مؤتمر باريس السوداني .. رسائل متناقضة
تاريخ النشر: 19th, April 2024 GMT
مؤتمر باريس السوداني .. رسائل متناقضة
عثمان ميرغني
على الرغم من الإشكاليات التي صاحبته وما أثارته هذه الإشكاليات من جدل، فإن مؤتمر باريس الإنساني الدولي للسودان الذي عُقد برعاية فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع، له أهميته فيما يتعلق بتحريك ملف الإغاثة. فعلى الرغم من الوضع الإنساني الصعب ظل هذا الملف متعثراً ولم تحركه النداءات المتكررة التي أطلقتها الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية، مما يعكس حقيقة أن حرب السودان منسية على الصعيد الدولي، وفي ذيل اهتمامات الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا المشغولة بحربي غزة وأوكرانيا وبحسابات انتخاباتها.
من ناحية الإشكاليات فإن أكثر ما أثار الجدل أن الدول المنظِّمة والراعية للمؤتمر لم توجِّه الدعوة إلى الحكومة السودانية، بحجة ضعيفة وهي إظهار الحياد على أساس أنها لم تدعُ أيضاً «قوات الدعم السريع». الحقيقة أن تغييب الحكومة القائمة في حد ذاته يعد موقفاً غير محايد لأنه ساوى بينها وبين «الدعم السريع»، كما أنه أثار سؤالاً جدياً حول كيف تَعقد مؤتمراً يخص دولة ذات سيادة وتغيِّب تمثيلها في المؤتمر، حتى ولو على مستوى سفارتها في باريس؟
الملاحظة الثانية في هذا الشأن عبَّر عنها عدد من المنظمات الإنسانية العاملة في مجال الإغاثة بشكل مباشر في السودان، وهي: كيف يُغيَّب الطرفان اللذان تحتاج إلى مساعدتهما لكي تضمن دخول المساعدات إلى مناطق القتال؟
الملاحظة الثالثة، أن المؤتمر لم يتبنَّ الحياد كاملاً، ولا ابتعد عن التسييس، ولم يقتصر على الجانب الإنساني فقط. فتمثيل تنسيقية القوى المدنية بهذا العدد في السمنار الجانبي الذي عُقد على هامش المؤتمر يعد موقفاً سياسياً وكان رسالة مقصودة من المنظّمين. وربما تجدر الإشارة هنا إلى أنه حدث خلط عند بعض الناس بين المؤتمر الأساسي الوزاري وبمشاركة المنظمات الدولية المعنية لبحث الوضع الإنساني وجمع المساعدات، وبين السمنار الجانبي الذي نظّمته فرنسا وألمانيا والمفوضية الأوروبية في ذات التوقيت ودعت إليه ممثلين عن قوى المجتمع المدني بمن فيهم تنسيقية «تقدم» والكتلة الديمقراطية، وكان بمثابة حوار سوداني – سوداني حول الانتقال الديمقراطي ووقف الحرب.
مع هذه الملاحظات حول مؤتمر باريس يبقى الموقف الدولي من الأزمة السودانية متأرجحاً بين التجاهل، والاهتمام المتقطع، والالتباس أحياناً، والرسائل المتضاربة أحياناً أخرى.المجموعة الأوروبية الراعية للمؤتمر لها حساباتها بالطبع، بدءاً من مصالحها الخاصة وعلاقاتها المتشابكة في أفريقيا، وانتهاءً بهاجس الهجرة الذي يؤرّق أوروبا ويجعلها في قلق مستمر من الأزمات التي قد تدفع إليها بموجات من المهاجرين.
فرنسا أيضاً لديها حساباتها ومصالحها في المنطقة وارتباطاتها مع تشاد التي تبنّت موقفاً داعماً لـ«قوات الدعم السريع»، واتهمتها الحكومة السودانية رسمياً بأنها أصبحت منفذاً لشحنات السلاح. وكان لافتاً أن هناك مَن انتقد وجود ضيوف في باريس من المحسوبين على «الدعم السريع»، إذ قال المحلل الفرنسي أستاذ العلوم السياسية توماس غينولي، في تصريحات نُشرت هذا الأسبوع، إن حضور أشخاص من الميليشيا قد يؤشّر نحو تحوُّل في السياسة الخارجية الفرنسية من حيث التعامل معها.
في هذا الصدد تمكن أيضاً ملاحظة ما كشفت عنه صحيفة «الغارديان» البريطانية مطلع هذا الأسبوع، من محادثات سرّية بين مسؤولين في «الخارجية» البريطانية مع «قوات الدعم السريع»، وهو ما عدّته جماعات ناشطة في مجال حقوق الإنسان «أمراً صادماً» بالنظر إلى سجل الانتهاكات المروعة والاتهامات الموجَّهة إلى هذه القوات.
هذه التحركات تبقى مثيرة للريبة حول أهدافها، وكما ذكرتُ وذكر كثيرون، فإنه كلما طال أمد الحرب ازدادت تشابكاتها وتعقيداتها.
بالعودة إلى الجانب الإنساني في مؤتمر باريس فإن المحكّ الحقيقي في نهاية المطاف هو في التزام التنفيذ. فهذه المؤتمرات الإنسانية تطلَق فيها الوعود التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ، والشواهد كثيرة، آخرها مؤتمر المانحين الذي عُقد في جنيف في يونيو (حزيران) 2023 لبحث الوضع الطارئ في السودان والأزمة الإنسانية وقدمت خلاله تعهدات بقيمة مليار و600 مليون دولار لم ينفَّذ أكثرها.
مؤتمر باريس، كما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حصل على وعود بقيمة تتجاوز بقليل ملياري يورو تخصَّص للمساعدات الإنسانية التي لن تذهب كلها إلى السودان حسبما يشير إليه عنوان الفعالية (المؤتمر الإنساني الدولي للسودان ودول الجوار). وقياساً على تجارب أخرى يبقى من غير المعروف كم سيتحقق من هذا المبلغ؟ وكيف سيوزّع؟ لا سيما أن أعداداً كبيرة من السودانيين (نحو 9 ملايين إنسان) هم من الذين أُجبروا على النزوح الداخلي وتوزعوا بين الولايات وجُلّهم يحتاج إلى العون، فيما لجأ نحو مليونين إلى دول الجوار. أضف إلى ذلك أن المبلغ ذاته يقل عن نصف ما كانت تطلبه الأمم المتحدة لمواجهة الوضع في السودان.
كل المنظمات الإنسانية الدولية تُحذّر من أن الوقت يضيق قبل أن يشهد السودان أزمة غذائية وصحية كبرى إذا لم تُتَّخَذ الإجراءات المناسبة بشكل عاجل. فإضافةً إلى أهمية الإيفاء بالتعهدات المالية، تثير جهات الاختصاص التحديات المتعلقة بإنشاء ممرات إنسانية آمنة، وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، وحل إشكالية تهريب السلاح تحت غطاء المساعدات، بعدما شكا السودان رسمياً من دخول شحنات ضخمة من السلاح عبر الحدود الغربية من تشاد بشكل أساسي ومن أفريقيا الوسطى والنيجر.
باريس ربما كانت منصة للوعود المالية، لكنّ العقبات والتحديات لا يمكن التهوين منها، والجدل الذي رافق المؤتمر يوضح عمق الأزمة وتعقيداتها المتزايدة التي تجعل الحرب تطول بينما النخب غارقة في صراعاتها.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”
الوسومرسائل عثمان ميرغني مؤتمر باريس متناقضةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: رسائل عثمان ميرغني مؤتمر باريس متناقضة
إقرأ أيضاً:
الشعب السوداني… واحتضار صوت النبض الحقيقي
كتب الدكتور عزيز سليمان أستاذ السياسة والسياسات
يعيش السودان اليوم لحظة تاريخية مفصلية، لحظة كشفت عن هشاشة النخب السياسية وتضخم الأنا لدى أرباب السلطة، الذين باتوا يرون أنفسهم حراسًا على عقل الأمة، دون أن يدركوا أن هذا العقل قد تشكل وعيه عبر دهور من الألم، والحرمان والنزوح والحرب والنزيف الدامع. الشعب السوداني، بمأساته الممتدة من دارفور إلى النيل الأزرق ومن الخرطوم إلى المنافي، هو المعلم الحقيقي في مدرسة الصمود والتحدي، بينما الساسة لا زالوا يغزلون من "طق الحنك" أوهامًا على نول السخرية
في كل زاوية من زوايا المشهد السوداني، تتراءى لنا مأساة هؤلاء الساسة الذين جاءت بهم رياح ثورة ديسمبر العظيمة. كانت الثورة فرصة ذهبية لإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يُلهم العالم بروح التغيير. لكن، كما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "الأقوياء دائمًا يفعلون ما يستطيعون، بينما الضعفاء يظل عليهم أن يعانوا." هكذا رأينا قادة السياسة في السودان وقد أدمنوا اللعب على وتر السلطة، متجاهلين صوت الشعب الذي ظل يتردد عاليًا عبر مواكب الثوار وهتافات الميادين.
هؤلاء الساسة، الذين تقاذفتهم موجات الثورة كأوراق خريف لا تعرف لها قرارًا، لم يروا في الديمقراطية سوى وسيلة لتحقيق مآربهم الشخصية. أين ذهب ذلك الحلم الكبير الذي حمله الشباب السوداني في صدورهم وهم يهتفون: "حرية، سلام، وعدالة"؟ بل أين تلك البرامج التي وُعد بها الناس لتحويل السودان إلى نموذج حي لدولة مدنية تقف على ركائز العدالة والمساواة؟ تحول المشهد إلى ما أسماه أفلاطون بـ*"المدينة التي يحكمها الجهال."*
خذوا مثالًا: كيف أن البعض ممن صعدوا إلى السطح بعد الثورة صاروا أسرى لخطاب الشعبوية، بينما ارتدت طموحاتهم إلى مجرد مناوشات على كراسي السلطة، وكأنهم تناسوا دماء الشهداء التي روت ميادين الثورة. إنها خيبة أمل كبيرة أن ترى من كانوا في الصفوف الأمامية يتحولون إلى خصوم للمبادئ التي ثاروا من أجلها.
ومع ذلك، يظل السؤال: كيف يمكن استعادة صوت الشعب السوداني إلى المشهد؟ الإجابة ليست في العودة إلى تلك النخب التي فقدت بوصلة المبادئ، بل في خلق "طريق ثالث" يقوم على الديمقراطية المجتمعية. هذا الطريق يستمد قوته من القاعدة الشعبية، من أولئك الذين عانوا وناضلوا وواجهوا صلف الحكام. طريق يحاكي ما طرحه الفيلسوف الألماني هابرماس حول "الفضاء العام" الذي يصبح فيه المواطنون شركاء حقيقيين في صنع القرار، لا مجرد متفرجين على مسرحية يكتب نصها الطغاة.
يجب أن نتعلم من تجارب العالم، من غاندي في الهند الذي قاد شعبه إلى الحرية عبر قوة المجتمع، ومن نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا الذي جعل من شعبه شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة. الديمقراطية الحقيقية ليست صناديق انتخاب تُملأ بأصوات مغشوشة، بل هي مشاركة الناس في تحديد مصائرهم، وهذا ما افتقدته التجربة السودانية منذ بواكيرها ونعومة اظفارها.
السودان اليوم يحتاج إلى نهضة فكرية وثقافية وسياسية تعيد للشعب حقه في أن يكون الحَكَم الأول والأخير على مصيره. إن تجاهل هذا الوعي الشعبي المكتسب عبر سنوات الألم هو خيانة عظمى، لأن الشعب السوداني اليوم، كما وصف نيتشه الإنسان المتمرد، هو "القادر على قلب الطاولة على آلهة الكذب"
فلنُعِد للسودانيين صوتهم، ولنجعل من السودان نموذجًا لدولة تحتفي بوعي الشعب لا بغطرسة الساسة. فالمستقبل، وكما يقول التاريخ، لا يُصنع في قصور الحكام، بل في أزقة الناس وحناجرهم.
quincysjones@hotmail.com