رواية (زمن الأرجوان)..والبحث عن القيم العليا
تاريخ النشر: 19th, April 2024 GMT
أبريل 19, 2024آخر تحديث: أبريل 19, 2024
رنا صباح خليل
في بلدنا العراق منذ زمن ليس بالقليل لم يكن من الصعب تحسس الهوة السحيقة ما بين الواقع والصبوات، ولا يمكن للوجدان الفردي أن يتفتح إلا من خلال وعي المأساة الجماعية، ذلك الوعي الجمعي هو ما كرست مضامينه رواية (زمن الأرجوان) للروائي أمجد توفيق. وبما أن الرواية هي أطوع الأنواع الأدبية للسرد بضمير الأنا، حتى وإن كانت تُروى بضمير الغائب؛ ذلك إن القانون المتحكم بها هو قانون الأنويّة، فإننا بالنتيجة ندرك أن شخصيات الرواية لا يمكن أن تدب فيها الروح ولا تكتسي حبرًا كلاميًا مقنعًا ولا تغدو مماثلةً للشخصيات الواقعية إلا إذا تفردت، وصارت كل واحدة منها أنا أو ذاتا.
بقعة ضوء على فكرة الرواية
تتلخص الفكرة العامة للرواية في إعطاء صورة عن جانب غير معلن تضافر لوأد ثورة تشرين التي قام بها الشباب العراقي في ساحة التحرير على مدى شهور من النضال والمقاومة طلباً لحقوقهم المسلوبة التي اختصروها بجملة (نريد وطن) وقد تبنّى الحراك الفعلي في تنشئة الأحداث وتغذية الروي بالوقائع أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية وهو الصحفي والكاتب المعروف باسم آدم. بعد ان رفض كتابة مذكرات أحد الرؤوس السياسية الملوثة بإجهاض ثورة تشرين والملطخة بدماء الابرياء، فيتصاعد الصراع ويتبلور الحدث إلى ذروته؛ ليصلَ بنا إلى نتيجة حتمية محتكمة إلى زوال الطواغيت والساسة الفاسدين ولو على المستوى الفردي.
البعد النفسي وثنائية القلق والهدوء
إن الشخصيات التي تضمنتها الرواية (آدم، ميادة، سيف، حيدر) أسس لهم الروائي أبعاداً نفسيةً واجتماعيةً واضحة، تكاد تكون نتاج ثقافة مجتمع وبيئة سائدة، تتطلب وعيًا وتعبئةً فكريةً تغوصُ في عمقِ الجذور لدواخلِ كل شخصيةٍ بما يتفاعلُ وحجم المعاناة التي عاشها كلُ فردٍ في هذا البلد، كما أن أفعالها ارتبطت بموروثها القيمي المؤثَّر عليه بتلك السلوكيات القلقة التي كانت تستحوذ على الفعل السياسي المتحكم بهم والراسم لطريقه (مسعود الارجوان) بميلشياه وأعوانه، فكانت نتيجته واضحة من قبل آدم في مناهضته لها بغض النظر عمّا هو صحيح أو خاطئ في مجابهة أخطاره. ذلك أن الرد المجابه للأرجوان بوصفه عنصرًا مسببا لوأد الثورة، وعدم قبول آدم عرض كتابة المذكرات له كان واضحًا منه أنَّه يمتلك حسًا وطنيًّا ناقما على تزييف الحقائق وإلباسها ثوب الطهر بعد أن تسربلت بأثواب الرذيلة والمنافع الشخصية. وقد قدم الروائي موقفه من دون المبالغة في وصف الأحاسيس والآلام وتداعياتها بل قدمها بما يعطي الأثر المباشر للقارئ بضرورة أن يقول كلمته، بوصفه مثقفًا يمثل شريحة مجتمعية عليا، لا أن يظل صامتًا.
