الأزمة السودانية الحالية هي إحدى ملامح مشروع أجنبي واسع تحرّكه قوى دولية نافذة بامتياز بهدف إحداث تحوّلات بنيوية جارفة في مكونات المجتمع السوداني؛ الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وهو مشروع قديم متجدّد، ظهرت معالمه بشكل واضح منذ بداية نظام الإنقاذ في العام 1989.

الصراع المحتدم حول السودان، تحرّكه دوافع اقتصادية وجيوسياسية وأيديولوجية متداخلة، وهو جزء من خطة إعادة تشكيل المنطقة التي تقودها دول المركز.

لقد شهد الصراع بين حكومة الإنقاذ من جهة، ودول الغرب حالات من المدّ والجزر، بالذات مع الولايات المتحدة الأميركية التي اختارت السودان لبناء أكبر سفارة لها في المنطقة، وبريطانيا التي لعب سفيرها دورًا أساسيًا في تبنّي ثورة ديسمبر/كانون الأول، وإسرائيل التي ظلت عينها على السودان منذ استقلاله، وتمكّنت هذه القوى من إسقاط نظام الإنقاذ بعد أن صمد قرابة ثلاثة عقود.

ومنذ ذلك الحين تعددت وسائل التدخل الخارجي في الشأن السوداني، وتعدد اللاعبون في الميدان، ولكنهم جميعًا عبارة عن أحجار في رقعة الشطرنج تحركها قوى كبرى فاعلة تعمل من وراء ستار، وتنتهي مهمة كل لاعب متى ما انتهى من لعب الدور المرسوم له.

تبنّت الولايات المتحدة وبريطانيا سياسة تمزيق السودان تدريجيًا، عندما طبقتا سياسة شد الأطراف، ودعمتا حركات التمرد التي تناسلت مثل الفطر في ربع القرن الأخير، وفرضتا حظرًا اقتصاديًا مجحفًا، وأغلقتا كل أبواب التمويل والتعاون المتكافئ مع المؤسسات الدولية. وتولت إسرائيل مهمة مراقبة سياسة تمزيق السودان، باعتبارها دولة وظيفية كما يصفها الدكتور المسيري. وبدورها، سخّرت إسرائيل قوى إقليمية ودول جوار لتنفيذ هذا المشروع. وهذا ما نحاول استعراضه في إيجاز في هذا المقال.

نافخو الكير

وقد يكون من المؤسف القول؛ إن دولة بعينها تلعب دور رأس الرمح في إذكاء نار الحرب المستعرة في السودان، وذلك بدعمها الشامل، قوات الدعم السريع المتمردة.

وتبدو السياسة العدائية لهذه الدولة تجاه الشعب السوداني، محيرةً إلى حد كبير؛ فقد كان يمكنها تحقيق كل مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في السودان بالحسنى، وبتكلفة أقل من فاتورة الحرب الباهظة التي تدفعها الآن.

سُئل السياسي البريطاني ونستون تشرشل: لماذا لا تتبع أميركا الطريق الصحيح وتبدأ بالحسنى أولًا قبل القوة، فقال: "أميركا تفعل الشيء الصحيح دائمًا ولكن بعد أن تستنفد كل الطرق الأخرى".

الخصوم الأفارقة

منذ بداية الحرب في السودان اتخذت كل من إثيوبيا، وكينيا أيضًا موقفًا داعمًا بلا مواربة لقوات الدعم السريع، وسعت كلتا الدولتين لتسخير"الإيغاد"؛ لفرض حل جائر، وإجبار الحكومة السودانية والقوات المسلحة للقبول به، بل سعت هاتان الدولتان إلى تكوين تحالف عسكري ضد الجيش السوداني. كما فتحتا أراضيهما لاستقبال قائد التمرد رسميًا، واستضافتا عدة اجتماعات لقوى الحرية والتغيير.

إلا أن سياسة استغلال منبر الإيغاد لم تنجح، فقد كان موقف السودان قويًا وحاسمًا بتجميد عضويته في المنظمة مما أفقدها القدرة على الحركة، وأفقدها مصداقيتها، رغم المحاولات المستمرة من بعض القوى لإذكاء الروح فيها من جديد.

