في الوقت الذي انشغل فيه المحللون السياسيون بتبعات الهجوم الإيراني على إسرائيل بالطائرات المسيرة، كان خبراء "هندسة الجيوماتكس" مهتمين بتحليل الأمور التقنية المرتبطة بهذا الهجوم، وفي مقدمتها ما أعلنته بعض المطارات في منطقة الشرق الأوسط من حدوث تعطل في نظام تحديد المواقع "جي بي إس" الذي تعتمد عليه الطائرات.

و"هندسة الجيوماتكس" مجال يركز على الحصول على المعلومات الجغرافية وإدارتها وتحليلها وتصورها، فهو يدمج مختلف التخصصات مثل المسح ونظم المعلومات الجغرافية (جي آي إس) والاستشعار عن بعد وأنظمة تحديد المواقع العالمية (جي بي إس) ورسم الخرائط لجمع البيانات المرجعية المكانية وتخزينها ومعالجتها وتحليلها وتقديمها.

ولم ينتظر باحث ما بعد الدكتوراه المتخصص بهندسة الجيوماتكس بجامعة ووهان بالصين محمد فريشح كثيرا بعد إعلان المطارات تعطل نظام تحديد المواقع، واستدعى الوقائع المشابهة من التاريخ الحديث والقريب، ليخرج بنتيجة أعلنها على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أن ما حدث هو تشويش مقصود يهدف إلى عدم تمكين الطائرات الإيرانية المسيّرة من إصابة أهدافها في الداخل الإسرائيلي بالدقة المطلوبة.

فكيف يعمل نظام "جي بي إس"، وما هي آليات استخدامه لدعم عمل الطائرات المسيرة وتمكينها من إصابة أهدافها، وكيف يُعطّل للوقاية من هجوم الطائرات؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها فريشح في حوار خاص مع "الجزيرة نت".

محمد فريشح المتخصص بهندسة الجيوماتكس بجامعة ووهان بالصين: عندما بدأ هجوم إيران على إسرائيل أعلنت المطارات تعطل نطام "جي بي إس"، وما حدث تشويش مقصود كي لا تتمكن الطائرات الإيرانية المسيّرة من إصابة أهدافها  (الباحث) يرتبط "جي بي إس" في أذهان الكثيرين بأنه تلك الخدمة المتاحة عبر الهواتف المحمولة لتمكيننا من الوصول للأماكن، وفوجئ البعض بتطبيقاتها العسكرية، على خلفية ما حدث في الهجوم الإيراني الأخير.. فكيف تُوظَّف عسكريا؟

الأصل في أنظمة الأقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع مثل نظام التموضع العالمي "جي إن إس إس" الذي يضم منظومة "جي بي إس" الأميركية، أنه لأغراض عسكرية، إذ بدأ التخطيط له في بداية سبعينيات القرن الماضي للاستخدام في الأغراض العسكرية، ثم فُتح استخدامه للأغراض المدنية بعد ذلك، لكن هذا لم يلغ الدور الذي طُور من أجله، ويلعب "جي بي إس" حاليا دورا رئيسيا في الحروب الحديثة، أو كما وصفها السياسي والخبير الأكاديمي "رافي جريجوريان" بأنها ثورة عسكرية للعالم.

لماذا أعطاها هذا الوصف؟

باستخدامها تتمكن الصواريخ الموجهة بالأقمار الصناعية من ضرب الأهداف، خاصة الأهداف بعيدة المدى، ومؤخراً مع التطور الذي شهدته الطائرات الحربية بدون طيار والمسيّرات، وُظفت هذه التقنية لمساعدة الطائرات المسيرة على السير بمسار معين للوصول إلى أهداف معينة، وذلك على اختلاف أنواعها، سواء أكانت مسيرات ذات مهام استطلاعية أم ذات مهام هجومية أم حتى ذات مهام انتحارية، ومع ما أضافته هذه المسيرات من قيمة كبيرة تتمثل في حفظ حياة الطيارين، إلى جانب انخفاض كلفتها بالمقارنة بالطائرات الحربية، تكمن هناك معضلة كبيرة في مدى وصول هذه المسيرات لأهدافها عند استخدام أنظمة التشويش على "جي بي إس" والتي يراها البعض سلاحا وقائيا لحماية الأهداف العسكرية من المسيّرات.

