسلامية على مدى عقود إلى عمليات نزع شرعية قاسية من الاستئصال والاستبعاد، وخضع حقل دراسات الإسلام السياسي إلى مقاربة استشراقية وثقافوية وأمنية غير تفهمية؛ بهدف تشويه وتسفيه خياراته الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية، وجرى حبسه في سجن المقاربة الجوهرانية الماهوية، وحُشر في سياق هوية متطرفة عنيفة على يد خبراء مزعومين وموظفين مخلصين لأجندة الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والسلطوية العربية؛ بقصد إخضاع حركات الإسلام السياسي وتطويعه وفرض الهيمنة والسيطرة على أفكاره وممارساته.

منذ صدور كتاب الباحث الفرنسي أوليفييه روا "فشل الإسلام السياسي" في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، باتت مقولة "فشل الإسلام السياسي" وأفوله ونهايته ثيمة راسخة في التعاطي مع الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وهي نبوءة سياسية رغبوية لا تستند إلى أدنى درجات المعرفة العلمية، فقد أخقفت في كافة مراحل صعود الإسلام السياسي. فلم تفشل الحركات الإسلامية قي أي اختبار ديمقراطي حقيقي، وتعرضت لعمليات قمع واستئصال عنيقة وقاسية من خلال أجهزة الدولة الاستبدادية القمعية العسكرية والقانونية. ففي كل مرة حصلت فيها حركات الإسلام السياسي على ثقة الشارع بانتخابات ديمقراطية نزيهة تم قمعها بعنف عسكري وقانوني، وبدعم ومباركة من المركزية الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية.

ومنذ تسعينيات القرن الماضي كانت حركات الإسلام السياسي رغم عمليات القمع والاحتواء تعود أقوى من السابق، وشكلت محطة الانتفاضات العربية مختبرا لإخفاق نبوءات الفشل والأفول. وفي زمن "طوفان الأقصى" برهن الإسلام السياسي عن استحالة إزاحته وإعلان موته، فقد برهنت حركة حماس عن وهم الصهيونية بالقضاء عليها، وفي غفلة عن التحولات الجيوبوليتيكية أصبحت سوريا في قبضة الإسلام السياسي وتخلصت من حكم استبدادي عربي وحشي، وكانت حركة طالبان قد أحكمت قبضتها على أفغانستان قبل ذلك ودحرت الولايات المتحدة وواجهضت الحلم الإمبريالي.

تكشف التحولات العميقة التي عصفت في بنية النظام الدولي عن بوادر هزيمة استراتيجية للثلاثي الإمبريالي والصهيوني والاستبدادي في ثلاث مناطق جيوسياسية مركزية (أفغانستان وفلسطين وسوريا) عن طريق الإسلام السياسي، على اختلاف توجهاته الأيديولوجية، وهو ما دفع بثلاثي القهر العالمي إلى استخدم العنف المفرط للحيلولة دون تحقيق نصر كامل للإسلام السياسي
تكشف التحولات العميقة التي عصفت في بنية النظام الدولي عن بوادر هزيمة استراتيجية للثلاثي الإمبريالي والصهيوني والاستبدادي في ثلاث مناطق جيوسياسية مركزية (أفغانستان وفلسطين وسوريا) عن طريق الإسلام السياسي، على اختلاف توجهاته الأيديولوجية، وهو ما دفع بثلاثي القهر العالمي إلى استخدم العنف المفرط للحيلولة دون تحقيق نصر كامل للإسلام السياسي، وهو ما يتزامن مع صعود منظورات دول الحضارة وبروز التعددية القطبية، حيث يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار. وشكلت حرب الإبادة في غزة مختبرا لثلاثي القهر ونهاية سردية الحضارة والبربرية، فبدلا من الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، انتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة أحادي ضد كل البدائل المتعددة.

إن العداء للإسلام السياسي يعبر عن حالة الهلع والفوبيا من عودة منظورات دول الحضارة التي ترتكز على الهوية الحضارية، والالتزام بالرموز الثقافية الموروثة من أجيال وأجيال من الأجداد، والمتجذرة في هوية الشعوب الذاتية، إذ يشير مصطلح الإسلام السياسي إلى الأفكار والحركات التي تسعى لتأسيس كينونة تناهض المنظومة الإمبريالية والحركة الصهيونية والأنظمة الاستبدادية.

وتهدف حركات الإسلام السياسي على المدى المنظور والبعيد إلى إقامة "نظامٍ إسلامي" يتمثّل في دولة تُحكَم بالشريعة وتفرض القوانين الأخلاقية الخاصة بها في المجتمعات الإسلامية، وما حصل في العالم العربي من إخفاق مؤقت لهذه الحركات هو فشل لنوع من نضالات الإسلام السياسي؛ حين تخلى عن أهدافه النهائية واندمج في إطار دولة سلطوية استبدادية تتناقض في أبسط تعريفاتها مع مفاهيم الحكم الإسلامي الجيد.