مواقف إثيوبيا وكينيا العدائية تجاه السودان، تفسرها العلاقات الغامضة بين قادة هاتين الدولتين وزعيم حركة التمرد. لقد سبق أن زار الرئيس الكيني الحالي السودان في العام 2020، والتقى قائد التمرد في أحد مناجم الذهب في شمال السودان، وهي زيارة أثيرت حولها تساؤلات كثيرة. أما إثيوبيا فقد اتخذت موقفًا لم يراعِ خصوصية علاقاتها بالسودان، بل لم يراعِ كثيرًا واقع الحال في إثيوبيا نفسها التي تتناهشها حروب القوميات والتي وصلت حتى العاصمة أديس أبابا، فقد كان رئيس الوزراء الإثيوبي مرجوًا عند السودانيين، حتى اتخذ موقفًا شائنًا بدعمه للتمرد وسعيه لتشجيع التدخل الأجنبي في الشأن السوداني.

أما موقف الحكومة التشادية فقد كان أنكأ، فعند بداية الحرب، أعلنت تشاد موقفًا محايدًا وداعمًا للجيش السوداني، وهو الموقف الطبيعي الذي ينسجم مع علاقات البلدين التاريخية.

ولكن الموقف التشادي تغير بشكل غريب بعد الزيارة التي قام بها الرئيس محمد كاكا إلى تلك الدولة العربية التي تدعم التمرد في يونيو/حزيران 2023. فأصبحت هي الأخرى داعمًا رئيسًا لحركة التمرد، وذلك رغم نفي الحكومة التشادية الرسمي لذلك. إلا أن السودان قدم معلومات لا تقبل الجدل عن مدى استغلال التمرد للأراضي التشادية في مذكرته التي دفع بها إلى الأمم المتحدة في شهر مارس/آذار الماضي.

لقد حاول الرئيس محمد كاكا في كتابه الصادر هذا الشهر بعنوان: "من بدوي إلى رئيس جمهورية"، نفي وإنكار أية علاقة بدعم مليشيا الدعم السريع، وقال؛ إن بناء مستشفى (تموله الدولة العربية الداعمة) في أم جرس هو عمل إنساني بريء لمساعدة اللاجئين.

ولكن هذا النفي لم يكن مقنعًا، ربما حتى للشعب التشادي نفسه، وقد عبّر الرئيس عن ذلك في كتابه عندما قال: "إنني مستاء من رد فعل بعض التشاديين الذين يقومون بتبني وترويج الاتهامات التي يطلقها سياسيون سودانيون ضد تشاد، والانسياق وراء الخطاب المشوه للسمعة الذي تروجه وسائل التواصل الاجتماعي".

هذه الدول الثلاثة ستكون الخاسر الأكبر في علاقاتها مع السودان إذا انتهت الحرب الحالية بانتصار الجيش والإرادة القومية السودانية كما هو مأمول، ما لم تبادر إلى تغيير سياساتها وتصويب خياراتها قبل فوات الأوان.

مطفِئو الحرائق

بالمقابل، فإن هناك عددًا من دول الجوار والقوى الإقليمية تسعى بجد منذ بداية الحرب لإطفاء نار الفتنة، واتخذت مواقف واضحة بدعم الشرعية التي تمثلها القوات المسلحة السودانية. على رأس هذه الدول تأتي جمهورية مصر العربية، بموقفها الواضح الداعم للجيش السوداني منذ بداية الحرب الحالية.

الموقف المصري يتسق تمامًا مع العلاقات التاريخية بين مصر والسودان، لقد أثبتت القيادة المصرية مرة أخرى أنها تفرق بين المواقف الإستراتيجية وبين السياسات المرحلية تجاه نظام بعينه أو حالة بعينها كفعل طارئ في علاقات البلدين الممتدة.

استضافت مصر أكبر عدد من اللاجئين السودانيين، ولم تفرق بينهم بسبب انتماءاتهم السياسية، كما تبنت مبادرة دول الجوار السوداني والتي نجحت في دعم المؤسسة العسكرية السودانية والدفع في اتجاه الحل السلمي الشامل للأزمة.

وفي الواقع، فإنه من غير الممكن اعتماد حل ناجز للأزمة السودانية دون إشراك مصر. وتميز أيضًا الدور الإيجابي للحكومة الإريترية، وذلك عندما أعلن الرئيس أفورقي منذ اليوم الأول موقفًا قويًا داعمًا للجيش، ورافضًا لمغامرة الدعم السريع ومناصريها.

كما وقفت حكومة جنوب السودان موقفًا داعمًا للجيش السوداني، وكانت حكومة الجنوب واضحة عندما أكدت أن اشتراك بعض مواطنيها في الحرب إلى جانب الدعم السريع هو عمل فردي ترفضه الدولة.