وكيف تحدث عملية التشويش؟

حتى نعرف كيف يحدث التشويش، يجب أولا معرفة كيف يعمل نظام التموضع العالمي، فهذا النظام يتكون من ثلاثة قطاعات:

الأول: قطاع الفضاء الخارجي والمكون مما يصل إلى ٢٤ قمرا صناعيا ترسل إشارات تحدد موقع وتوقيت القمر الصناعي الحالي.

ثانياً: قطاع التحكم، وهو عبارة عن راصد عالمي ومحطات تحكّم أرضية هدفها رصد ومتابعة كوكبة الأقمار الصناعية (قطاع الفضاء) وضمان استمرارية دورانها في مداراتها الصحيحة وتحميل المعلومات الملاحية المحدّثة بصفة دورية على الأقمار وضبط الساعات المركبة على الأقمار الصناعية.

ثالثا: قطاع المستخدِم، ويتكون من جهاز مستقبِل لنظام "جي بي إس" (رِسيفر) يلتقط الإشارات من الأقمار الصناعية ويستخدم المعلومات المرسلة في حساب الموقع ثلاثي الأبعاد للمستخدِم، بالاضافة إلى حساب توقيته، ويكون المستقبِل متعدد الصور والأشكال بداية من استخدامه في ساعة اليد أو الهاتف المحمول أو السيارة، وصولا إلى السفن والطائرات والمسيرات والصواريخ الموجهة بالأقمار الصناعية.

الأصل في أنظمة الأقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع أنه لأغراض عسكرية (شترستوك) بناء على التوضيح السابق، كيف يُنفّذ التشويش؟

هناك طريقة معقدة تتحكم فيها أميركا، وطريقة أخرى أسهل في التنفيذ، وأتصور أن الطريقة الثانية الأسهل هي التي استُخدمت لتقليل فعالية الهجوم الإيراني الأخير.

وماذا عن الطريقة المعقدة؟

كما أوضحتُ سابقا، فإن القمر الصناعي يرسل موقعه بالإضافة إلى توقيته الحالى إلى المستقبِل، ويحتاج المستقبِل إلى أربعة أقمار صناعية على الأقل لتحديد الموقع، وتتحكم حكومة الولايات المتحدة الأميركية بهذه المنظومة وتستخدم ما يعرف بـ"الخطأ الانتقائي" لإحداث إرباك لدى مستقبِل "جي بي إس" حتى لا يتمكن من الحصول على الموقع بدقة.

وكيف يحدث ذلك؟

يبث كل قمر صناعي إشارة فريدة تخبر جهاز الاستقبال بالوقت الموجود على القمر الصناعي في الفضاء، ويتمتع كل قمر صناعي أيضا بموقع فريد في الفضاء، ويَعرف مستقبِل نظام تحديد المواقع "جي بي إس" المكان الذي يفترض أن يكون فيه كل قمر صناعي، ويعرف الوقت على الأرض، ويستقبل الإشارة من كل قمر صناعي عن الوقت الذي كان فيه في الفضاء عندما أُرسلت الإشارة.

ويستخدم جهاز الاستقبال كل هذه المعلومات لحساب الوقت الذي استغرقه ما لا يقل عن أربع رسائل عبر الأقمار الصناعية للانتقال إلى الأرض، ثم يستخدم الموقع المعروف لتلك الأقمار الصناعية الأربعة (أو أكثر) لمعرفة خط العرض وخط الطول والارتفاع.

وعند تشغيل الخطأ الانتقائي لا يعرف جهاز استقبال "جي بي إس" الوقت الفعلي عند الأقمار الصناعية، لأن الخطأ الانتقائي يجعل القمر الصناعي يرسل وقتا خاطئا، فيكون الوقت الذي يرسله القمر الصناعي قريبا جدا من الوقت الفعلي، لكنه ليس دقيقا، ومن دون معرفة التوقيت الدقيق للأقمار الصناعية عندما تُنشِئ رسالة زمنية خاصة بها، لا يستطيع جهاز الاستقبال الحصول على الموقع الدقيق، أو بالأحرى يحصل على موقع مختلف بسبب الخطأ الانتقائي.

وهل هناك وقائع سابقة لاستخدام الخطأ الانتقائي؟

استخدمته الولايات المتحدة الأميركية بكثرة بهدف الحفاظ على الأمن القومي الأميركي، وفي مايو/أيار عام 2000 وبناء على توجيهات الرئيس بيل كلينتون، أوقفت حكومة الولايات المتحدة استخدامها للخطأ الانتقائي من أجل جعل نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" أكثر استجابة للمستخدمين المدنيين والتجاريين في جميع أنحاء العالم، لكن ذلك لا يعني أنها تترك المجال للاستخدام الذي قد يضر بمصالح أميركا، فلديها السلاح الأسهل نسبيا وهو "التشويش".