وبهذا فإن فشل الإسلام السياسي هو فشل تكتيكي في إطار حدود اللعبة السلطوية المحسوبة دون ديمقراطية حق، فالحرب الشاملة على حركات الإسلام السياسي هي نتاج حقد وكراهية متأصلة خشية ظهور كينونة مسلمة مخِلة بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة. وإن ظهور كثير من الأفعال السياسية باسم الإسلام يمكن وصفها بطريقة مفيدة باعتبارها الإسلام السياسي. وقد تمّ وسم ظهور الإسلام السياسي بتطوّرين: إزاحة الغرب عن المركز، والمحاولة المتصاعدة في شدّتها لإيقاف تلك الإزاحة عن المركز عبر إعادة تقرير تفوّق البيض.

يبدو أن الخوف من عودة حركات الإسلام السياسي كفاعل في المجال السياسي العربي منطقيا عقب عملية "طوفان الأقصى" المباغتة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، داخل المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، وكانت حركة طالبان قبل ذلك بعام قد فرضت واقعا مختلفا في أفغانستان وهزمت الولايات المتحدة. وقد برهنت "حماس" على قدرة الإسلام السياسي على المخاطرة والمغامرة في ظل انسداد أفق الحل السياسي العادل، وأن الاستقرار المبني على جبروت القهر وغطرسة القوة مجرد وهم لا يحقق الأمن، ولا يتمتع بالشرعية والمشروعية. وسرعان ما أطاحت هيئة تحرير الشام بعد عام من عملية "طوفان الأقصى" بنظام استبدادي عربي وحشي.

فعملية "طوفان الأقصى" عصفت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي وعقيدة الردع الاستعمارية، وهزت أركان النظام الدولي المبني على الهيمنة الأمريكية الأحادية، وأصبح النظام الاستبدادي العربي ما بعد استعماري في حالة شك وفقدان الثقة بمستقبله، وسرعان ما صدرت تحذيرات عالمية وإقليمية ومحلية واسعة من خطر صعود حركات الإسلام السياسي في المنطقة، والترهيب من موجة جهادية عالمية جديدة تهدد الاستقرار العالمي والإقليمي.

إن حالة الرعب التي دبت في أوصال النظام الاستبدادي المبني على القهر من موجة ثالثة لصعود حركات الإسلام السياسي تقوم على الخشية من تشكّل نموذج جديد على شاكلة "حماس"، فلا جدال في أن حركة "حماس" ترتبط تاريخيا وأيديولوجيا بحركات الإسلام السياسي، لكنها تختلف عن الحركات الإسلامية الأخرى بخصوصية العمل في نطاق حكم استعماري. وقد تطورت "حماس" من حركة إحيائية دعوية إصلاحية إلى حركة مقاومة إسلامية عسكرية، وهي تجمع بين العمل الديني الإصلاحي الدعوي والاشتغال السياسي والمدني والعسكري. وهي حركة مقاومة وطنية إسلامية سياسية جهادية تحصر نطاق عملها العسكري بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتؤمن بنهج إصلاحي تدريجي في تطبيق المبادئ الإسلامية والحكم، ولذلك تمتعت "حماس" بحكم صلاتها التاريخية والأيديولوجية بالإخوان المسلمين؛ بالدعم والتأييد من كافة حركات الإسلام السياسي المنبثقة من الإخوان.

يتأسس الخوف من ظهور نمط جديد من حركات الإسلام السياسي من الخشية من نجاح حركة "حماس" في فرض نفسها وعدم القدرة على هزيمتها وتجاوزها في أي حل مستقبلي للقضية الفلسطينية، وهو ما يؤذن بتدشين نموذج إرشادي جديد وملهم لحركات الإسلام السياسي التي فشلت في خلق جاذبية كافية لإحداث اختراق في النظام الاستبدادي العربي الما بعد استعماري. فالنموذج الجديد الذي تقدمه "حماس" يجمع بين التقاليد الخطابية الإسلامية والتأويلات الواقعية المجسدة، إذ لم تتخل حماس عن هويتها الدينية الإسلامية، وإنما أعادت تعريفها هويتها نتيجة تطور نظرتها العالمية المتغيرة، ولم تستبدل معجمها الديني الإسلامي وحقلها الدلالي، وإنما أضافت إليه مفردات من المعجم القومي الحداثي، لتوسع مجال الخطاب إلى مجال تداولي أشمل، وهو ما فشلت فيه حركات الإسلام السياسي في اختبارات عدة.