وينشط الرئيس سلفا كير والدبلوماسية الجنوبية السودانية في الدفع نحو حل سلمي للأزمة مع تأكيد دعمها الدائم للمؤسسة العسكرية السودانية. ورغم تعقيدات الوضع الداخلي في ليبيا فقد دعمت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس الجيش السوداني، وسعت إلى طرح مبادرة للصلح.

أما على المستوى الإقليمي والدولي، فقد تميز الدور الذي قامت به المملكة العربية السعودية، عندما تبنت منبر جدة باعتباره المنبر الوحيد الفاعل حتى الآن، وبرغم من أن حركة التمرد لم تلتزم حتى الآن بما وقعت عليه في منبر جدة فإنه لا يزال يشكل آلية مناسبة للبحث عن حل تفاوضي عادل للحرب السودانية.

من أهم التطورات الدولية في الحرب السودانية هو تغير الموقف الروسي من موقف داعم بقوة للتمرد عبر مجموعة فاغنر إلى شريك دولي يدعم الجيش السوداني ويسعى للبحث عن حل سلمي عادل للحرب، وقد تغير الموقف الروسي بعد وفاة مؤسس فاغنر، وإعادة هذه المؤسسة المتمردة إلى حضن وزارة الدفاع الروسية.

وأخيرًا؛ فإن الحرب الجارية قد نفخت الروح في العلاقات السودانية – الإيرانية، وأصبحت إيران داعمًا أساسيًا للجيش السوداني، وأحدثت المسيّرات الإيرانية تقدمًا كبيرًا للجيش في أرض المعركة جعلته قاب قوسين أو أدنى من النصر الحاسم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك دولًا أخرى اتخذت موقفًا واضحًا بدعم الجيش السوداني والحفاظ على الدولة السودانية، وقدمت مساعدات إنسانية ومادية معتبرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: تركيا وقطر والجزائر والمغرب والصين والكويت. هذه القوى ستكون الرابح الكبير عند انجلاء الحرب الحالية لصالح الجيش والشعب السوداني.

دبلوماسية الصبر

لقد تبنَّى السودان طوال هذه الحرب دبلوماسية الصبر، والتي رغم أنها أثارت كثيرًا من القلق والخوف إلا أنها حققت نجاحات واضحة في نهاية المطاف.

ربما تأخرت الدبلوماسية السودانية في نظر العديد من المراقبين، ولكن الدبلوماسية السودانية لها القدرة والخبرة على استدراك ما فات واستثمار ما هو آتٍ. ولنتذكر على سبيل المثال لا الحصر أن السودان سبق أن واجه حصارًا شديدًا من حركة التمرُّد في جنوب السودان التي استطاعت أن تحشد الرأي العام الأفريقي ضد السودان بشكل غير مسبوق، ولكن الدبلوماسية السودانية عندما أفاقت استطاعت في سنوات قليلة أن تسود وتقود في الشأن الأفريقي والإقليمي على السواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الجیش السودانی للجیش السودانی الدعم السریع بدایة الحرب أن السودان فی السودان منذ بدایة ا للجیش للجیش ا فقد کان داعم ا موقف ا

إقرأ أيضاً:

الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية

منتدى الإعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة

إعداد وتحرير: سودانايل

مقدمة

الخرطوم 20 يناير 2025 – منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، عرف السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5.7 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا (الأمم المتحدة – نوفمبر 2024). ولم يقتصر عدد الضحايا على القتل الناتج عن تبادل النيران العشوائية، بل تصاعدت الانتهاكات في الآونة الأخيرة لتشمل القتل العمد، واستهداف الأفراد على أساس قبلي وهوياتي، وهو ما يزيد تعقيد النزاع وتأجيجه.

انتهاكات جسيمة تستهدف الهوية

تشير تقارير حقوقية، منها ما صدر عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى أن عمليات القتل العمد بحق المدنيين والأسرى تستند غالبًا إلى خلفياتهم الإثنية أو القبلية، مما يُنذر بتفاقم الانقسامات العرقية وتعميق جراح المجتمع السوداني. وذكرت منظمة العفو الدولية أن عددًا كبيرًا من حوادث القتل موثقة على أنها جرائم حرب، حيث تُرتكب دون أي مراعاة للقوانين الدولية الإنسانية (العفو الدولية – ديسمبر 2024).