الولايات المتحدة استخدمت "الخطأ الانتقائي" بكثرة بهدف الحفاظ على الأمن القومي الأميركي (غيتي) ولماذا وصفته بـ"الأسهل"؟

التشويش أسلوب غير معقد نسبيا، يتضمن ببساطة إنتاج إشارة تردد لاسلكي قوية بما يكفي لحجب عمليات الإرسال من الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس"، إذ إن إشارات الأقمار الصناعية قادمة من ارتفاع يصل إلى 20200 كلم فوق سطح الأرض، وبالتالي فإن التشويش عليها ليس بالأمر الصعب، وبناء عليه سيكون الشخص المستخدِم لنظام تحديد المواقع العالمي على علم على الفور بوجود خطأ ما، ولن يتمكن النظام من الحصول على نتيجة لتحديد الموقع الجغرافي.

وحدث ذلك مؤخرا قبل سويعات من الهجوم الإيراني على إسرائيل، عندما اكتشفت هيئة الطيران المدني الأردنية وجود خلل في نظام "جي بي إس"، مما أثر سلبيا في حركة الطيران.

واستفادت إسرائيل من هذا التشويش في تفادي ضربات مؤلمة أو على الأقل جعل إيران تخطئ أهدافها العسكرية لتسقط الصواريخ أو المسيرات في أماكن فضاء أو خالية، وبالتالي لا تكون هناك حاجة لاعتراضها من الأساس باستخدام منظومات الدفاع الجوي المكلفة.

ومن هي الدول القادرة على إجراء عملية التشويش؟

تستطيع أي دولة لديها الإمكانيات عمل ذلك، وهنا يمكن ذكر أمثلة حدثت مؤخراً في حرب روسيا وأوكرانيا، فروسيا تتمتع بسجل حافل في التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" في شمال أوروبا، وهي قادرة على نشر مجموعة من القدرات للحرب الإلكترونية، بما في ذلك تعطيل نشاط الطائرات من دون طيار والصواريخ في أوكرانيا.

معنى ذلك أن روسيا تستطيع التشويش على الجيش الأميركي عند تنفيذه أي عملية عسكرية باستخدام "جي بي إس"؟

"جي بي إس" له خدمات عسكرية مقصورة على القوات المسلحة الأميركية، وعدد محدود من الوكالات الفدرالية الأميركية المتخصصة، وبعض القوات والحكومات الحليفة والمنتقاة بدقة فائقة، وهناك كود مشفر دقيق جدا لتحديد المواقع للاستخدام العسكري، ولا يمكن للأجهزة العادية التعامل معه أو فك شفرته واستخدامه، فهو يُستخدم فقط من خلال الجيش الأميركي.

رغم تنوع المنظومات وتعدد الأقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع فإنها جميعا تتأثر بالتشويش، وذلك لأنها تستخدم نطاقات تردد متشابهة (شترستوك) وهل يمكن أن تكون الأنظمة البديلة لـ"جي بي إس" التي طورتها بعض الدول مفيدة في الإفلات من التشويش؟

هذا ما يتصوره البعض، فتعدد أنظمة الملاحة العالمية مثل منظومة "غلوناس" الروسية و"بيدو" الصينية و"جاليليو" الأوروبية، أو حتى المنظومات الإقليمية لتحديد المواقع مثل منظومة الهند "إيرنس" ومنظومة اليابان "كيو زي إس إس".. ليس مفيدا في الإفلات من التشويش.

فرغم تنوع المنظومات وتعدد الأقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع، فإنها جميعا تتأثر بالتشويش، وذلك لأنها تستخدم نطاقات تردد متشابهة أو متداخلة لنقل إشاراتها، وقد يؤثر التشويش الذي يستهدف أحد الأنظمة عن غير قصد في إشارات الأنظمة الأخرى العاملة في نفس نطاق التردد.

بخلاف التشويش على منظومة "جي بي إس"، هل هناك مصادر أخطاء أخرى قد تتسبب بإفشال الصواريخ الموجهة بالأقمار الصناعية أو المسيرات؟

لا يمكن إهمال مسؤولية الخطأ البشري، والذي قد يحدث نتيجة لخطأ في إدخال الإحداثيات الخاصة بالهدف، وبالتالي لا تصيب الهدف المقصود، أو نتيجة لضعف أو خطأ في المعلومات الاستخباراتية.

