الطليعة الشحرية
تُختصر وتُختزل الأمم بالمواقف والأفعال الثابتة على مبادئ الحق والعدالة والمساواة، واختلت موازين القيم اليوم وتكشفت هشاشة وتعفن قلب هذه الأمة. تمر الأمة الإسلامية بسنوات ضعف جديدة مُنذ انهيار الدولة العثمانية ودخول المستعمر الإمبريالي وتقسيم الشرق إلى دويلات وإنشاء كيانات وظيفية بعضها حديث النشأة وفق أنظمة وانتماءات منقوصة.
سنوات الضعف التي تعيشها الأمة الإسلامية لم تنته ولم يستفق أحد من غيبوبته وسكرة مخدرات القوميات والنزاعات المذهبية والطائفية. تشبه سنوات الضعف للأمة الإسلامية بحرب الأفيون الأولى والثانية والتي أشعلتها القوى الاستعمارية البريطانية مع الصين وانتهت بسقوط سلالة تشينغ الصينية وانتهاء الإمبراطورية الصينية. تُعتبر حرب الأفيون من أقذر الحروب في التاريخ.
حرب الأفيون والشرق الأدنى
نشب نزاع مُسلح بين بريطانيا الاستعمارية وسلالة تشينغ ومن ثم انضمت فرنسا إلى جانب بريطانيا في حرب الأفيون الثانية وتعرف أيضًا باسم "حرب السّهم" أو "الحرب الأنجلو-فرنسية في الصين".
أدّت الحروب والمعاهدات التي فُرضت تباعًا إلى إضعاف أسرة تشينغ والحكومة الإمبراطورية الصينية، وأجبرت الصين على فتح موانئها أمام حركة التجارة الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، أخذت بريطانيا حقّ السيادة على هونغ كونغ.
وبنفس الخطوات التي أسقطت سلالة تشينغ الصينية تم إسقاط الدولة العثمانية وأضعاف الشرق الأوسط؛ فتاريخيا الشرق هو قلب الصراعات مُنذ بزوغ فجر الإمبراطوريات، فلا تتحققت سيطرة لأي تكتل أو قوة إلّا ببسط السيطرة على الشرق سواء كان بتحالفات أو معاهدات أو تشكيل مُعسكرات ولاء. وهناك من يدين بالولاء للدولة الرومانية وهناك من يدين بالولاء للدولة الساسانية، بينما ينشغل تلك التكتلات الوظيفية الموالية بخلق نزاعات قبلية وقومية، ومذهبية، وطائفية وحزبية. اللعبة ذاتها لم تتغير وإن تطورت مسمياتها.
الرجل المريض لم يُشفَ بعد..
سمى الأوربيون الدولة العثمانية إبان أفولها بـ"الرجل المريض" وهو تشبيه صائب، لكن تلك الصورة لم تنته؛ بل اختُزلت في إطار ومساحة العثمانيين، والحقيقة أنَّها صفة أوسع وأشمل للعالم الإسلامي اليوم. عالمٌ لم يشف من الاستعمار وتآمره، يتعايش مع سنوات الضعف بكل أريحية، وقسمٌ منهم تتم إبادته وترتكب المجازر بشكل مُتكرر منذ 7 من أكتوبر 2023، والكل متفرج ويدعو لضبط النفس. وهناك قسم آخر يُقتل ويُغتصب وبصمت في السودان وسوريا، أليس من الغريب أن تجتمع على هذه الأقسام جميعها صفة التفرُّج بصمت وكأنَّه شريط سينمائي أنتج لشارلي شبلن بالأبيض والأسود، البطل فيه صامت والجمهور يشيح بوجهه ويدعو الله بريبة القلق.
تفوقنا على أنفسنا اليوم بالقدرة على الحديث والانتقاد وللأسف نحو الاتجاه المعاكس. وعندما تُختزل قضية الأمة وتُقزّم وتُؤطر في نطاق قومي طائفي ضيق فما ذلك سوى عملية تهميش، وما يحصل اليوم في سوريا وغزة والسودان سيطال الجميع بلا استثناء إن لم ينبض القلب الضعيف للرجل المريض.
