يحمل الوسط الثقافي العُماني للباحث والمفكر والدبلوماسي الإماراتي الراحل حسين غباش (1951-2020) محبة كبيرة يكاد لا ينافسه فيها أي مثقف إماراتي آخر عدا الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، والسبب هو نفسه؛ أن هذين المثقفين الإماراتيين كان لكل منهما اهتمام كبير بالتاريخ والتراث العُماني، غير أن غباش الذي أحيت مؤسسة بيت الزبير ذكراه مساء الثلاثاء الماضي بتدشين كتاب شقيقته رفيعة غباش عنه «حضر بعد رحيله»، يتفوق على ثاني من وجهة نظري؛ لأنه استطاع بكتابه المهم «عمان: الديمقراطية الإسلامية» الذي هو في الأصل بحث دكتوراة نالها من جامعة «نانتير» الفرنسية أثناء عمله مندوبًا دائمًا للإمارات في اليونسكو، وصدرتْ طبعتُه العربية عام 1997، استطاع بهذا الكتاب إثارة إعجاب عامة العُمانيين، جنبًا إلى جنب مع المثقفين، بدراسته لنظام الحكم في عُمان خلال الفترة ما بين عامَي 1500 و1970، التي خَلُصَ فيها إلى أن «مبدأَيْ الشورى والبيعة -الإجماع والتعاقد- مضافًا إليهما قيم المساواة الاجتماعية والمساواة أمام القانون ومبادئه تمثل ركائز الديمقراطية الإسلامية في عُمان، وفلسفة الثقافة الاجتماعية والسياسية لدولة الإمامة».
من هنا أفهم احتشاد الجمهور بأعداد غفيرة لحضور محاضرته في القاعة (1) بجامعة السلطان قابوس يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2009، رغم أن المحاضرة كانت في العاشرة صباحا في يوم عمل رسمي، وهو ما اضطر المنظِّمين إلى إتاحة مشاهدتها تلفزيونيًّا في قاعة مجاورة، امتلأت هي الأخرى بالحضور عن بكرة أبيها. وفي مقاله المنشور في «حضر بعد رحيله» يفسّر الباحث العُماني محسن الكندي ذلك الحضور الكثيف بأن العُمانيين كانوا «متعطشين لرؤية وسماع صوت باحث عالِم أيقظ فيهم حس الديمقراطية وأوجده في ذواتهم، وحقق لديهم صحوة التاريخ ونشوة الحقائق كما قرأوها في كتابه».
في حوار لغباش لمجلة «الثقافية» أجراه معه د.محمد الحجري ونُشِر في عدد نوفمبر 2010، ثم أُعيد نشره في كتاب «حضر بعد رحيله»، يسرد المفكّر الإماراتي رحلته مع التاريخ العُماني التي استمرت قرابة عشرة أعوام، والتي يسميها «رحلة العمر»، ويصفها بأنها رحلة غنية بكثير من المعارف، يقول غباش: «كانت رحلة في التاريخ والجغرافيا والسياسة، مكنتني من التعرف على خصائص الشعب العماني، على ثقافته، عرفتني على الفكر الإسلامي، والفكر العربي بصورة عامة. وأخيراً أثمرت كتاب «عمان والديمقراطية الإسلامية». وفي ظني أن قراءة هذا الكتاب اليوم بالذات ستؤدي بنا إلى وعي مختلف بالديمقراطية التي أثبتت أحداث «طوفان الأقصى» وما تلاها، أن نموذجها الغربي (أي الديمقراطية) قائم على الانتقائية واللا مساواة والكيل بمكاييل متعددة ولا تطبق على جميع البشر.
حوى كتاب «حضر بعد رحيله» عددًا غير قليل من القصائد التي نُظِمتْ والتغريدات التي كُتِبتْ بُعَيْدَ رحيل غباش، لكن الأهم أنه تضمن شهادات مهمة عن الكاتب الراحل، ترسم بورتريهًا شبه متكامل عنه إنسانًا ومناضلًا ومثقفًا حُرًّا، فها هو عبد الرحمن أحمد الشملان؛ زميله في وزارة الخارجية الإماراتية ثم في وفد الإمارات الدائم في جنيف يستشهد بعبارة لغباش تشي باستقلاليته وعدم إقدامه على أي عمل دون اقتناع: «اسمعني جيّدا. عندما يقنعني شخص بأمر ما، فإنني سأستميت في الدفاع عنه، أما أن يأمرني فقط، فأنا آسف لن أهتم». وها هو معن بشور (المفكر والكاتب السياسي) يُلفتنا في شهادته إلى «قلقه الفلسفي والفكري الدائم الذي جعله يتنقل بصدق بين أكثر من مدرسة فكرية مقتربًا - في سنوات عمره الأخيرة - من الصوفية التي جذبته إليها - وفق قوله - بما توفره من سلام داخلي وصفاء نفسي»، وهي التجربة التي أثمرتْ كتابه «التصوف: معراج السالكين إلى الله». أما الكاتب والناشط الحقوقي البحريني عبدالنبي العكري فيستعرض ضمن مقال طويل بعض مؤلفات حسين غباش، ومنها: «أمريكا وحقوق الإنسان في العالم الثالث»، و«فلسطين حقوق الإنسان وحدود المنطق الصهيوني»، و«الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة»، و«الجذور الديمقراطية في الخليج: الكويت والبحرين»، و«محمد: قراءة حديثة في سيرة رسول النور والسلام»، ونشير هنا إلى أن كتابًا وحيدًا صدر لغباش بعد رحيله هو «التراث الروحي للإسلام: تصوُّف الخلفاء» (الفارابي، 2022).