والحوادث الناجمة عن الخطأ البشري متعددة، وأشهرها على سبيل المثال في 7 مايو/أيار 1999 عندما أخطأ جندي أميركي في برمجة صاروخ موجه، فأصاب مبنى السفارة الصينية في العاصمة اليوغسلافية بلغراد بدلا من الهدف الأصلي الذي كان أحد مباني وزارة الدفاع.

ويرجع الخطأ في هذه الحالة إلى ضعف المعلومات الاستخباراتية، فمبنى السفارة الصينية في بلغراد كان تابعا لوزارة الدفاع اليوغسلافية حتى عام 1995.

وقد وقعت القوات الأميركية في خطأين على الأقل في حربها على أفغانستان، عندما قصفوا عن طريق الخطأ مبنى تابعا لمنظمة الصليب الأحمر في العاصمة الأفغانية كابل، وأسقطوا قنبلة تزن ٩٠٠ كيلوغرام فوق منطقة سكنية بالقرب من مطار كابل، في حين أن هدفها كان مروحية على بعد 1500 متر من موقع سقوط القنبلة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات نظام تحدید المواقع العالمی الولایات المتحدة الهجوم الإیرانی القمر الصناعی على إسرائیل التشویش على الحصول على الوقت الذی جی بی إس ل نظام

إقرأ أيضاً:

إيران تجري مناورات عسكرية جديدة وتحذر من أي هجوم

يستعد الجيش الإيراني لبدء مناورات عسكرية واسعة النطاق تحت اسم "ذو الفقار 1403" يوم السبت، في ظل التوتر مع الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن برنامجها النووي.

المناورات يجريها الجيش في منطقة تمتد من مكران على الساحل الساحل الجنوبي الشرقي لإيران، إلى شمال المحيط الهندي، وتشمل المياه الاستراتيجية حتى خط عرض 10 درجات، وفق ما ذكر موقع إيران إنترناشيونال.

من جانبه حذّر قائد المناورات حبيب الله سياري، من أن أي هجوم على المصالح الإيرانية لن يمر دون رد.

وقال سيار: "أي عدو يعتقد أنه قادر على الإضرار بمصالحنا على الأرض أو في الجو أو في البحر سيتكبد خسائر فادحة".

وأضاف أن المناورات ستظهر أحدث القدرات العسكرية الإيرانية، مع استعراض قوة القوات البرية، والدفاع الجوي، والقوات البحرية الاستراتيجية، وقيادة الدفاع الجوي المشترك.

تأتي تصريحات سياري وسط تقارير تفيد بأن إسرائيل تفكر في شن هجوم على المواقع النووية الإيرانية في النصف الأول من هذا العام.

ووفقا لتقارير نشرتها صحيفتا وول ستريت جورنال وواشنطن بوست، فإن المعلومات الاستخباراتية الأميركية تشير إلى أن إسرائيل ترى أن إيران باتت أكثر ضعفا بعد الغارة الجوية الإسرائيلية في 26 أكتوبر، والتي يُقال إنها ألحقت ضررا بالغًا بالدفاعات الجوية الإيرانية.

كما تشير التقارير إلى أن إسرائيل تعتقد بوجود دعم أميركي متزايد لأي تحرك عسكري، خصوصا في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

مقالات مشابهة

  • إيران تفتح باب التفاوض لبيع طائرات شاهد بعد عرض أمريكي.. ما الذي نعرفه؟
  • مصادر للجزيرة: إسرائيل ستفرج عن 151 أسيرا فلسطينيا
  • خبير: إسرائيل تستهدف انفصال الضفة الغربية عن قطاع غزة
  • إيران تجري مناورات عسكرية جديدة وتحذر من أي هجوم
  • خبير استراتيجي: حماس لديها 7 كتائب مقاومة تجعلها قادرة على إحداث الخسائر في الحرب مع إسرائيل
  • خبير إستراتيجي: إسرائيل قد تضرب إيران عسكريا في هذه الحالة
  • مجلة أمريكية ترسم السيناريوهات حول الحاملة “ترومان”.. فما الذي جرى لها ..! 
  • ريتشارد بويد للجزيرة نت: إسرائيل نظام استعماري عنصري يجب عزله دوليا
  • الأرصاد: صور الأقمار الصناعية تشير إلى تكاثر السحب الممطرة على القاهرة الكبرى
  • مجموعات الأقمار الصناعية تعيق عمل علماء الفلك