في زمن الاستقرار في ظل الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 أصبح العداء للإسلام السياسي بضاعة رائجة في ظل عولمة "الإسلاموفوبيا" صناعة إمبريالية غربية رائجة، وبات مصطلح الإرهاب يكافئ دين الإسلام، وبعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي أعيد تشكيل النظام الاستبدادي العربي باستبعاد أي شكل من عملية تسيس الإسلام، والانتقال إلى إدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة.

وقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" في لحظة تاريخية شهدت تراجعا قسريا لدور الحركات الإسلامية على اختلاف أوجهها وتوجهاتها، عقب الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، وفي حقبة تاريخية بائسة تماهى فيها الخطاب الاستبدادي العربي مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، حيث تناسى خطاب القهر الثلاثي أسباب العنف الإسرائيلي في قطاع غزة الذي حوله الاحتلال إلى معتقل وسحن كبير. وقد تجاهل الثلاثي الإمبريالي الغربي والاستعماري الصهيوني والاستبدادي العربي الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يستند إلى الاحتلال والإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، كما تناسى المجتمع الدولي حقيقة شرعية المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار وطبيعتها كحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئا ممكنا، بل واجبا يقوم على حق الدفاع عن النفس، بينما حشرت حركات الإسلام السياسي عموما وحركات المقاومة خصوصا في خانة "الإرهاب".

نظرية الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية باتت ترتكز إلى دعم الأنظمة السلطوية، ولم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأنا ثانويا داخليا من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي
فقد أصبح الوهم القائل بأن القضية الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا. وقد عززت مسارات التطبيع مع الدول العربية السلطوية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، حيث تماهت الخطابات الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية مع أسطورة "الإرهاب الإسلامي"، وخرافة الإسلام السياسي كمهدد للاستقرار.

لقد تنامى الوهم بالقضاء على الإسلام السياسي بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، حيث تشكّلت تصورات دولية وإقليمية جديدة حول دور الحركات الإسلامية في تحقيق الاستقرار، فقد تبدلت النظرة التقليدية التي طالما ربطت عدم الاستقرار الداخلي بالأنظمة الاستبدادية وغياب الديمقراطية، وهشاشة الاستقرار الإقليمي بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتحولت المقاربة الدولية والإقليمية بالنظر إلى جماعات الإسلام السياسي باعتبارها أحد أهم عوامل عدم الاستقرار.

فنظرية الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية باتت ترتكز إلى دعم الأنظمة السلطوية، ولم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأنا ثانويا داخليا من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي.

وهكذا أُسدل الستار على نظريات إدماج الإسلاميين في الحكم، وضرورة اشتمال الاعتدال في السلطة، وانتهت مقولات الاعتدال وجدار الوقاية، وغدت الحركات الإسلامية تتقلب بين تعريفها بين كونها حزاما ناقلا للتطرف والعنف، أو اعتبارها حركات عنيفة إرهابية، وتبلورت عقيدة دولية جديدة حول ماهية الاستقرار ومكوناته في نظام سلطوي في الشرق الأوسط، وأصبح وجود إسرائيل مشروطا بوجود أنظمة استبدادية عربية تقمع الإرادة الحرة للشعوب، وغدت الوظيفة المقدسة للاستبدادية العربية العمل كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية.

فالعلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.

قبل عملية "طوفان الأقصى" تبدلت المنطقة وتحولت إلى واحة استبدادية في ظل الهيمنة الأمريكية، وظهر مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط عقب اكتمال إعادة بناء الاستبدادية العربية، بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة، وبرزت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار في نظام سلطوي في المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية، إذ لم يعد ينظر إلى الاستبداد كتهديد وعقبة تحول دون الاستقرار، بل أصبحت مطلبا ضروريا للاستقرار، ولم يعد يُشار إلى وجود الاستعمار الإسرائيلي كمهدد للاستقرار، وتبدلت تعريفات الصديق والعدو، فاختُزلت مهددات الاستقرار بوجود الإسلام السياسي على اختلاف توجهاته السياسية؛ الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها الدينية السياسية على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية متماهية مع الرؤية الإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في بناء التصورات الأساسية حول المنطقة، وأصبحت تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول تعريف الاستقرار وماهية الصديق والعدو.

الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى" ومنع انبعاثه والقضاء على "حماس"، هدف مشترك للأنظمة الاستبدادية العربية والإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية، فظهور كينونة مسلمة مقاومة يخل بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة
وبلغت الكراهية والعدوانية تجاه الحركات الإسلامية في المنطقة أوجها بعد الانقلاب على "الربيع العربي"، وهو ما تجلى في بناء استراتيجية تقوم على التخلص من الإسلاميين محليا، وتسليم قيادة المنطقة إقليميا للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، ومحو وإزالة وتصفية القضية الفلسطينية، من خلال نسج تحالفات مع الأنظمة العربية الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية، أسفرت عن توقيع اتفاقات السلام "الإبراهيمية"، وبناء تحالفات عسكرية مشتركة، من خلال استراتيجية أمريكية غربية طموحة تسعى إلى إدماج المستعمرة الاستيطانية اليهودية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك تمّ اختزاله بمقولة "الإرهاب" الإسلامي، والذي بات يكافئ مصطلح "الإسلام السياسي".

خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" التي أظهرت قوة ونفوذ حركات الإسلام السياسي التي ترى في الإسلام دين وسياسة، تعاملت الأنظمة الاستبدادية العربية بقسوة مع نمط الإسلاميين المسيسين باستخدام القوة العسكرية أو العنف القانوني أو مزيج بين المقاربتين، ولجأت الأنظمة الاستبدادية المحافظة إلى مزيح من الاحتواء والإخضاع، وساد الاعتقاد لدى معظم الخبراء والباحثين بنهاية رؤى الإسلام السياسي وبروز نمط جديد من التدين، يستند إلى ظهور تغيرات في الممارسة الدينية من التعبئة السياسية من أجل الخلاص المجتمعي، وإلى تحول الإسلام إلى نهج غير مُسيس وشيوع نمط من التدين يقوم على سعي شخصي فرداني روحاني، حيث فُسّر تراجع الإسلام السياسي بسبب رفض المجتمعات لأطروحات ونهج الإسلام السياسي بعد الإخفاق في إيحاد حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون الالتفات إلى أن انحسار الإسلاميين جاء بسبب الانقلابات العسكرية المسلحة واستخدام العنف المادي والقانوني، وتشكيل تحالفات عسكرية دولية واسعة للقضاء على المنظمات الجهادية العالمية.

خلاصة القول أن الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى" ومنع انبعاثه والقضاء على "حماس"، هدف مشترك للأنظمة الاستبدادية العربية والإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية، فظهور كينونة مسلمة مقاومة يخل بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة. وإن ظهور كثير من الأفعال السياسية باسم الإسلام يمكن وصفها بطريقة مفيدة باعتباره الإسلام السياسي، وقد تمّ وسم ظهور الإسلام السياسي بتطوّرين: إزاحة الغرب عن المركز، والمحاولة المتصاعدة في شدّتها لإيقاف تلك الإزاحة عن المركز من خلال إعادة تقرير تفوّق العرقية البيضاء والعرقية اليهودية.

فالتحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي يمكن مقاربته من خلال النظر إليه باعتباره إطارا مفككا للاستعمارية الصهيونية والغربية على الصعيدين الإبستمولوجي والاستراتيجي، فالحركات الإسلامية تتوافر في جوهرها على أجندة تؤسس لكينونة مناهضة لسياسات ومصالح ومشاريع الغرب الإمبريالي، فقد نشأت كرد فعل على الاجتياح الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي الذي تزامن مع نشوء الحركة الصهيونية وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعلى وقع صدمة انهيار وسقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية).

وقد تطور الإسلام السياسي كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة ما بعد الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانية)، وبهذا أصبحت أهداف وغايات الحركات الإسلامية مناهضة للدكتاتورية والإمبريالية والصهيونية، من أجل استعادة "الخلافة" كرمز للهوية السياسية الدينية الإسلامية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • القصة الكاملة للمقاتل السوري مجدي نعمة الذي بدأت محاكمته اليوم بباريس
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • شهود عيان لـCNN: اشتباكات تسفر عن قتلى وجرحى في محيط جرمانا.. والداخلية السورية تكشف حقيقة تسجيل تضمّن إساءة للنبي محمد
  • خطر جسيم.. أمين الإفتاء يحذر من الفهم الخاطئ لحديث استفتِ قلبك
  • الإسلام.. يجرّد الدين من الكهنوت
  • شاهد بالفيديو.. (انت البرهان ولا شنو؟).. صديق الفنان حسين الصادق يسخر منه ويثير ضحكات “الدكاترة” والحاضرين
  • أبو الغيط يرحب بتعيين حسين الشيخ نائبا للرئيس الفلسطيني
  • “أمين الجامعة العربية” يرحب بتعيين حسين الشيخ نائبًا لرئيس دولة فلسطين
  • سأرسل لك سيارتي .. رد صدام حسين بعد محاولة اغتيال أمين الجميل - فيديو
  • الرهانات الخاطئة على فشل الإسلام السياسي