قلب الأمة في رجل
لا يتطاول التائهون في الأرض إلّا على العظماء، وموقف سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي والتزامه وثباته على الحق تجاه القضية الفلسطينية رغم أنوف المتصهينين العرب والكيانات الوظيفية المتصهينة الذين يحاولون التشويش على صوته، بإطلاق حملات وحرب إلكترونية شعواء وإن حاولت التشويه وتحريف الكلام أحيانا بأهمية ما يصرح به سماحته وخصوصًا في مثل هذه الأوقات الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية. سماحة الشيخ لا يتحدث من منطلق مذهبي أو من رؤية مقتصرة على منظورات أٌحادية، وإنما يتحدث بلسان وقلب الأمة الإسلامية ذات الإرث التاريخي الضخم والمتعدد الأقطاب، ولا يقبل المركزية والمقتصرة على قومية وعرقية وحزبية وطائفية لا تسمح بالشمولية. ولا ينسى كل من يحرك لجانه الإلكترونية بتخبط وعشوائية اعتدنا عليها من طُعم تائهة. مقولة سماحة الشيخ في أحد اللقاءات المتلفزة عند التطرق إلى المذهب مقولته الشهيرة "كلها ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسدِ".
الاصطفاف استراتيجي
في لحظات الانفلات والتحرر من الأطر العبثية المفروضة، نهرب أحيانًا من ضجيج وصخب هذا العالم المكتظ بالمسميات والألقاب، عالم يتقيأ فيه التائهون والمشوهون باحثين عن سلام التطبيع مع كيان لقيط، ويتحايلون على الأمة المريضة بعقلها الجمعي المُغيّب مؤقتًا، خشية الاستيقاظ القادم بعد أن تستفحل فوضى ربيعية أخرى.
بلاء هذه الأمة النائمة وجود كيانات وظيفية تائهة تقتات في غيها وطغيانها على البترودولار وتستمد وجودها من حداثة بلا أصالة، تعلم يقينًا أن مجرد فكرة اصطفاف استراتيجي شرق أوسطي إسلامي، يشمل كل الأقطاب- وإن تنوعت القوميات واختلفت المذاهب والطوائف- يقوِّض وجودها ككيان وظيفي يخدم مصالح المشروع الاستعماري الإمبريالي الصليبي الصهيوني. فيتضخ الدعم المنقطع النظير لتشكيل خلايا وذباب إلكتروني يُقلِّب ويُوجِّه الرأي العام.
ولذا يتوجب على العلماء والمفكرين والمثقفين والمنظرين والمشاهير في هذه الأمة إخراج رؤوسهم من جحر النعامة الذي دُفنوا فيه، فحق الكلمة واجب، والأخلاق الإنسانية تُحتم عليهم فض غبار الاستعمار الطوعي، والسعي لوضع مشروع استراتيجي تصطف حوله كل الأطياف والقوميات تحت لواء أممي.
ماذا لو- تخيل فقط- تجمعت القوميات والطوائف والمذاهب تحت تحالف استراتيجي شرق- أوسطي يشمل إيران وتركيا ودول الشرق الأوسط والتي هي نقطة التقاء للتدافع والصراع الحضاري تاريخيًا، فإذا تشكَّل هذا التحالف والتكتل بثقله السكاني المالي وثرواته وارتحل به بحرية الأفراد والأفكار، فمن ستسوِّل له نفسه إعادة تشكيل الخريطة وإعادة التقسيم والتهجير والإبادة؟
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أستاذ فقه: علماء الأمة أجمعوا على تحريم المخدرات لأنها تذهب العقل
عقد الجامع الأزهر اليوم الاثنين، اللقاء الأسبوعي للملتقى الفقهي (رؤية معاصرة) تحت عنوان "المخدرات بين الشرع والطب" وذلك بحضور كل من؛ الدكتور أحمد خيري عبد الحفيظ، مدرس الفقه بجامعة الأزهر، وأ.د محمد محمود حمودة، مدرس الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب، بجامعة الأزهر، وأدار اللقاء الشيخ. كريم حامد أبوزيد، منسق كتب التراث والبرامج الموجهة بالجامع الأزهر.