شكلت الأحداث بتعددها وتنوعها مع تعدد الشخصيات، ثنائية (القلق- الهدوء) وكانت تسير بصورة متوازية مع سير الأحداث، أن دفة القلق والاضطهاد وسلب الحقوق وإراقة الدماء وتكميم أفواه الأبرياء كان يمثلها مسعود الأرجوان بوصفه السياسي الذي قام بقتل الشاب سيف ذلك الثائر الذي لم يتقبل أن يبيع قضيته وقضية أقرانه له، والذي كشف جريمته الصحفي آدم عن طريق قرص سي دي وجده صدفةً بين أقراص تسلمها من الارجوان بغية الكتابة عن سيرته عندما أقنع نفسه عنوةً بالكتابة في بادئ الأمر، إذ وعده الارجوان بما يغير حياته ماديًا للأفضل ومن ثم انقلاب قناعته تلك إلى المجابهة والتحدي ورفض عروض الارجوان واتفاقاته معه، وهنا علينا إلفات الأذهان إلى ما قام به الروائي من تأسيس دقيق تناول فيه أصل الأرجوان ونشأته ومن هم أجداده وما هي بداياته التي تثبت دواخله الهجينة نحو اللصوصية وسلب الآخر، وتلك الأصول في حقيقة الأمر هي ما دعته ليقوم بتلميع صورتها في محاولة لأقناع الناس وإقناع عقله الباطن بجدارته لأن يكون سياسيًا وفي يديه زمام بلدٍ بأكمله عن طريق كتابة المذكرات حتى وإن كانت بالكذب والخداع، ولترسيخ ذلك قدم الروائي صورة لزاوج أب عراقي من أم فلسطينية وخلق مصاهرة نتجت عنها هذه الشخصية، وهو هنا لم يأت بأماكن افتراضية بل بتسميات عربية لبلدين عربيين أي كان تأسيسه لمكانين واقعيين لهما المكانة المتميزة في الفكر الجمعي العربي وكان نتاجهما الارجوان ويبدو لي أن خياره ذلك كان يرمز في طياته لحالة ليست بالغريبة على أذهاننا عندما يكون الأب فاشلا وعاقًا لوالده فيهرب إلى بلدٍ آخر حاملا معه سلبياته واخفاقاته خاصة أن هذا البلد الآخر لم يكن وضعه يوما ما بحال افضل من بلده الأصيل فيتزوج بامرأة منه، وهذا لا يعني أن أي ارتباط من هذا النوع تكون نتائجه على هذه الشاكلة، وإنما أراد بث رسالة مفادها أن التنشئة الطيبة والبيئة الصحيحة تنتج ثمارًا طيبةً. والتنشئة الخاطئة والبيئة السيئة لا تطرح سوى السيء إنْ لم تمتلك إرادة حقيقية وأصيلة في توجهها، والتساؤل الذي يتجلى للوهلة الأولى هو لماذا هذا التأسيس لهكذا جذور وبهذه الصورة؟ والإجابة تقول: أن تؤسس هوية شخصية يعني أنك خالق، وفي عملية الخلق لابد أن تكون مبدعًا لا أن تكون تقليديًا، فالروائي استثمر قضية المصاهرة لرسم معالم معينة تخدم النص، ولم يذهب بعيدا بعمق التاريخ لبلدي الاب والام ولم يطرح حوادثهما الحقيقية بل اعتمد تاريخًا لعائلة كان قريباً وحديثاً يكاد لا يتجاوز عقود من الزمن ربما لم تبلغ القرن بعد. أن الهيمنة المؤدلجة داخل المتن السردي ببنائها الواقعي ساعدت على فهم القارئ لما كان يشكل عامل شد وجذب لإخماد الثورة بروحها وبسريرتها ونزوعها الوجداني الذي لا يمثله سوى جمع من الشباب لا يتجاوز عقده الثاني كله كان يترنم بحب الوطن.
أما دفة الهدوء التي تستكمن ثنائية (القلق ـ الهدوء) كما قلنا فقد مثلته الشخصيات التي حاولت الحفاظ على نفسها من القلق والتشتت المحيط بها بالاستمتاع بحياتها حينا، وتمثل وجودها الطبيعي وذلك تبرزه طبيعة علاقة الحب بين آدم وميادة وخط سيرها الرومانسي حينا، وخطها الشائك حينا آخر، بسبب ما يتعرضان له من خطف وتلاعب بالأقدار من قبل الأرجوان وصولا إلى الخطبة والزواج، وقصة الحب تلك قام بناؤها الروائي على حدث تمثل برفض آدم إجراء لقاء متلفز مع الاعلامية ميادة التي تعمل في قناة تابعة للارجوان، الأمر الذي يتسبب بطردها من القناة غير أن ذلك الحدث تطور تصاعدياً بحيث كنا نرنو إليه، وهو ينمو لحظة بعد لحظة، وساعة بعد ساعة أمام أعيننا. لتكون الشخصيتان تتحدثان وتتحابان بينما الأمكنة والأزمنة، تتقاطع، وتتوازى، وتتواقف ما بين مكان حميمي وأجواء مشتهاة لكليهما في كفة، ونزوع اجباري لأماكن أخرى يتخللها التنكيل والقسوة والموت في كفة أخرى. وفي ذلك يتضح لنا أن الروائي يخلق شخصياته نتيجة ملاحظاته الدقيقة لنفسيات وأنماط سلوك الشخصيات الحية التي يراها، ويتعامل معها في حياته العادية، وهو قادر على أن يخلق شخصيات ذات ملامح فنية، خاصة تجعل الشخصية خالدة في ساحة الأدب العظيم؛ لأن شخصيات روايته يستطيع المتلقي معها أن يجاوز صفحات الروي، ويمكن له أن يتحدث عنها، كأنما هي كائنات بشرية عاشت معه، أن رحلة آدم الهادفة إلى النقاء (الانطلاق من الخيانة) التي كاد يوقع نفسه بها فيما اذا كتب المذكرات للأرجوان هي رمز لدرس كبير يقدمه لنا الروائي كتوضيح أو كشف لمكنونات الشخصية أو كمصارحة للذات التي كانت تعمل عملاً دقيقاً في محاسبة الشخصيات لأفعالها ومراجعة نفسها بين الحين والآخر وهي أشبه بمحاولة لبلوغ الطهر العراقي الاصيل الذي لا بد له من العبور بالبلد نحو السمو الذي يستحقه، وذلك نستشفه في الرواية بعدما نستشعر الفعل الكبير عندما يوقع آدم بمساعدة ميادة بالأرجوان وتفتضح جرائمه .
رمزية الكلب الاعمى في الرواية
إن الكاتب المبدع دائما ما يفتش في الطبيعة المحيطة به؛ ليجدَ ما يساعده على التعبير، فيكتشف رموزًا فاعلةً لم يفطن لها أحدٌ من ذي قبل، وذلك بحسب فطنته وقدرته الفنية. وتجدر الاشارة إلى أن التفتيش عن هذه الرموز لا يعني خواء لغته السردية أو نضوب أفكاره الروائية إنما هذه الرموز تنقل الروي من المباشرية والسطحية إلى فضاءات جديدة مفعمة بإيحاءات خصبة، ورؤى فلسفية جديرة بالتأمل. لذلك عمل الروائي أمجد توفيق على خلق علاقة صداقة روحية ما بين الثائر سيف وكلب أعمى استطاع إنقاذه من أيدي الاطفال وجلبه إلى المخيم الذي ضم شباب ثورة تشرين، وما قام به الروائي هنا هو نقل الكلب برمزيته من دون تجريده من صفته الحسية حين جعله رمزًا للوطن، أي أنه حوله من مستواه الحسي المعروف إلى مستوى آخر، ولابد من الاشارة إلى أن الحسية في الرمز لا تتنافى مع الإيحائية فيه (1). ولذلك فإن إيحائية استنطاق فعل الكلب في خدمة ثيمة الوطن جاءت مجازًا ينتج عنه حقيقة الأثر الجمالي الذي يمكن أن يصنعه مخلوقٌ هو في الأساس من مكونات الطبيعة، لكنه استطاع أن يحرك الذات المبدعة للروائي ليجعله الجليس الأهم لشخصية سيف والمتحدث معه بأدق التفاصيل وحيثيات الحراك النضالي لرفاقه وهذا ما نقله الشاعر حيدر صديق سيف إلى آدم بعد مقتله، بل جعله على قدر من الشعور والاحساس حتى أنه أحس بالخطر ولحق خاطفي سيف وظل في نباحه المستمر ورائهم إلى أن تحول النباح إلى أنين ووصل ذروته عندما بكى ومن ثم مات الكلب بعدما مات صاحبه سيف. فالوطن يموت بموت أبنائه، خاصة أن الوطن بحالته تلك كان جريحا ومنتهكا وقد مثل العمى للكلب ذلك الجرح والانتهاك، وفي ذلك اثبات بأن التخييل الذي يرافق الرمز لا ينبغي له أن يكون سائباً من الكينونة الواقعية وهذا ما يؤكده “أدورنو” حيث يرى أن الانفلات المطلق من الكينونة الواقعية لن يؤدي إلا إلى تذييل مجاني رخيص ومحدود القيمة(2) .
إن استثمار الرمز جاء بمستويات عدة، منها أن الروائي فطن إلى ما يوحيه الجانب الديني من إرث تلقيني في اذهان الناس من دون الرجوع إلى إحكام العقل وإدراك دستورية الحلال والحرام فيه عندما استهجن سيف دخول أحد الأشخاص إلى المخيم الذي فيه سيف والكلب ورفض أن يصلي في مكان فيه هذا المخلوق استصغارا له وتطيرا من نظافته، وبذلك نجح الروائي بابتداع الآلية اللازمة الفاعلة لاختراق شعور المُتلقي، والتَّغلغل في أفكاره، فلم يكن سيف ينظر إلى الكلب بصفته الحيوانية، بل كان يمنحه مكانة تعلو على مكانة الاشخاص الثائرين معه، ذلك أن ثورتهم كانت لأجل استرداد الحقوق في وطن مسلوب بينما مثل الكلب في قلب سيف ووجدانه الوطن برمته ولذلك لم يكن يبتعد عنه ولا ينشغل بالحديث مع غيره، وبذلك عمل الرمز على جلب ادوات فنية ذات أهمية كبرى في صياغة الصور الجديدة والمعاني المُتجددة، وهي في الوقت نفسه نمط أسلوبي بارز، من خلاله يفهم المُتلقي ما يُراد، وبتحليلها وتأويلها تتكشف دلالات لم تكن بيّنة أو ضمنية، ولهذا المقصد كان اعتماد الروائي على الرمز ليقدِّم مفاتيح الحلِّ لمقاصده.
الهوامش:
1 ـ ينظر: سعد الدين كليب، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، ط2، 1997، ص36 .
2 ـ ينظر المرجع نفسه 36 .
مرتبطالمصدر: وكالة الصحافة المستقلة
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب: «روضة المحبين».. الحب بين الفقه والأدب.. ابن القيم يجمع قصص وأخبار العشاق وأشعارهم وحكمهم مع الحب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
اجتماعيًا، عانت المجتمعات الإسلامية من الانقسامات الطبقية وتفشى بعض المظاهر السلبية مثل الغلو فى التصوف والانحرافات الأخلاقية. هذه القضايا كانت من أبرز ما تصدى له ابن القيم فى مؤلفاته. فقد حاول عبر كتاباته أن يعيد الربط بين الجوانب الروحية والأخلاقية من جهة، وبين النصوص الشرعية والعقلية من جهة أخرى.
انعكس هذا السياق المضطرب على إنتاج ابن القيم الأدبى والفكري. فمن خلال كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، يتضح حرصه على تقديم معالجة فكرية وأدبية لقضية الحب، متناولًا إياها من جوانب متعددة: شرعية، نفسية، واجتماعية. ويبدو أن الدافع وراء هذا الكتاب كان رغبته فى وضع تصور إسلامى أصيل لمفهوم الحب، فى مواجهة التصورات المتأثرة بالفكر الفلسفى أو تلك التى تُشوه الحب بتقديمه كشهوة محضة.
كتاب "روضة المحبين" هو أحد الأعمال البارزة فى مسيرة ابن القيم، وينتمى إلى جانب من كتاباته التى تجمع بين الأدب والفقه، مثل "الداء والدواء". يتميز الكتاب بأسلوب أدبى رفيع، جمع فيه المؤلف بين الاقتباسات الشعرية والنصوص الشرعية والحكم الأخلاقية. وقد ركز فيه على مفهوم الحب الإنسانى والإلهي، ما يجعل الكتاب ليس فقط دليلًا فقهيًا بل تحفة أدبية وفكرية.
يقول ابن القيم فى مقدمة الكتاب: "هذا كتاب جمع فيه مصنفه أخبار العشاق، وأشعارهم، وحكمهم، مع بيان الحب وأقسامه، وأسبابه ودواعيه، وعلله وآفاته". يظهر من هذا أن المؤلف كان يهدف إلى تقديم موسوعة شاملة للحب تجمع بين الجانبين النظرى والعملي.
لا يمكن فهم كتاب "روضة المحبين" إلا بوضعه فى سياقه الزمنى والفكري. فقد كان ابن القيم يعالج قضايا عصره، محاولًا تقديم حلول عملية ونظرية للمشكلات التى تواجه المسلمين. ومن خلال هذا الكتاب، نجح فى المزاوجة بين الفقه والأدب، مقدمًا رؤية متكاملة لمفهوم الحب، تأخذ بعين الاعتبار البعدين الإنسانى والروحى لهذه الظاهرة العالمية.
كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ليس مجرد نص أدبى حول الحب، بل هو دراسة شاملة تهدف إلى تقويم مفهوم الحب وإعادته إلى مساره الصحيح ضمن إطار الشريعة الإسلامية. فى زمن كثرت فيه التأويلات الفلسفية للحب والانحرافات الأخلاقية المرتبطة به، رأى ابن القيم أن الحب بحاجة إلى معالجة جذرية تجمع بين الحكمة الشرعية والوعيين النفسى والاجتماعي.
أراد ابن القيم تصحيح المفاهيم المغلوطة حول الحب، سواء تلك التى روج لها الفلاسفة والمتصوفة، أو تلك التى اختزلت الحب فى بعده الشهواني. فهو يعرض الحب كقوة روحانية ترفع من قيمة الإنسان عندما تُضبط بضوابط الشريعة.
الكتاب يتجاوز كونه مجرد وصف للحب، ليصبح دليلًا شاملًا يتناول أسبابه، علاماته، أنواعه، ومآلاته. كما يناقش ابن القيم الحب من زوايا متعددة: دينية، نفسية، اجتماعية، وأدبية.
يحتوى الكتاب على العديد من القصص والحكايات التى تهدف إلى تعليم القارئ دروسًا عملية. فهو لا يكتفى بوصف الحب بل يبين عواقب الإفراط فيه أو انحرافه عن مساره الصحيح.
يهدف الكتاب توجيه القارئ نحو الحب الإلهي. فابن القيم يرى أن الحب الحقيقى هو الذى يقرب الإنسان إلى الله ويجعله أكثر طاعة وخشوعًا.
يقول ابن القيم: "أصل المحبة هو انجذاب القلب إلى المحبوب بسبب كمال يدركه فيه. وأعظم المحبوبات هو الله، لكماله المطلق الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه".
استخدم ابن القيم مزيجًا من الأساليب منها: الاقتباس من القرآن والسنة: لتقديم الحجج الشرعية. الاستشهاد بالشعر العربي: لإبراز جمال الحب كما صوره الأدب العربي. القصص والحكايات: لإضفاء الطابع التعليمى والتوجيهي. التحليل النفسى والاجتماعي: لفهم تأثير الحب على الفرد والمجتمع.
يمكن مقارنة هذا الكتاب بكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي. لكن بينما ركز ابن حزم على الجانبين الأدبى والفلسفى للحب، جمع ابن القيم بين الأدب والفقه، مما يجعل كتابه أقرب إلى معالجة شاملة تجمع بين الروح والعقل.
كتاب "روضة المحبين" هو محاولة جادة لإعادة صياغة مفهوم الحب فى الإسلام. فهو ليس مجرد كتاب عن المشاعر، بل هو نص تربوى يهدف إلى تهذيب النفس وتقويم السلوك. وقد نجح ابن القيم فى تقديم رؤية متوازنة للحب تجمع بين الجمال الروحى والالتزام الشرعي.
تعد قضية تعريف الحب وأقسامه من أبرز القضايا التى تناولها ابن القيم فى كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين". ومن خلال هذا الفصل، يسعى المؤلف إلى توضيح مفهوم الحب من زوايا متعددة، تجمع بين اللغة والشرع والنفس الإنسانية.
يبدأ ابن القيم بطرح التعريف اللغوى والاصطلاحى للحب. فيذكر أن الحب فى اللغة يتفرع إلى عدة معانٍ، منها الصفاء والعلو والشدة. أما من الناحية الاصطلاحية، فيعرف الحب بأنه انجذاب القلب وانعطافه تجاه المحبوب.
يقول ابن القيم: "الحب هو ميل الطبع إلى شيء يوافقه، سواء كان ذلك الشيء حسيًا أو معنويًا، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها".
قسم ابن القيم الحب إلى عدة أقسام رئيسية: الحب الإلهي: وهو أرقى أنواع الحب وأعلاها، حيث يتعلق القلب بالله عز وجل. يصف ابن القيم هذا الحب بأنه حب كمال وجلال وجمال. ويؤكد أن هذا النوع من الحب هو أساس العبودية الحقة.
الحب الطبيعي: وهو الحب الذى ينشأ بين الناس بفعل القرابة أو الصداقة أو غيرها من الروابط الاجتماعية.
الحب الشهواني: وهو الحب المرتبط بالشهوة والرغبة الجسدية، وقد ذمه ابن القيم إذا تجاوز حدوده الشرعية.
الحب المرضي: وهو الحب الذى يؤدى إلى الفساد والهلاك، كالتعلق المفرط الذى يبعد الإنسان عن طاعة الله.
يشرح ابن القيم العلاقة بين هذه الأنواع، موضحًا أن الحب الإلهى يجب أن يكون فى قمة الأولويات، وأن الحب الطبيعى أو الشهوانى إذا خرج عن حدوده يصبح مفسدًا للنفس.
من خلال تعريف الحب وأقسامه، يقدم ابن القيم رؤية متوازنة تجعل من الحب قوة إيجابية تبنى الروح والمجتمع. ويظهر الكتاب كيف يمكن توجيه هذه القوة لتكون عامل بناء لا هدم.
يقول ابن القيم: "من أحب الله بصدق، كان حبه لكل شيء تابعًا لحبه لله، فصار حبه نورًا وهداية".
فى الفصل الرابع من كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، يتناول ابن القيم الأسباب التى تؤدى إلى نشوء الحب والدوافع التى تقود الإنسان إلى التعلق بمحبوبه. يقدم المؤلف تحليلًا عميقًا لهذه الأسباب، مستندًا إلى ملاحظاته الدقيقة للطبيعة البشرية والشرع الإسلامي.
يشرح ابن القيم أن أسباب الحب متعددة، ويمكن تصنيفها كما يلي:
الإحسان والمعروف:
يرى ابن القيم أن القلب البشرى مجبول على حب من يحسن إليه. فالإحسان يخلق شعورًا بالامتنان، وهذا الامتنان يتحول تدريجيًا إلى حب.
اقتباس: "القلوب فطرت على حب من أحسن إليها، فكيف بمن إحسانه لا ينقطع أبدًا؟".
الجمال والكمال:
يُعد الجمال أحد أبرز أسباب الحب. والجمال هنا لا يقتصر على الشكل الخارجى فقط، بل يشمل الجمال الأخلاقى والروحي. ويؤكد ابن القيم أن الكمال هو سبب رئيسى لانجذاب القلوب.
يقول ابن القيم: "المحبوب يُحب لجماله الذى يبهر العيون، أو كماله الذى يأسر العقول".
التوافق والتشابه:
يشير ابن القيم إلى أن التوافق فى الصفات والطباع والأهداف من أهم ما يجعل الحب يدوم. فالأرواح تتآلف مع من يشابهها.
يقول ابن القيم: "النفوس تجتمع مع ما يشابهها فى الخُلُق والخَلق، وكلُّ شيء يحنُّ إلى جنسه".
المعرفة والتقدير:
يرى ابن القيم أن معرفة صفات المحبوب والتقدير العميق لها يؤديان إلى الحب. فكلما ازدادت المعرفة زاد الحب.
يقول ابن القيم: "المعرفة باب المحبة، فمن جهل شيئًا لم يحبه".
دوافع الحب
الاحتياج النفسي:
الإنسان بطبيعته يحتاج إلى شريك يُكمل نقصه ويشاركه مشاعره. هذا الاحتياج يولد دافعًا قويًا للبحث عن الحب.
الرغبة فى الأنس:
الوحدة والغربة تدفع الإنسان للبحث عن الأنس فى محبة شخص آخر، يكون له عونًا وسندًا.
الطبيعة البشرية:
الحب مغروس فى فطرة الإنسان. فالقلب يبحث دائمًا عما يملأه بالفرح والسعادة. يمزج ابن القيم فى حديثه عن أسباب الحب بين التحليل النفسى العميق والرؤية الشرعية المتزنة. فهو لا يكتفى بتفسير الحب من منظور عاطفي، بل يربط هذه الأسباب بمعانٍ أعمق ترتبط بفطرة الإنسان وغاية وجوده.
يقول ابن القيم: "الحب قوة تسرى فى الكائنات، تحملها إلى البحث عن الكمال والأنس".
علامات الحب ودلائله
فى هذا الفصل، يستعرض ابن القيم العلامات التى تظهر على المحب وتدل على وجود الحب فى قلبه. يقدم المؤلف تحليلًا عميقًا للسلوكيات والتصرفات التى تصاحب حالة الحب، مستندًا إلى الملاحظات النفسية والنصوص الشرعية.
العلامات النفسية والسلوكية للحب
التعلق الدائم بالمحبوب:
يشير ابن القيم إلى أن من أبرز علامات الحب هو تعلق القلب بالمحبوب. حيث يصبح التفكير فيه ملازمًا للمحب فى كل وقت.
يقول ابن القيم: "القلب إذا أحب شيئًا، تعلق به واشتاق إليه فى غيابه، واستأنس به فى حضوره".
الخجل والارتباك:
يعد الخجل عند رؤية المحبوب علامة واضحة على الحب، حيث يعكس ذلك تأثر القلب بوجوده.
يقول ابن القيم: "الخجل نور الحب الذى يفضحه عند اللقاء، وهو الدليل على صدقه".
السعى لإرضاء المحبوب:
المحب يسعى دائمًا لإرضاء محبوبه، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه.
يقول ابن القيم: "المحب يجعل رضا محبوبه غايته، ويتحمل فى سبيل ذلك المشاق والمتاعب".
الشوق والحنين:
إذا ابتعد المحبوب، يشعر المحب بشوق شديد وحنين يدفعه للبحث عنه أو التمنى للقائه.
يقول ابن القيم: "الشوق هو الدليل الأكبر على أن القلب قد سُلب".
العلامات الروحية للحب
ذكر المحبوب فى كل وقت:
يرى ابن القيم أن المحب لا يستطيع التوقف عن ذكر محبوبه، سواء فى كلامه أو أفكاره.
الغيرة:
الغيرة على المحبوب وحمايته من أى شيء قد يزعجه أو يؤذيه تعد من دلائل الحب الصادق.
يقول ابن القيم: "الغيرة سياج المحبة الذى يحفظها من الفساد".
التضحية:
المحب يضحى بكل ما يملك من أجل سعادة محبوبه.
يقول ابن القيم: "المحب يعطى ولا ينتظر المقابل، فالعطاء فى الحب غاية فى حد ذاته".
علامات الحب كما يصفها ابن القيم تتجاوز الجوانب الظاهرية إلى العمق الروحى والنفسي. فهو يقدم رؤية شاملة لهذه العلامات، موضحًا أن الحب الحقيقى ينعكس فى أفعال المحب وأقواله وحتى فى طريقة تفكيره.
يقول ابن القيم: "الحب الصادق تظهر علاماته فى كل صغيرة وكبيرة، فهو شعور يفيض على الجوارح والروح".
الحب فى الشعر والأدب
يُعد الأدب والشعر جزءًا أساسيًا من البناء السردى فى كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، حيث استخدم ابن القيم النصوص الشعرية لشرح مفاهيم الحب وإثراء النقاش حولها. فى هذا الفصل، نستعرض كيف وظّف المؤلف الشعر والأدب لتوضيح معانى الحب، وكيف كان لهذه النصوص دورٌ مهم فى جذب القارئ وتوضيح الفكرة.
الشعر كأداة توضيحية
اعتمد ابن القيم على الشعر العربى القديم والمعاصر له كوسيلة للتعبير عن أعمق المشاعر التى تكتنف الحب. لم يكن الهدف من إدراج الأشعار مجرد التزيين البلاغي، بل كانت جزءًا من التحليل النفسى والاجتماعى لمفهوم الحب.
يقول ابن القيم: "الشعر ديوان العرب، ومنه تُستلهم الحكمة، وفيه تُقرأ القلوب التى نطقت بها الأفواه".
موضوعات الحب فى الشعر
الشوق والحنين:
الشعراء عبروا عن مشاعر الشوق بطرق مؤثرة للغاية، حيث صوّروا كيف يكون الفراق وقعه على المحب.
مثال: "إذا غبت عنى صار كل شيء ظلامًا، وكأن الشمس لا تشرق إلا بوجهك".
الغيرة والمعاناة:
كانت الغيرة والمعاناة من أبرز الموضوعات التى تناولتها الأشعار المتعلقة بالحب، حيث يصور الشعراء كيف تكون الغيرة دليلًا على الحب الصادق.
مثال: "أحسد النسيم الذى يداعب خديك، وأغار من عينٍ تراها قبلي".
اللقاء والفراق:
الفراق كان مصدر إلهام للعديد من الشعراء، الذين وجدوا فيه مادة خصبة للتعبير عن الألم واللوعة.
مثال: "الفراق نارٌ تأكل القلب، واللقاء جنّة لا يدركها إلا المحب الصادق".
الأدب كمرآة للحب
إلى جانب الشعر، استخدم ابن القيم الحكايات كوسيلة لنقل العبر والدروس. فقد أورد قصصًا وحكايات عن العشاق، كانت تحمل فى طياتها الحكمة والأدب الرفيع.