الكتاب: أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدنيوة،
المؤلف: حمادي ذويب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة


صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدنيوة، من تأليف الباحث حمادي ذويب، وهو كتاب تركّز فصوله الأربعة على مناقشة مفاهيم أصولية إسلامية ثلاثة هي "المصلحة" و"العرف" و"الاستحسان" وآلية أصولية هي "تخصيص العموم" بين الديني والدنيوي، ويناقش قدسية نظرة المسلمين "التقليديين" ـ كما سماهم ـ إلى المفاهيم الأصولية عمومًا على الرغم من كونها اجتهادًا بشريًّا دنيويًّا، مستعرضًا إشكالية العلمنة، أو بمعنى أصح "العلاقة بين الديني والدنيوي" وبداية تغلغلها في مجتمعات المسلمين لكسر التابوه حول قدسية بعض الآراء الأصولية.



يقع الكتاب في 376 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

"عربي21" تنشر تعريفا بالكتاب وأهميته بقلم مؤلفه حمادي ذويب، وزعته الجهة الناشرة: "المركز العربي لدراسة السياسات".

قدسية أم دنيوية؟

يتواصل ضمن الخطاب التشريعي العام النقاش حول خطاب أصول الفقه الإسلامي، وهي أصول لا تزال تفرض هيمنتها على ضمائر أغلب المسلمين، وتُستحضَر في حياتهم، وتُوظَّف في المجالات كافة، أخطرها التوظيف الذي يصل حدّ هدر الدماء، وما ذلك إلا نتيجة مسار تاريخي طويل من إضفاء القداسة على هذه الأصول لدى العامّة والدارسين التقليديين، حتى باتت قداستها في نظرهم كالأمر المنزّل الذي لا تجوز مناقشته أو التشكيك في المقولات والاجتهادات التي أفضت إليها، مع أن ما دُوِّن من قياس وإجماع ومصادر يسميها الأصوليون أنفسهم "تبعيةً" ـ كالاستحسان والمصلحة والعرف وغيرها ـ هي اجتهادية، وأدوات لإنشاء الحكم، بفهم القرآن الكريم والسنة النبوية أو من دونه، وليس لها قداسة القرآن والسنة. لكنّ الدارسين التقليديين لم يفهموا هذا الفارق فذهبوا إلى "أنّ المجتهدين من الأمة معصومون من الخطأ إذا اتفقت كلمتهم على حكم مستفاد من كتاب أو سنّة أو قياس".

يكمن لبّ الخلاف والإشكالية في سؤالين يحددان طبيعة التشريع وأصوله: مقدسة هي أم دنيوية تاريخية؟ الخطاب التشريعي مؤسس على المقدّس أم متأصِّل في التربة البشرية الدنيوية؟

تبرز أهمية كتاب أصول التشريع الإسلامي التكميلية في أنه يُعنى بإبراز مختلف المواقف في المسألة الواحدة لأجل الوفاء للتاريخ في المقام الأول، ولإثبات أنّ الحقيقة متعدّدة ومتنوّعة، وأنه لا يمكن فريقًا من المسلمين أن يحتكر حقيقة واحدة يحاول الإيهام بأنّ خلافها غير موجود، وأن اختلاف المواقف إن وشى بشيء فإنما يشي بحركية فكرية بشرية ودنيوية جعلت النص الديني مجالًا لنشاطها.هذه الإشكالية هي جوهر مسألة طُرحت في الفكر العربي الحديث هي العلمانية والعلمنة، وذلك في المناظرة الشهيرة على صفحات مجلتَي الجامعة والمنار بين فرح أنطون ومحمد عبده عام 1902، التي أسفرت عن تبلور موقفين نظريين أساسيين من إشكالية العلمنة. لا يستخدم المتناظران مصطلح العلمنة نفسه بل يناقشان مضمونه، المتمثّل في حلّ إشكالية "العلاقة بين الديني والدنيوي".

تحققت ذروة الخوض في هذه الإشكالية على المستوى السياسي في إلغاء الخلافة العثمانية وتأسيس دولة تركية علمانية عام 1924، أما على المستوى الفكري فظلّت الدراسات عن العلمنة والدين قليلةً، وكان هذا دافعًا لكاتب أصول التشريع الإسلامي التكميلية لخوض مشروع كان حاضرًا لديه لبحث صلة أصول الفقه بالواقع التاريخي خارج دائرة النصوص القطعية، وبخاصة بعد أن استوقفه ـ كما يذكر في مقدمة الكتاب ـ ما ذكره عزمي بشارة في كتابه الدين والعلمانية في سياق تاريخي من النية على دراسة "الدين والعلمانية في السياقات العربية والإسلامية" في الجزأين الثالث والرابع من كتابه (في "تقديم" المجلد الأول من الجزء الثاني، ص 10)، إضافة إلى ما ذُكر عن نجم الدين الطوفي (في المجلد نفسه، ص 47)، كما كان دافعًا للكاتب لدراسة إشكالية دنيوة التشريع الإسلامي وقداسته اعتمادًا على مدونات أصولية سنية وغير سنية، بعد أن توصل إلى أنّ الخطاب الأصولي محكوم بعوامل تاريخية بشرية ودنيوية حكمت نشأته وتطوره وتفاعله مع مجتمعه تأثرًا وتأثيرًا، وخصص لبحثه دراسة ثلاثة أصول اجتهادية تبعية مختلف فيها ارتفعت لدى العامة ولدى كثير من الباحثين التقليديين إلى مصادر نصية هي: "المصلحة" و"العرف" و"الاستحسان"، ودراسة آلية أصولية واحدة هي "تخصيص العموم".

مفهوم "الدنيوة"

ترجع جذور مفهوم الدنيوة Verweltlichung إلى مرحلة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، الذي ساهم - بحسب بشارة ـ في أمرين: دنيوة الدين المعيش من المؤمن، وتمايز عناصر الدين والدنيا والمقدّس والمدنّس، فيما يعزو مارسيل غوشيه العلمانية إلى البلدان ذات التقليد الكاثوليكي، والدنيوة إلى أوروبا البروتستانتية.


ويبدو أنّ جذور مصطلح "الدنيوة" تعود إلى فريدريش هيغل، الذي لم يستخدم ولا تلامذته ـ وفقًا لبشارة أيضًا ـ مصطلح العلمنة، لتعلّقه بمصادرة أملاك الكنيسة، وبناءً عليه فإنّ الدلالة الأهمّ في مصطلح "الدنيوة" تنهض على صلته بالدنيا، وتكون المكانة المركزية فيه لقضايا الناس لا لقضايا الدين، مثل الخطابَين الفقهي والأصولي. ولئن عدَّ أوليفييه روا "الدنيوة" ظاهرة اجتماعية لا تتطلب استخدامًا سياسيًّا، عندما لا يحتل "الديني" المركز في حياة البشر "المؤمنين"، اعتبر غيره "الدنيوة" إضفاءً للطابع البشري على الفقه وأصوله، ووصْلًا لهما بغايات البشر الدنيوية ورهاناتهم الأيديولوجية، وبهذا تكون "دنيوة التشريع" علمنةً للمقدّس، وانتقالًا للقداسة من الماورائي المتجاوز إلى الدنيوي.

يتناول الفصل الأول "المصلحة بين القداسة والدنيوة" التقديس من حيث هو محاولة الأصوليين وصْلَ التشريع وأصوله بالأصلَين التأسيسيَّين: القرآن والسنة، يليهما الإجماع والقياس، وبناءً عليه تناولَ الفصل مفهوم "المصلحة" في اللغة بين الدنيوي والديني، ثم مفهوم المصلحة المرسلة والانزياح عن المقدس عند الأصوليين، وسعى لاستخراج الركائز التي تنهض عليها دنيوة هذا المفهوم، كركيزة استناده إلى العقل واقتصاره على مجال المعاملات دون العبادات. وذكر الفصل أصوليين تصوروا المصلحة المرسلة منفصلةً عن الأبعاد الدينية ومتأصلةً في التربة البشرية، وختم بتلقي الدراسات الغربية موقف أبي حامد الغزالي من المصلحة بعد الإشارة إلى احتفاء دارسين عرب به ونقد آخرين إياه. ثم سلّط الفصل الضوء على مفهوم المصلحة عند الشاطبي وتأرجح المفهوم لديه بين مفهوم أول دنيوي وبشري يمثل الجانب المعنوي، ومفهوم ثانٍ يرتبط بالبعد الديني. وانتقل الفصل إلى الطوفي ومفهومه المعلمن للمصلحة وتركيزه على انفصال دلالتها الدنيوية عن الدينية على مستوى الحد النظري والمثال العملي التوضيحي، وقصره مفهومها على المعاملات دون العبادات.