تمنيتُ أن يكون عنوان الكتاب «الحاضر بعد رحيله»، لأن الصفة توحي بالاستمرارية، وهو ما لا أظنه يتوفر في الفعل الماضي «حضر». ورغم العناية الواضحة به، ورفده بالكثير من الصور الملونة، إلا أنه كان في أمسّ الحاجة إلى نظرة تحريرية أخيرة قبل دفعه للطباعة، لتلافي بعض الهفوات المعلوماتية الصغيرة، ومنها على سبيل المثال إيراد صورة سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في مطلع الصفحة التي تتحدث عن شعراء مجلس الخليلي، بدلًا من صورة مؤسس المجلس الشاعر عبدالله بن علي الخليلي، ومنها أيضًا المعلومة الخاطئة التي أرخ بها الدكتور محسن الكندي إقامة أصبوحة حسين غباش في جامعة السلطان قابوس، حيث ذكر أنها أقيمت في عام 2012، والصحيح أنها في عام 2009، ومن هذه الهفوات أيضًا تعريف قصة قصيرة لحسين غباش بعنوان «القديسة» منشورة في صحيفة البيان في 27 أبريل 1988 على أنها مقال، وكم تمنيتُ أن تكون هذه القصة مُفرَّغةً كتابةً داخل «حضر بعد رحيله» وعدم الاكتفاء بالصورة التي لا يمكن قراءة حروفها الصغيرة، لنقف نحن القراء على هذه التجربة الأدبية لغباش كما وقفنا على تجربته الفكرية.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانی
إقرأ أيضاً:
لا ريب فيه.. تفنيد الشبهات والشكوك حول أعظم كتاب
في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: "ذلك الكتاب لا ريب فيه"، كيف نوفق بين هذا التصريح القوي بسلامة القرآن من أي شك، وما وقع من الكفار من تشكيك وريب في القرآن العظيم؟
الشك في القرآن بين الكفار وصدقه عند المؤمنينقال العلامة ابن جماعة - رحمه الله -: "قوله تعالى: "لا ريب فيه"، وقد أخبر الله بشك الكفار فيه وريبهم في مواضع عدة".
فالإجابة على هذا التساؤل تتجلى في تفسير بسيط ولكن عميق، حيث إن القرآن الكريم خالي من أي شك، ولكن الشك لا يظهر إلا عند من لم ينظر في آياته وأدلته المتعددة التي تثبت صحة ما جاء فيه. "لا ريب فيه"، تعني أنه ليس هناك أدنى شك في القرآن عند من فحصه بعمق، وعرف براهينه وصدقه، بينما كان الكفار يرفضون هذه الأدلة ولا يقبلونها بسبب رفضهم للحق.
كما يوضح صاحب "فتح الرحمن": "لا ريب فيه"، أي لا شك فيه، إلا أن الشك الذي وقع فيه الكفار كان بسبب تهاونهم في فحص الأدلة والتدبر فيها. القرآن نفسه دليل قاطع على صدقه، بينما كان إنكارهم في الحقيقة ناتجًا عن عناد أو جهل.
كيف نفهم "لا ريب فيه" رغم شك الكفار؟يقول البعض: كيف يكون القرآن "لا ريب فيه"، بينما نجد أن الكفار كانوا يشككون فيه؟ الجواب ببساطة: إن القرآن الكريم هو كتاب من عند الله، ولا مكان فيه للشك من وجهة نظر الله ورسوله والمؤمنين. الشك الذي وقع فيه الكفار ليس بسبب نقص في الكتاب، ولكن بسبب قلوبهم المريضة أو عنادهم في قبول الحقيقة. "لا ريب فيه" تعني أنه لا محل للشك في القرآن عند الله سبحانه وتعالى، وعند رسوله، وعند المؤمنين الذين يؤمنون به ويتدبرون فيه.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا"، كيف أن نفي الشك في القرآن يوازي نفي الشك في قيام الساعة، فالأمر الذي جاء من عند الله، لا مجال للريب فيه.
الجواب على الشبهة والتساؤلمن خلال هذه الآيات العظيمة، نعلم أن الشك في القرآن ليس له مكان إلا في قلوب من لم يؤمنوا أو من عارضوا الحق. أما المؤمنون فهم لا يشكون في القرآن لأنه كتاب من عند الله، تضمن الأدلة القطعية على صدقه وصحة ما جاء فيه. إذا كانت هناك شبهة، فإن الرد عليها يكون بتدبر القرآن نفسه والرجوع إلى آياته التي تفضح هذا الشك وتكشف الحقائق.
إن هذا التفسير مهم لفهم دورنا في الدعوة إلى الإسلام، لأننا في كثير من الأحيان نواجه من يشككون في القرآن، ولكن الشك ليس في القرآن نفسه، بل في تفكير من يرفضون النظر في أدلته أو يتعصبون لآرائهم.