أبعاد الكارثة الإنسانية

يتجاوز النزاع القتل المباشر ليشمل تداعيات إنسانية كارثية. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعاني أكثر من 20 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في السودان، مع تحذيرات من مجاعة واسعة النطاق إذا استمرت الحرب دون تدخل دولي فاعل (برنامج الأغذية العالمي – نوفمبر 2024). وفي الوقت نفسه، وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حالات اغتصاب وعنف جنسي متزايدة، مع تسجيل أكثر من 200 حالة مؤكدة في المناطق المتأثرة بالنزاع منذ بداية الصراع.

انتهاكات الدعم السريع واستهداف المدنيين على أسس عرقية وقبلية

على الجانب الآخر من النزاع، ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، اتسمت بالقتل الممنهج والاستهداف المباشر على أسس عرقية وقبلية وجنسية. ووفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، فإن قوات الدعم السريع استهدفت بشكل منهجي مجموعات سكانية تنتمي إلى قبائل محددة، حيث تم توثيق عمليات قتل واغتصاب ونهب في المناطق التي تسيطر عليها هذه القوات (العفو الدولية، نوفمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، ديسمبر 2024).

استهداف النساء والفتيات

تشير تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات قد أصبح سلاحًا حربياً تستخدمه قوات الدعم السريع لترهيب المجتمعات المحلية وإجبارها على النزوح. وتم توثيق أكثر من 200 حالة اغتصاب في المناطق التي سيطرت عليها القوات، مع

توثيق شهادات مباشرة من الناجيات تؤكد أن هذه الجرائم كانت موجهة ضد فئات عرقية معينة. (UNFPA، ديسمبر 2024)

استهداف القرى والأحياء السكنية

في المناطق الريفية تحديدًا، قامت قوات الدعم السريع بحملات عنف شديدة استهدفت القرى التابعة لقبائل معينة، حيث تم تدمير المنازل ونهب الممتلكات وقتل المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وفي بعض الحالات، تم إجبار الناجين على النزوح تحت تهديد السلاح، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وارتفاع أعداد النازحين داخليًا إلى أكثر من 5.7 ملايين شخص (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، نوفمبر 2024)

انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني بعد دخول الجيش السوداني:

في أعقاب دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة الأسبوع الماضي، تواترت تقارير عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين. وأفادت منظمة العفو الدولية باندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ود مدني، مما أثار مخاوف جديدة على سلامة المدنيين (العفو الدولية، ديسمبر 2024).

من جانبه، أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه البالغ إزاء التقارير المتعددة التي تفيد بوقوع تجاوزات واسعة النطاق وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني خلال الأيام الأخيرة من القتال. وأشار إلى أن الحالة الإنسانية في ولاية الجزيرة، التي تستضيف ما يقرب من نصف مليون نازح داخليًا، “رهيبة ومروّعة” (مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ديسمبر 2024).

في هذا السياق، ندد الجيش السوداني بما وصفه بـ “التجاوزات الفردية” التي حدثت في بعض مناطق ولاية الجزيرة عقب استعادة مدينة ود مدني، مؤكدًا التزامه بالقانون الدولي الإنساني وحرصه على محاسبة كل من يثبت تورطه في أي تجاوزات (الجزيرة نت، يناير 2025).

هذه التطورات تسلط الضوء على التحديات المستمرة التي تواجه المدنيين في مناطق النزاع، وتؤكد الحاجة الملحة لحماية حقوق الإنسان وضمان المساءلة عن أي انتهاكات تُرتكب.

أدوار الكتائب والمليشيات المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني المنحل

تشير التقارير الميدانية إلى أن العديد من هذه الانتهاكات تُرتكب على يد كتائب ومليشيات مسلحة، في الغالب ذات توجهات إسلامية، أو تدّعي تبنيها لقيم الإسلام، مع انتمائها إلى قيادات الحزب الحاكم المحلول، حزب المؤتمر الوطني. من بين هذه الكتائب، تبرز كتائب البراء المعروفة، التي تنشط في مناطق النزاع، وتتحمل مسؤولية انتهاكات جسيمة ضد المدنيين. تعمل هذه الكتائب غالبًا تحت مظلة دعم بعض قادة الجيش السوداني، أو على الأقل تحت مرأى ومسمع من القيادات العسكرية دون اتخاذ إجراءات واضحة لردعها أو محاسبتها. وقد أعربت منظمات حقوقية دولية عن قلقها من أن هذه الكتائب، والتي تسهم في تأجيج النزاع عبر ممارساتها التي تنتهك حقوق الإنسان، وتفاقم الانقسامات العرقية والسياسية في البلاد (العفو الدولية، ديسمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، نوفمبر 2024).