ومن الركائز أيضًا اعتماد الأصوليين على حجة إجماع الصحابة لشرعنة المصلحة، ونهوض الاستدلال العقلي على مشروعيتها على حقيقة محدودية النصوص التي تتضمن أحكامًا، ولذلك لُجئ إلى الحجة العقلية بحثًا عن أجوبة. كما عرّج النص على مسألة العلاقة بين النص والمصلحة، متوقفًا عند إشكاليّة التعارض بين هذين الدليلين، وقسّم حلول هذه الإشكاليّة لدى الأصوليّين إلى ثلاثة: تخصيص النص بالمصلحة، وتقديم المصلحة على النصّ، وإلغاء المصلحة.

درس الفصل الثاني "العرف بين القداسة والدنيوة"، المفهوم اللغوي للعرف، وصلة المادة اللغوية (ع ر ف) بلفظ "العرف" تأثّرًا وتأثيرًا، ونشوء لفظ "العرف" منفصلًا عن المجال الديني بدايةً ثم تأثّره بعدها بالجانب الديني، وهو طابع مزدوج للفظ "العرف" ركّز الفصل على تبيين كيفية تلقّيه من مفسّري القرآن والفقهاء والمتكلّمين وعلماء أصول الفقه. وتناول الفصل بداية بروز المفهوم الديني للعرف في القرن الثاني الهجري للتوصل إلى تفسيره في القرآن، ثمّ تطوُّره داخل علم الكلام السنّي، وكذلك مفهومَه البشري، الأخلاقي والعقلي، والجانب الثاني العقلي ركّز عليه الكتاب لكونه تجلِّيًا لدنيوة مفهوم العرف وانفصاله عن الديني، إذ تحوّل أصلًا للتشريع في المذاهب الإسلامية ترسّخت منزلته في الفقه والأصول، ولدى إمامَي المذهبَين الحنفي والمالكي، وأكثر ما برز في رسالة ابن عابدين الحنفي نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، التي دشّنت انطلاقة التنظير المتأني والمتوسّع لاستعمال العرف. وتطرّق الفصل إلى تأصيل العرف بوساطة الإجماع ترسيخَ طابع الإجماع الدنيوي على الرغم من إضفاء القداسة عليه، كما ركّز الفصل كذلك على أنّ اعتماد بعض الأصوليّين على أدلّة عقلية لشرعنة العرف يُعدّ تكريسًا لدنيوته وبشريّته. وأفرد الفصل مبحثًا لدراسة التعارض بين العرف والشرع، متناولًا بالبحث نوعين منه لدى جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.

ترجع جذور مفهوم الدنيوة Verweltlichung إلى مرحلة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، الذي ساهم - بحسب بشارة ـ في أمرين: دنيوة الدين المعيش من المؤمن، وتمايز عناصر الدين والدنيا والمقدّس والمدنّس، فيما يعزو مارسيل غوشيه العلمانية إلى البلدان ذات التقليد الكاثوليكي، والدنيوة إلى أوروبا البروتستانتية.الفصل الثالث "الاستحسان بين الدنيوة والقداسة" عرَّف الاستحسان لغويًّا في المعاجم العربية القديمة ومصادر أصول الفقه، كما ركّز على مساهمة المفهوم العقلي للاستحسان ومواقف الأصوليّين منه. وتناول تعريفًا للاستحسان يفيد بأنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يقدر على إظهاره. وفي ما خصَّ حجيّة الاستحسان، فقد توسّع الفصل في إثبات مشروعية الاستحسان في المذاهب السنية وغير السنية، واعتمد في هذا السياق منهجًا تاريخيًّا أثبت أن القرن الخامس الهجري كان الأغنى بشهاداتٍ تكرّس مشروعية الاستحسان في المذهب الحنفي، ثم عرّج على إثبات الاستحسان أصلًا لدى المالكية، ابتداءً بمالك بن أنس، وكذلك في المذهب الحنبلي، الذي أثبت إمامه الأول شرعية الاستحسان، وأيّده علماؤه. أما ما عُرف عن الإمام الشافعي وعلماء مذهبة من رفض للاستحسان مصدرًا للتشريع، فإنّ بعضهم راجع موقفه منذ القرن الخامس الهجري، وقد أشار الفصل إلى هذا التغير. أما في المذاهب غير السنية، فقد توقّف الفصل لإثبات الاستحسان فيها، لا سيما المعتزلة والزيدية والإباضية.

وجرت الإشارة بعد ذلك إلى الصلة بين الاستحسان والمصلحة في ضوء تعريفات للاستحسان تؤكّد الانزياح من دليل "القياس" الشرعي إلى دليل "المصلحة" الدنيوي. ويقارب الفصل مسألة تعارض الشرع والعقل من خلال أنموذجَي القياس والاستحسان، وما ورد في المدوّنة الأصولية من أنّ الاستحسان دليل عقلي يعارض دليلًا شرعيًّا هو القياس. وقدَّم الفصل شاهدًا عمليًّا على الانزياح عن القياس إلى الاستحسان، بتطبيق الاستحسان في الحدود الشرعية وتحليل نماذج من الحدود وقع فيها الانزياح من الديني إلى الدنيوي.

الفصل الرابع "تخصيص العموم والانزياح عن الشرع" يختبر مدى صحة فكرة "اللجوء إلى تخصيص عموم النص الديني عن طريق مخصّصات من خارجه"؛ فخبر الآحاد والإجماع والعقل والمصلحة والعرف مثلًا هي من تجلّيات دنيوة النصّ، والنصّ الديني حين تتغيّر دلالته من خلال آلية التخصيص ويغيّر حكمه، يغدو تفسيره خاضعًا لمقتضيات بشرية اجتماعية فرضتها عليه سياقات تاريخية، فيزيح الفاعلون الاجتماعيون بذلك قداسته لكي يكون متّسقًا مع رغباتهم.

وانطلاقًا من مفهوم تخصيص العموم، وهو خروج عن الدلالة الأصلية للنصّ يبلغ درجة اعتباره عند بعض المعتزلة نافيًا للأحكام الشرعية، سعى السنيون لتلطيف دلالة هذا الخروج وتعويضها بدلالة البيان، ومن أهمّ مسائل التخصيص "تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد" ذات الدلالة الظنية، وعليه فهي تمثّل انزياحًا عن المقدّس بوساطة البشري، ومن ثمّ شكلًا من أشكال العلمنة.

إذًا، تخصيص العموم بأخبار الآحاد هو أحد تجليات الانزياح عن المقدّس ويجري بوساطة البشري المتّسم بالظنّ والنسبية، لهذا فإن دور الإجماع في تسويغ تخصيص العموم بأخبار الآحاد هو لإقرار أنّ شرعنة الانزياح عن عموم النص القرآني اعتمادًا على حجيّة هذا الإجماع ينبغي تنسيبها في ضوء اختلاف الصحابة والأصوليّين في نشأتها. وقد تبيّن أنّ انزياح الفكر الأصولي عن النص الديني من خلال تخصيصه بأخبار الآحاد حتّمته محدودية الأحكام في النص والخضوع للمصالح الدنيوية التي تقتضي النأي عن النص ليتناسب وإياها.

أهمية الكتاب

تبرز أهمية كتاب أصول التشريع الإسلامي التكميلية في أنه يُعنى بإبراز مختلف المواقف في المسألة الواحدة لأجل الوفاء للتاريخ في المقام الأول، ولإثبات أنّ الحقيقة متعدّدة ومتنوّعة، وأنه لا يمكن فريقًا من المسلمين أن يحتكر حقيقة واحدة يحاول الإيهام بأنّ خلافها غير موجود، وأن اختلاف المواقف إن وشى بشيء فإنما يشي بحركية فكرية بشرية ودنيوية جعلت النص الديني مجالًا لنشاطها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب نشر قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النص الدینی عموم ا

إقرأ أيضاً:

الأمير عبد القادر في الشام.. من منفى قسري إلى صرح لوحدة الأمة.. كتاب جديد

الكتاب: الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام
الكاتب:كمال بوشامة
الناشر:اتحاد الكتاب العرب، الطبعة الأولى 2024، (240 صفحة من القطع الكبير).


حين يستحضر المغاربة كلمة سورية على ألسنتهم، يستحضرون في الوقت عينه ذلك المغزى العام للتاريخ في العصر الأموي، وهو تكوين الدولة الامبراطورية، التي استلم التجار المكيون أنفسهم قيادة هذه الدولة، بسبب نضج الظروف والشروط لولادة هذه الدولة المركزية، وتبلور دولة "الملك السياسي" بوجه خاص، التي أعاد معاوية تأسيسها تأسيساً جديداً بعد حروب الردة أولاً، ثم حروب الفتوحات الكبرى ثانياً، وتبلور ظاهرة التنوع والتعدد في المجتمع للعربي الاسلامي مع مارافقتها من بدء الخلافات الفقهية، وبدأ" التأويل " ثالثاً.

ومن دمشق  انطلق ذات يوم عبد الرحمان بن معاوية أو عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) قاصدا بلاد المغرب ليعبر من هناك إلى الأندلس ويقيم الدولة الدولة الأموية في هذه الرقعة من القارة الأوروبية التي دامت سبعة قرون.

وحين يستحضر المغاربة كلمة سورية في العصر الحديث، فإنَّهم يقرون أنها كانت مهد العروبة السياسية والحضارية ولا تزال . وهي القطر الذي ولدت فيه العقيدة القومية العربية، وتبلورت فيه حركة الوحدة العربية، إذ سيطرت الأيديولوجية القومية العربية على المنطلقات النظرية، والنهج السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي، باعتبار أن القضية القومية هي القضية المركزية في صراع الأمة العربية من أجل التحرر والاستقلال والتقدم.

وكانت القضية القومية تفرض نفسها على المجتمع السياسي و المجتمع المدني في آن معا، بصور أهمها وأكثرها قوة القضية الفلسطينية، حيث أضاف  الصراع العربي الصهوني عاملاً جديداً  في تعزيز سلطة الجيش، الذي تحول منذ فجر الاستقلال إلى مؤسسة وطنية، وكانت أهدافه السياسية على وجه العموم أهدافاً قومية، مما جعله في نظر شعبه، قوة صدام أساسية مع العدو الصهيوني.

وعلى الرغم من اشتداد هجوم الولايات المتحدة الأمريكية على سورية لا سيما طوال عام 1957 للإطاحة بالحكومة الوطنية واستبدالها بحكم موال للغرب تماماً، واستخدام الإمبريالية الأمريكية بعبع الخطر الشيوعي لتخويف جيران سورية، تركيا، والأردن، والمملكة السعودية، ولبنان من "السيطرة الشيوعية السوفيتية المتزايدة على سورية والحشد الكبير للأسلحة السوفيتية فيها"، فإنَّ سورية استمرت في تقديم الدعم بمختلف أشكاله للحركات  الوطنية المغاربية التي كانت تقارع الاستعمار الفرنسي  لنيل الاستقلال السياسي، لا سيما الثورة الجزائرية، حيث أنَّ هناك ثلاثة من القيادين الأساسيين في الدولة السورية في مرحلة الستينيات من القرن الماضي(1966 ـ 1970)، كانوا أعضاء في حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، و أسهموا في خوض المعارك مع ثوار الجزائرفي جبال الأوراس، وهم: الرئيس الراحل نورالدين الأساسي، ورئيس الحكومة الراحل يوسف زعين، ووزير الخارجية الراحل إبراهيم ماخوص.

فالعلاقات بين الشعب السوري والشعب الجزائري علاقات قديمة، إذ لاقى الإخوة الجزائريون التضامن والتآزر من إخوانهم السوريين، كيف لا وقد اختار الأمير عبد القادرالجزائري دمشق الفيحاء موئلا وملاذا له منذ عام 1952. كيف لا وقد اختار مثله آلاف الجزائريين والتونسيين والمغربيين  سورية ملجأ لهم من ظلم الاستعمار الفرنسي الغاشم،  شيدوا باندماجهم في المجتمع السوري جسرًا إنسانيًا بين البلدان المغاربية و سوريا، وأعطوا خصوصية نوعية فريدة للوشائج بين الشعوب العربية.

ولا يزال الشعب الجزائري يذكر ولن ينسى جميل المواقف القومية التي وقفها الشعب السوري مواقف الشهامة والأريحية إلى جانب الثورة الجزائرية التحررية التي انبنى عليها وترسخ ماهو قائم إلى حد الآن من تضامن وتآخي وتآزر بين الشعبين في السراء والضراء. لقد التحمت الثورة الجزائرية التحاما وتكاملت مع النضال القومي العربي السوري، وامتزجت دماء الشعبين إبان الثورة الجزائرية والحروب العربية ـ الصهيونية .

لقد كانت أيدي الجنود المغاربيين (مغاربة وجزائريين) خلال حرب تشرين متشابكة مع أيدي الجنود السوريين في الجولان السوري المحتل خلال حرب أكتوبر 1973، وسالت الدماء الطاهرة الزكية من الجانبين لتؤكد وحدة الأمة العربية من اقصى شرقها إلى أقصى غربها، وأن هذه الوحدة عمدت بالدم. فهل بعد هذه الصورة المشرقة من إثبات أكبر لعمق العلاقات السورية ـ المغاربية، وعمق الانتماء لوطن واحد والعمل من أجل هدف واحد؟

الأمير عبد القادر الجزائري مؤسس أول مقاومة عربية ضد الاستعمار

في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي: "الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام"، لمؤلفه الكاتب والسفير الجزائري الحالي بدمشق، والصادرعن اتحاد الكتاب العرب في سوريا في عام 2024، يتناول فيه الكاتب الحضور الفعال والملموس للجزائريين في سوريا منذ أواسط القرن التاسع عشر، طَبَعَته روح ملتزمة مثلت بجدارة نضالهم منذ المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي.

