سالم بن نجيم البادي
أوجعني فقد أمي، فلا شيء أمرَّ من رحيل الأم، فقدتُ حتى القدرة على البكاء، وحبس الدموع أشد ألمًا من انسيابها، لقد ضاعت الكلمات كل الحروف والكلمات لا تكفي لرثاء الأم.
أدركت الآن كم كنتُ محظوظًا ومرتاحًا ومُطمئنًا وسعيدًا حين كانت أمي تملأ أركان البيت بحضورها الطاغي، وكنت أعود إليها من معارك الحياة اليومية أبثها أحزاني وهمومي وأخبرها بكل تفاصيل حياتي، حتى إن الذين حولي يوجهون اللوم لي قائلين ما لازم تخبرها بكل شيء حتى لا تسبب لها الحزن، لكنني أخبرها عن كل شيء، وفي كل مرة، فمن لي غير أمي يهدئ من روعي ويبث السكينة والعزيمة في نفسي؟ ومن غير أمي يغدق عليّ الحب الصادق الخالص المجرد من المصالح والمجاملات والزيف؟ وأين أجد حضنًا حانيًا كحضن أمي ودعاء بالتوفيق والسداد مثل دعاء أمي؟
كنت أتعمد أن استأذن منها أكثر من مرة، كلما نويت السفر، أريد دعاءها، فتقول "الله يحفظك"، وتقول "ما أريدك تروح عني بس ما بيدي حيلة"، وتسألني إن كنت سوف أعود سريعًا، وحتى في مشاويري القصيرة تسألني إن كنت سوف أعود أو أني سوف أقضي الليل خارج البيت، وإن تأخرت، ذهبت آخر الليل إلى مرآب السيارة لترى إن كنتُ عدتُ أو لم أعد، وأحيانًا تبحث عن نعالي أو تطرق باب البيت لتسأل زوجتي عني! كنت أعود إلى البيت مثل الذي اشتدت حاجته إلى الماء وكاد العطش أن يفتك به، أهرع إلى غرفة أمي، أقول لها "أمي أنا رجعت أو ضويت أو عطنت"، وكانت تبدي فرحتها الغامرة بعودتي.
رحلت أمي وقد ذُقتُ الشعور باليُتم برغم عمري هذا، وعانيتُ من وجع الفقد وطعم الحياة الباهت بعد رحيل أمي الأبدي.
لكن عزائي أنها وفدت إلى الله الغفور الرحيم.. رحم الله أمي وأمهاتكم، وأرجو منكم الدعاء لها من أجل أن ترقد روحها في سلام.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
واقعة البيت الأبيض وأبعادها
لن تسقط المشاجرة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضيفه الأوكراني فلوديمير زيلينسكي من الذاكرة السياسية، وستظل مشاهدها الصادمة مدعاة لتقصي أبعاد هذا الحدث ودلالاته، والتساؤل عما يعنيه بشأن مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فما حدث مع زيلينسكي في البيت الأبيض يكاد يكون تتويجاً لما حدث سابقاً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر.
كان واضحاً أن العلاقة بين ترامب وزيلينسكي متوترة، ولا تتجه إلى الاتفاق على أي شيء، فالأول، الذي لا يخفي نواياه، صرح بأنه يريد سلاماً ينهي الصراع مع روسيا ويبرم صفقة ضخمة مع كييف حول المعادن النادرة تتمكن من خلالها واشنطن من استعادة مئات المليارات التي قدمتها لدعم التصدي لروسيا، بينما يحاول الرئيس الأوكراني المحافظة على صورته التي رسمتها الدعاية الأوروبية كمناوئ لموسكو ومدافع عن بلده، وهي معادلة لم تعد مجدية، لأن الحرب، التي دخلت عامها الرابع، لم تحقق خلالها أوكرانيا أي شيء عسكرياً، ولكن إذا تم اللجوء إلى المفاوضات، يمكن التوصل إلى حل سياسي يحقن الدماء ويجنب أوروبا حرباً عالمية ثالثة، كما يحذر من ذلك متابعون كثيرون.
وسط هذا الجو المشحون، جاء اللقاء العاصف بين ترامب وزيلينسكي وسط شكوك بأن في الأمر مكيدة أو خطة مسبقة أوقع فيها الرئيس الأمريكي ضيفه الأوكراني، من أجل أن يبعث برسائل إلى من يهمه الأمر. وقد كانت ردود الفعل في العالم الغربي مستاءة ومتعاطفة مع زيلينسكي، وجوبهت الإدارة الأمريكية بانتقادات شديدة، باعتبار أن الملاسنة التاريخية بين رئيسين أمام وسائل إعلام خطأ يتنافى مع أبسط قواعد الدبلوماسية، والمعاهدات والمواثيق، التي تنظم العلاقات بين الدول وتضع الضوابط البروتوكولية التي تصون المناصب القيادية العليا للدول، فحتى عندما يلتقي عدوان، يكون اللقاء وفق أطر معلومة تضمن الاحترام المتبادل لكلا الطرفين، وتحفظ الأسرار والرموز للدول.
من الأهداف الأساسية الدبلوماسية وضع الأطر لإدارة الخلافات والتباينات. وما حدث في البيت الأبيض، بدا أنه أقرب إلى خلاف شخصي بين زيلينسكي وترامب مدعوماً بنائبه جي دي فانس، وفي دقائق معدودة أصبحت المشاجرة قضية الساعة، وذهب بعضهم إلى اعتبارها عنوان مرحلة في النظام الدولي، ستكون فيها الصراعات والرغبات والأهواء السياسية مطروحة على الهواء مباشرة ودون أي اعتبار للأعراف والقيم الديبلوماسية.
وما جرى بين ترامب وزيلينسكي كان يفترض أن يتم داخل غرف مغلقة وبعيداً عن وسائل الإعلام، حتى يظل هناك مجال للفعل السياسي واستمرار التواصل، وبما يسمح للطرفين بحث العلاقة المأزومة واستكشاف فرص تهدئة التوتر، والمساعدة على إنهاء الحرب في أوكرانيا وحفظ الأمن الإقليمي في أوروبا وحفظ أمن جميع الأطراف. ومثلما للدول الكبرى أهداف وخطط، للدول الصغرى والمتوسطة أيضاً مصالح وحقوق في العيش بسلام، دون أن تكون تحت طائلة الابتزاز أو التهديد.
واقعة البيت الأبيض، تؤكد، مرة أخرى، أن العالم مأزوم ويشكو تصدعات مخيفة وكسراً متعمداً لقواعد وسلوكيات حكمت العلاقات بين الدول عقوداً طويلة، وباتت الآن في خطر وأمام تحولات مجهولة العواقب.