في بداية الملتقى قال الدكتور أحمد خيري عبد الحفيظ، مدرس الفقه بجامعة الأزهر، إن التكريم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى للإنسان " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" هو تكريم جاء في صور كثيره، أولها التكريم في الخلق، " لقد خلقنا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، أي أحسن صورة وهيئة، ثم بعد ذلك التكريم في المنهج، لهذا جعل الله لنا شرعة نهتدي بها، وأرسل إلينا الرسل لتهدينا سبل الرشاد.
يأتي بعد ذلك النوع الثالث من التكريم وهو السر الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في خلقه وهو العقل، والذي هو الجوهرة التي تكرم الله بها على عباده، لهذا جاءت كل الشرائع متكفلة بحفظ العقل، لذلك نجد أن كل ما يضر بالعقل فهو منهي عنه في هذه الشرائع، وهناك الكثير من الأمور المحرمة العلة في تحريمها أنها تؤثر على العقل.
وأضاف أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، أن تحريم الخمر لم يأت دفعة واحدة، بل تدرج التشريع الإسلامي في تحريمها على مراحل لحكمة إلهية، ومراعاة لأحوال الناس في ذلك الزمان، فبدأ ببيان مساوئها ومفاسدها، للحد منها، فعندما جاء عمر بن الخطاب للنبي ﷺ وقال له يا رسول الله أفتنا في الخمر؟ فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا"، ثم بعد ذلك جاء الحكم بتحريمها في أوقات الصلاة بسبب أن أحد الصحابة أخطا وهو يصلي بسبب الخمر، فعندما أقام سيدنا عبد الرحمن بن عوف وليمة لصحابته، ثم جاء وقت صلاة المغرب وكان بعض الصحابة قد شرب الخمر، وتقدم أحد الصحابة للصلاة بهم، ولكنه أخطا في الصلاة بسبب الخمر، فنزل قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، ثم بعد ذلك سيدنا عتبان بن مالك أقام ولمية، ودعى إليها صحابة رسول الله، وبعد الوليمة بسبب المبارزة بالشعر، كادت أن تكون بينهم مقتلة، فهنا دعا سيدنا عمر ربه قائلا: اللهم أنزل علينا بيانا في الخمر، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.
وبين أن المتتبع لأحكام الخمر قبل تحريمها قطعيا يجد أن الكثير من الصحابة كان لا يشربها، ويرفضها بسبب فطرته السلمية التي ترفض هذا الفعل، لأن الفطرة السليمة ترفض تعاطي المواد التي تذهب العقل، وهو ما بينته السنة النبوية المطهرة، مبينًا أنهم كانوا يدركون خطورتها، وهو يظهر عندما خطب سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه، في الناس، حول أضرار الخمر، واصفًا إياها بأم الخبائث، واستشهد بقصة من القرون السابقة، عن رجل دعته امرأة إلى منزلها، ثم أومأت إلى جاريتها أن تغلق الباب دونهما، وخيرته بأن يقع عليها أو يشرب الخمر، أو يقتل صبيا موجودا، فاختار الرجل الخمر، فلما شرب الخمر وقع عليها ثم قتل الصبي، وهنا يعطيهم سيدنا عثمان درسًا عمليا، حول مفاسد الخمر وأضرارها التي يمكن أن تصل إلى أسواء شيء يمكن أن يتصوره العقل.
أوضح أستاذ الفقه، أن علماء الأمة أجمعوا على تحريم المخدرات، وكل ما يذهب العقل، كما أن كل ما ورد في تحريم الأمور التي تؤدي إلى الفساد والإفساد في الأرض، ينسحب على المخدرات، لأن المخدرات تعريفها كما أورده ابن حجر العسقلاني، بأنها ما يتولد عنها تغطية العقل وعدم إحساس البدن، والإحساس بالفتور، كما أن الإتجار في المخدرات يعد فسادًا في الأرض، لأن المخدرات أم الخبائث كما في حديث أم سلمة رضى الله أنها قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، مبينًا أن إشكالية المخدرات وأضرارها لا تقع على العقل فقط، وإنما تتعداها إلى المال، لأن المال نعمة مسؤول عنها الإنسان، وإنفاقه على المخدرات هو إنفاق في غير موضعه، كما تضر المخدرات أيضًا بالنفس، فهناك الكثير من حالات الوفيات بسبب المخدرات، فهي ضرر في كل شيء، وكثير من المشكلات المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم مثل التفكك الأسري، والخلافات الاجتماعية تكون بسبب المخدرات.
وحذر أستاذ الفقه، الآباء من الغفلة عن سلوك أبنائهم وعدم متابعتهم، لأن رفقاء السوء، قد يجرونهم إلى طريق الهلاك، وعلى الأسر أن تقوم بواجبها في تقوية الوازع القيمي في نفوس أبنائها، حتى لا يكونوا عرضة للوقوع فريسة لمروجي هذا النوع من المفسدات، وعلى المجتمع أن تتضافر جهوده من أجل القضاء على هذا الوباء الذي يهدد مجتمعاتنا، مع ضرورة تقديم يد العون لمن وقع فريسة للمخدرات، حتى يتعافى، لأن تركه على هذه الحالة يؤدي إلى مزيد من المشاكل.
وبين مدرس الطب النفسي وعلاج الإدمان بجامعة الأزهر، أن المجتمعات التي اتخذت إجراءات صارمة في مواجهة المخدرات، استطاعت أن تجنب شعبها خطورة هذه المواد التي تهدد المجتمع في كل جوانبه، وساعدتها هذه الاجراءات في النهوض بالمجتمع في شتى المجالات، مبينًا أن خطورة المخدرات بدأت تتضاعف وتشكل تحديا كبيرا أمام المجتمعات، بعد تنوع المواد المخدرة وبخاصة بعد ظهور نوع جديد من المخدرات يعرف بالمواد التخليقية، والتي ينتج عنها أضرار مضاعفة، مثل توهم متعاطيها لأوهام تدفعه إلى القيام بأعمال كارثية، إضافة إلى أن المعروف عن المخدرات أنها تسبب الاكتئاب وتفقد الشخص القدرة على القيام بأي مجهود ذهني وبدني، فالكثير من الحوادث الخطيرة في المجتمع تكون بسبب المخدرات.
أوضح أستشاري علاج الإدمان، أن الأغراض الطبية التي تدخل في علاجها المواد المخدرة، مشروطة بالحالة التي تخصص لها، وأن تكون تحت إشراف الأطباء، وتكون هناك حالة ضرورية لذلك، ما عدى ذلك يعد تعاطيا وهو ممنوع دوليا، كما أنه محرم شرعًا، والإسراف في تعاطي الجرعات الطبية يدخل أيضًا تحت بند التعاطي.
من جانبه قال الشيخ كريم حامد أبوزيد، منسق كتب التراث والبرامج الموجهة بالجامع الأزهر: إن المواد المخدرة تشكل خطرًا كبيرًا على المجتمعات، كونها تؤثر على عقل الإنسان وسلوكه، وتمتد آثار تناول المخدرات إلى أبعد من ذلك، كونها تهدم الجانب الاقتصادي والأمني للمجتمعات، والشريعة الإسلامية جاءت لحفظ الكليات الخمس: "الدين، النفس، العقل، النسل، والمال"، والمخدرات تشكل خطرًا على هذه الكليات التي جاء الإسلام لحمايتها، لهذا حرم الإسلام المخدرات، لأنها تؤثر على العقل الذي هو مناط التكليف، كما أن المخدرات لا يستقيم الحفاظ على الكليات الخمس مع وجودها لأنها تهدد حياة الإنسان وتهدد استقرار المجتمع، والمتخصصين أجمعوا بأن المخدرات هي نوع من أنواع التهلكة التي حذرنا منها الحق سبحانه وتعالى في قوله"ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة".
يُذكر أن الملتقى "الفقهي يُعقد الاثنين من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر وبتوجيهات من فضيلة الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، ويهدف الملتقى الفقهي إلى مناقشة المسائل الفقهية المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، والعمل على إيجاد حلول لها وفقا للشريعة.