اتبع الفرنسيون سياسة الأرض المحروقة في مواجهة مقاومة قوات الأمير عبد القادر، فعمدوا إلى كل الأساليب الوحشية في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، كما أحرقوا المدن والقرى المساندة له كليا، وهي السياسة التي أدت إلى سقوط مدنه ومراكزه العسكرية.فعقب احتلال الجزائر من قبل الاستعمار الفرنسي في عام 1830، تمكن الأمير عبد القادر الجزائري من إنشاء مقاومة شعبية مسلحة، وتكوين جيش نظامي سرعان ما تكيف مع الظروف السائدة واستطاع أن يحرز انتصارات عسكرية عدة، أهمها معركة المقطع التي أطاحت بالجنرال تريزيل والحاكم العام ديرليون من منصبيهما، ومعركة مستغانم في 27 يوليو/ تموز 1833 ضد قوات الجنرال ديميشال. وخاض الأمير معارك أخرى مع المستعمرالفرنسي ، منها معركة التافنة يوم 25 يناير/كانون الثاني 1836، ودارت في مدينة تلمسان ضد قوات الجنرال كلوزيل، ومعركة السكّاك في تلمسان ضد قوات الجنرال بيجو يوم 6 يوليو / تموز 1836.

وخاض عبد القادر الجزائري معركتين ضد قوات الجنرال فالي، الأولى معركة غابة كرازة بمنطقة عفرون في 27 أبريل/نيسان 1840، والأخرى معركة موزاية بمدينة البليدة في 12 مايو/أيار 1840.

اتبع الفرنسيون سياسة الأرض المحروقة في مواجهة مقاومة قوات الأمير عبد القادر، فعمدوا إلى كل الأساليب الوحشية في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، كما أحرقوا المدن والقرى المساندة له كليا، وهي السياسة التي أدت إلى سقوط مدنه ومراكزه العسكرية.

وخاض بسبب ذلك معارك عدة، منها معركة الزمالة يوم 16 مايو/أيار 1843 في منطقة جبال عمور، والتي باغت فيها قوات الجنرال دومال، ثم معركة جبل كركور في 23 سبتمبر/أيلول 1845 ضد قوات مونتنياك، تلتها مباشرة معركة وادي مرسي في 26 سبتمبر/أيلول 1845 ضد قوات الجنرال جيرو.

أما سياسيا فقد شكل الأمير حكومة ومجلس شورى، وهو ما اعتبره مؤرخون أولى خطوات وضع أسس الدولة الجزائرية الحديثة، وقد أجبر الفرنسيين على توقيع معاهدتي سلام تضمنتا اعترافا بسلطته على المنطقة الغربية للجزائر، وهما اتفاقيتا ديميشال في 26 فبراير/شباط 1834 والتافنة في 30 مايو/أيار 1837.

مثلت المعاهدتان نقطة انطلاق للأمير عبد القادر لبناء مشروعه الإصلاحي والمجتمعي، واعتمد في ذلك سياسات طويلة المدى لبناء مجتمع قوي قادر على مقاومة الاحتلال الفرنسي لسنوات عدة، فسعى إلى توحيد غرب الجزائر، وأولى التعليم أهمية خاصة، إذ أخذ في بناء المدارس والكتاتيب لمحو الأمية ونشر العلم، وجمع المخطوطات والكتب وتأمين حفظها في المساجد ومقرات الطرق الصوفية.

كما حارب الفساد الأخلاقي، فمنع الخمر والميسر والتدخين منعا باتا، واستطاع بناء جيش منظم، وأسس ورشات لصناعة الأسلحة، وبنى الحصون والقلاع.

دأب المستعمر الفرنسي على خرق معاهداته في أكثر من مناسبة، مما كان يدفع الأمير عبد القادر إلى استئناف الكفاح والمقاومة ضده، كما عمل الفرنسيون في الفترة الممتدة من 1844 إلى 1847 على وقف الدعم الذي كان يتلقاه من المغرب عن طريق تهديد السلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بغزو بلاده، إذ اعتبروا قبوله دخول الأمير المملكة إعلان حرب على الإمبراطورية الفرنسية.

قصف الفرنسيون ميناءي الصويرة وطنجة صيف عام 1844، مما ساهم في إضعاف قواته، ولما بدأ عتاده وذخيرته ومؤونته في النفاد حد من حركته، ولم يبق أمامه خيار سوى وقف القتال حقنا لدماء من تبقى من المقاومين ومناصريه من الأهالي.

وفي 23 ديسمبر/كانون الأول 1847 لم يجد بدا من الاستسلام للقوات الفرنسية التي استغلت الهدنة لمحاصرته في منطقة "سيدي إبراهيم"، وحشدت جيشا كبيرا ضده عجز عن مقاومته، فوقّع الأمير عبد القادر "معاهدة الاستسلام" التي أوقفت القتال، وسميت هذه المعاهدة "لاموريسيير" نسبة إلى قائد الجيوش الفرنسية الجنرال لويس لاموريسيير الذي وقع على المعاهدة من الجانب الفرنسي.

وذهب بعض المؤرخين إلى روايات ثلاث بشأن أسباب استسلام الأمير عبد القادر للقوات الفرنسية، وعدم مواصلته الحرب على أعدائه، على الرغم من أن هذه الكلمة(استسلام) من معان مشينة تشوّه تاريخ هذا المجاهد هذا البطل العظيم... فالأمير عبد القادر لم يستسلم كما جاء في التاريخ المزيف. فالأمير عبد القادر أوقف الحرب، وهذا من حق كل القادة الذين يحسنون تسيير معاركهم.. الأمير أوقف الحرب خوفاً من إبادة شعبه لأن فرنسا كانت مصممة على قتل كل الجزائريين كما فعلت أمريكا بالهنود الحمر.وأضف إلى ذلك فقد قامت فرنسا. وهذا أول مرة في التاريخ. بحرق قبائل بأكملها في مغارات عديدة... وهذا دليل قاطع على تلك النية الخبيثة التي كانت تقود الجيوش الاستعمارية.

فلكل هذا وفي 23 ديسمبر 1847 وبعد خمسة عشر عاماً من الكفاح المرير الذي تسبب بخسائر فادحة للعدو، اتخذ الأمير عبد القادر أخيراً قرار إيقاف الحرب، ليس لأنه خسرها بسبب القوة التي كان يملكها العدو من رجال وأسلحة ولكن وزيادة على الخيانات التي كانت تحيط به، كان يفكر في مصير الشعب الجزائري الذي كان:

1 ـ مضطهداً اضطهاداً من قوات الاحتلال.
2 ـ معرضاً للمجاعة.
3 ـ مضطراً إلى النفي والتهجير.
4 ـ  منساقاً إلى إبادة جماعية وانقراض شرس.

وأضيف إلى هذه الأسباب معاهدة طنجة بين المغرب وفرنسا التي تم إبرامها سنة 1844 وبموجبها اعترف المغرب بشرعية الإحتلال الفرنسي للجزائر، ووافق على إنهاء أي دعم رسمي للأمير عبد القادر، الذي اعتُبر خارجًا عن القانون في كل من المغرب والجزائر المستعمرة الفرنسية الجديدة. كما أقرت المعاهدة الحدود المغربية الجزائرية وفقًا لـ معاهدة لالة مغنية.

لقد اخترت الأمير عبد القادر بن محي الدين الحسني الجزائري في مسيرته الكبرى عبر السنين وتليها مسيرة أتباعه من أبناء عائلته ومن أبناء الجالية الجزائرية، اخترته لأنه يعد بحق ـ كما كتب بحق الوزير هلال الأطرش ـ"مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الذي قدم نموذجاً فريداً لزعيم مناضل قاد نضال شعبه وأمته للتحرر من نير الاستعمار، ولرجل الدولة الذي بنى مدينته المتنقلة التي احتوت بمؤسساتها وأجهزتها كل ما يمكن أن تضمه الدولةأمام الضغط الفرنسي على المغرب وقصف الصويرة وطنجة دفعا إلى تراجع المغرب عن دعمه ومحاصرة الجيوش الفرنسية له. والحال هذه اعتبر الأمير عبد القادر معاهدة 23 ديسمبر/كانون الثاني 1847 "اتفاقية حرب" لا "اتفاقية استسلام". وكان من شروط المعاهدة التي اشترطها الأمير تمكينه وأسرته من المغادرة إلى مكة والإسكندرية، وتخيير قادته وجنوده بين البقاء في الجزائر أو مرافقته إلى المنفى، لكن الفرنسيين تراجعوا بعد إمضاء المعاهدة واقتادوه بحرا إلى مدينة طولون الفرنسية حيث أودع السجن، ثم نقل إلى سجن مدينة "بو" في الجنوب الفرنسي ثم إلى آمبواز بإقليم اللوار. ومع تولي نابليون الثالث إمبراطورية فرنسا سنة 1852 قرر إطلاق سراح الأمير بعد أن قضى قرابة 5 سنوات في السجون الفرنسية.

وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1852 سافر الأمير إلى تركيا، ثم انتقل إلى سوريا سنة 1855، حيث استقر في مدينة دمشق، ودرَّس في مدرستي الأشرفية والحقيقية، ثم في المسجد الأموي. فما عاش الجزائريون في ذاك الجزء من الشرق الأوسط كمهاجرين أجانب"، بينما كانت بلادهم لا تزال تحت نير الاستعمار مضطهدة ومستعبدة من فرنسا، لقد عاشوا مُواطِنِيَتهم بالكامل وما تظاهروا بعدم القلق، وما صمتوا وقت ما كان منزلهم ليحترق" على القول المأثور المنسوب إلى جحا الأسطورة. وهكذا نفهم أنّه من الضروري استعادة بعض الحقائق عندما نتكلم بصراحة عن الفترة العثمانية، والحضور الملموس للأمير عبد القادر في صحوة العالم العربي وتحرره من الخضوع التركي. فبمجرد الإشارة إلى أن أجدادنا، سواء كان هذا الأخير يعني الأمير أم أقربائه من العائلة، أو العديد من المهاجرين الذين سبقوه في بلاد الشام، نفهم أنه لم تكن لديهم أوهاماً مع الدولة العثمانية في مواقفها من استعمار الجزائر ونضال شعبها ضد العدو الفرنسي.

يقول الكاتب كمال بوشامة: "لقد اخترت الأمير عبد القادر بن محي الدين الحسني الجزائري في مسيرته الكبرى عبر السنين وتليها مسيرة أتباعه من أبناء عائلته ومن أبناء الجالية الجزائرية، اخترته لأنه يعد بحق ـ كما كتب بحق الوزير هلال الأطرش ـ"مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الذي قدم نموذجاً فريداً لزعيم مناضل قاد نضال شعبه وأمته للتحرر من نير الاستعمار، ولرجل الدولة الذي بنى مدينته المتنقلة التي احتوت بمؤسساتها وأجهزتها كل ما يمكن أن تضمه الدولة، وهو رجل الدبلوماسية الذي أدى دوراً مهماً- لا ريب فيه لضمان مصالح أمته وشعبه في سياق موازين القوى الدقيقة لإمبراطوريات ذاك الزمان ودوله، وأخيراً الرجل التقي المتعبد الذي ضرب عميقاً في جذور الدين للوصول إلى ينبوع المحبة والتسامح.

وأما دمشق التي كانت تشكل بحق حاضرة تحتضن في نسيجها المتناغم العديد من الأديان والثقافات والأصول، فقد أمست وطناً ثانياً للأمير الجزائري عندما حل بها مهاجراً في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن حياة رجل مثل الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق، لم تكن لتمضي دون أن تترك علامات وأثاراً مضيئة ومشرفة في تاريخ هذه المدينة، فسرعان ما انبرى الأمير مؤدياً دوراً مهماً في حياة الدمشقيين على المستويات كافة؛ إذ شغل مكاناً مرموقاً بين أعيانهم، وأصبح قصره في ضواحي دمشق قبلة لأولئك الذين يلتمسون النصح في أمورهم ومشكلاتهم اليومية، ويرومون التنوير في سعيهم الروحي"(ص 19).

مقالات مشابهة

  • أمنية حضرموت تدعو الى توحيد الصف وتغليب المصلحة العامة
  • خالد الجندي: القصص النبوي وحيٌ من عند الله وباب عظيم من أبواب التشريع والتربية
  • السبب وراء تصدُّر شيوخ السوشيال ميديا المشهد الديني.. الدكتور علي جمعة يُوضح
  • التفكيكية والبعد الصوفي في النص الروائي لروايات الطيب صالح (2)
  • بمناسبة استئناف الدراسة
  • أردوغان يشن هجوما لاذعا على المعارضة التركية.. كتبوا كتاب الفساد والانقلابات
  • البعثة الأممية تحث جميع الأطراف على تغليب المصلحة الوطنية من أجل استقرار الاقتصاد
  • كتاب: الحب والطب والمعجزات
  • الأمير عبد القادر في الشام.. من منفى قسري إلى صرح لوحدة الأمة.. كتاب جديد
  • قصور الثقافة تصدر العدد الجديد من مجلة مصر المحروسة حول الذكاء الاصطناعي