توثيق الانتهاكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي

في سياق توثيق هذه الجرائم، نشر عشرات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر بوضوح انتهاكات جسيمة تُنسب إلى كتائب البراء وغيرها من المليشيات المشابهة. تُظهر هذه الفيديوهات عمليات قتل متعمد وتعذيب للمدنيين ونهب للممتلكات في المناطق التي شهدت نزاعًا مسلحًا. وقد أثارت هذه المقاطع موجة من الإدانات الدولية والمحلية، حيث تمثل دليلًا مباشرًا على الانتهاكات التي تُرتكب بجرأة وعلانية. ورغم ذلك، لا تزال هذه الجرائم تُرتكب دون محاسبة جدية أو تدخل دولي فاعل لوقف هذه الممارسات التي تهدد الأمن والاستقرار في السودان.

القتل العرقي وتداعياته على السودان

تقوم هذه الجرائم على أساس القتل العرقي والممنهج، مما يشير إلى نقل الحرب إلى مربعات جهوية وعرقية وإثنية خطيرة. وما حدث مؤخرًا في ولاية الجزيرة يمثل دليلًا موثقًا لهذه الانتهاكات، حيث تعرضت مجموعات معينة للاستهداف على أسس إثنية واضحة. هذا التصعيد يهدد بنقل البلاد إلى مرحلة الحرب العرقية، وهي مرحلة قد تطول نتيجة التعدد القبلي الكبير والتنوع الثقافي في السودان.

في ظل هذه الظروف، فإن عدم تدخل السلطات بشكل حاسم يُعد إشارة ضمنية إلى مباركة هذه الجرائم، خاصة في ظل الصمت أو التأييد غير المباشر من رئاسة الدولة ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي. هذا الوضع يضع السودان أمام سيناريوهات خطيرة، حيث تتعمق الانقسامات العرقية، وتُزرع بذور حروب أهلية طويلة الأمد، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الانتهاكات ومعالجة جذور الصراع.

مسؤولية القيادات وتفاقم الانقسامات

تعتمد قوات الدعم السريع في عملياتها على قيادات ميدانية تنتمي إلى شبكات قبلية متداخلة، ما يجعل من الصعب فصل الممارسات الفردية عن التوجهات العامة التي تُنفذ بتوجيه أو بغطاء ضمني من القيادة العليا. وقد أدت هذه الانتهاكات إلى زيادة الانقسامات العرقية وتأجيج الصراعات داخل المجتمعات المحلية، مما يُنذر بتفكك النسيج الاجتماعي في السودان.

تداعيات مستمرة لخطر الحرب الممتدة

إن استمرار هذه الممارسات من قبل قوات الدعم السريع، إلى جانب الانتهاكات الموثقة التي ترتكبها القوات المسلحة السودانية والمليشيات المتحالفة معها، يعمّق الانقسامات العرقية والقبلية في البلاد. ومع غياب أي مساءلة دولية أو محلية جادة، تتزايد المخاوف من أن تتحول هذه الحرب إلى صراعات طويلة الأمد على أسس عرقية، مما يجعل التوصل إلى أي حل سياسي شامل أكثر تعقيدًا.

تصاعد الضغوط الدولية: عقوبات أمريكية تطال حميدتي والبرهان

في تطور لافت، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، في 7 يناير 2025، متهمة إياه بارتكاب جرائم إبادة جماعية خلال الصراع المسلح مع الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من السودانيين (فرانس 24، 7 يناير 2025).

وفي 16 يناير 2025، أعلنت الحكومة السودانية رفضها للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، معتبرة إياها استخفافًا بالشعب السوداني (سودان تربيون، 16 يناير 2025).

هذه الإجراءات تعكس تصاعد الضغوط الدولية على القيادات العسكرية السودانية؛ بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في البلاد.

دور الإعلام في مواجهة الحرب ومخاطر الانزلاق العرقي

في خضم الأزمة السودانية المتفاقمة، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام نحو نبذ خطاب الكراهية ومواجهة الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتنازعة. تقع على عاتق الإعلاميين والصحفيين مسؤولية كبيرة في تسليط الضوء على هذه الجرائم، وتحديدًا الانتهاكات ذات الطابع العرقي أو القبلي، والتي قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع السوداني وإشعال فتيل حرب لا تبقي ولا تذر.

مناشدات للإعلاميين والنشطاء

يجب على الإعلاميين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الناشطين المؤثرين الذين يمتلكون أعدادًا كبيرة من المتابعين، الالتزام بخطاب يدعو إلى التهدئة وتجنب تأجيج الصراعات القبلية. هؤلاء الناشطون، بمنصاتهم الواسعة الانتشار، لديهم القدرة على تغيير مسار الخطاب العام من التحريض إلى تعزيز قيم التعايش السلمي ونبذ العنف.

دور الصحفيين ووسائل الإعلام

من جهة أخرى، يجب على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، سواء عبر الصحف الإلكترونية أو القنوات الإعلامية التقليدية، الإقليمية منها، والدولية التطرق إلى هذه الانتهاكات بموضوعية ومصداقية. على الإعلام أن يكشف الحقيقة، ويوثق الجرائم التي تُرتكب، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية لهذه الكارثة. يجب أن يكون الإعلام صوتًا للضحايا، وأداة للضغط على الأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي للعمل على وقف هذه الحرب.

حماية النسيج الاجتماعي

الإعلام مسؤول أيضًا عن التذكير بأهمية حماية النسيج الاجتماعي للسودان، وضرورة عدم السماح بتحويل النزاع إلى صراع قائم على العرق أو الجنس أو القبيلة. عليه أن يواجه محاولات بعض الأطراف التي تسعى لتأجيج الفتنة القبلية لتحقيق مكاسب قصيرة المدى على حساب وحدة السودان ومستقبله.

هذا الدور الإعلامي الحساس يجعل من الصحفيين والإعلاميين شركاء أساسيين في مجابهة هذه الحرب اللعينة، ومنعها من التدهور إلى صراعات قبلية طويلة الأمد، قد تستنزف السودان لعقود قادمة.

الخاتمة

في ظل هذه الأزمات المتفاقمة، يتطلب الوضع في السودان تحركًا جماعيًا من كافة الأطراف، بدءًا من القيادات السياسية والعسكرية إلى المجتمع المدني والإعلام. لا يمكن للسودان أن يتحمل استمرار هذا النزاع الذي يهدد مستقبل أجياله، ويُدمر نسيجه الاجتماعي. إن الحل الوحيد يكمن في وقف فوري لإطلاق النار، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، والالتزام بتسوية سياسية شاملة تضمن تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان.

على الإعلام، كسلطة رابعة، أن يستمر في نقل الحقيقة بموضوعية وشجاعة، وأن يكون صوتًا للضحايا ومنبرًا للمصالحة الوطنية. فلا يمكن تحقيق السلام دون مواجهة حقيقية للجرائم والتحديات، ودون خطاب إعلامي يوحد السودانيين بدلًا من تقسيمهم.

فهرس المراجع:

العفو الدولية: تقرير حول انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، ديسمبر 2024

هيومن رايتس ووتش: تقارير موثقة عن الانتهاكات الجسيمة من قبل الأطراف المتنازعة، نوفمبر وديسمبر 2024

مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): تقارير حول أعداد الضحايا والنازحين، 2024

صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA): تقرير عن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع، ديسمبر 2024

منتدى الإعلام السوداني

ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني

الوسومالجرائم والانتهاكات حرب الجيش والدعم السريع منتدى الإعلام السوداني

مقالات مشابهة

  • لواء البراء بن مالك: أيقونة التضحية في معركة السودان ضد التمرد
  • أبرزها مصر والإمارات.. كيف تستغل القوى الإقليمية الحرب السودانية لتحقيق مكاسبها؟
  • أطروحة انتصار المقاومة الفلسطينية..عودة لعبة صراع المفاهيم
  • هل أشعلت الحرب عقول الشباب السوداني؟
  • شارك في حشد المستنفرين لتدمير مدن السودان.. قرار بإعفاء سلطان الداجو لدعمه التمرد
  • راشد عبد الرحيم: لا تستعجلوا
  • الخارجية السودانية: المليشيا بعد أن عجزت عن مواجهة الجيش والقوات المساندة له لجأت إلى استهداف محطات الكهرباء والمياه
  • موقف ثنائي الاتحاد الأجنبي من المشاركة أمام الشباب
  • ما هو أثر العقوبات الأمريكية على الحرب السودانية؟
  • الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية