مرت علينا ذكرى عام على اندلاع حرب السودان في ١٥ أبريل ٢٠٢٣. واذا ما أولى العالم هذه الحرب بعض الاهتمام في شهورها الأولى، فانه سرعان ما غادرها منشغلا بغيرها مما هو جديد. واذا ما نشطت الوساطات لانهائها في العام الذي أدبر فانها ستفتر على الأرجح في ما هو مقبل. بل يخشى ان استحرت هذه الوساطات ألا يكون لها حظا من النجاح افضل مما صادف سابقاتها.

ليس ذلك تشاؤما. وانما هو لأن المؤشرات كلها تدل على ان الوسطاء لا يبالون بالسبب الأول الذي يفضي لنجاح التفاوض الذي هو التوصيف الصحيح لهذه الحرب ولطبيعة طرفيها في ميزان الشرعية الدستورية. فكيف فشلت الوساطات المنصرمة في إقامة هذا الوزن بالقسط. وماذا ينبغي ان تفعل الوساطة المقبلة، ان هي استوت على سوقها وأرادت الا تخسر الميزان.

فور نشوب الحرب سماها الاعلام الدولي “حرب الجنرالين” معتبرا اياها حربا اشعلها التنافس المحتدم بين الرجلين على كرسي الرئاسة. وقالت بذلك منظمات اقليمية منها الاتحاد الافريقي والايقاد. بل ساوت عدة دول افريقية ذات شأن بين الرجلين فاستقبلت حميدتي استقبال الرؤساء. وكان اساس مبادرة اللجنة الفرعية للايقاد الذي اعلنه رئيسها الرئيس الكيني وليام روتو هو عقد اجتماع يضم الجنرالين وجها لوجه في جيبوتي في ديسمبر من العام الماضي. كم كان ذلك التوصيف لطبيعة هذه الحرب بعيدا عن الحقيقة. بل كم كان متجنيا. اذ انه يجعل من الفريق اول عبدالفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية مجرد مفتئت imposter، مثله في ذلك مثل حميدتي، يبحث عن السلطة دون شرعية قائد الجيش الوطني التي يتمتع بها في ظل فترة انتقالية ليست فيها حكومة منتخبة. ومن ثم كان تجنب البرهان لعقد اللقاء. وكان جري حميدتي وراءه. ومن ثم فشلت وساطة الايقاد، وستفشل بعدها أي وساطة تنطلق من فكرة ان هذه الحرب انما هي حرب جنرالين اذا التقيا واتفقا على تقاسم السلطة تكون الحرب قد انتهت.

المنطلق الآخر الذي بنيت عليه الوساطة الأخرى غير المعلنة، والتي انتجت اتفاق المنامة في ٢٠ يناير ٢٠٢٤ الذي سربت نصه صحيفة الشرق الاوسط، فهو منطلق ان للدعم السريع “قضية ومشروع”. فاصحاب هذه الوساطة يرون ان هذه الحرب قامت من أجل قضية هي احباط دولة ١٩٥٦ وتجاوز عقابيلها. ومن اجل مشروع هو اقامة دولة مدنية على اساس الاتفاق الاطاري. ويرون ان من اشعلوا هذه الحرب هم فلول النظام السابق للحيلولة دون خدمة هذه القضية النبيلة او انفاذ ذلك المشروع الوطني الكبير. الم تر كيف ان اتفاق المنامة يدعو لمعالجة “جذور” الحرب وجعل الشعب هو “المصدر الاساسي للسلطة” “وضمان المواطنة المتساوية” واعتماد “حزمة اصلاحات قانونية” وتجريم “الخروج عن الشرعية الدستورية وتقويض النظام الديمقراطي”! ألم تر كيف ان الدعم السريع هو الذي يأطر القوات المسلحة أطرا على العودة للشرعية الدستورية كونها هي التي خرجت عنها! وأنه هو الذي يحثها لأن تتوب وتؤوب للنظام الديمقراطي بعد ان قوضته! وبالرغم من انه لم يصدع احد في الساحة السياسية السودانية بهذه المغالطة المفضوحة الا الدعم السريع وحركة تقدم التي يقودها رئيس الوزراء الاسبق الدكتور عبدالله حمدوك، الا انها وجدت مناصرين في الساحة الدولية. هؤلاء هم من تبنوها ودفعوا لاخراجها في المنامة. فهم يرون انه اذا لم تكن لحميدتي الشرعية الدستورية التي تجعل منه الجنرال المكافئ للبرهان، فانه صاحب المشروع الوطني الكبير الذي خذله الجيش! وهو من هب لتدارك القضية السامية التي تقاعس الجيش عن النهوض بها! ولا غرابة فهؤلاء الوسطاء هم من أتوا بالاتفاق الاطاري وساندوه بالأمس. وهم من يدعون اليوم حركة تقدم للمشاركة في مؤتمر باريس دون دعوة صاحب الشرعية. ولولا بقية من حياء لدعو حميدتي الى جوار حمدوك.

اما المنطلق الثالث، والذي يصلح اساسا لانجاح الوساطة المقبلة ان هي أرادت لنفسها النأي عن الأجندات وأرادت لهذه الحرب إخراسا ابديا، فهو الذي يصدر عن فكرة ان القوات المسلحة السودانية هي صاحبة الشرعية الدستورية الكاملة غير المنقوصة. وان الدعم السريع هو القوة شبه النظامية paramilitary التي تمردت على الجيش فتحولت الى ميليشا لا شرعية لها ولا مشروع الا ان تنهب وتسلب وتحرق وتغتصب وتنشر الخراب والموت حيثما حلت. وهو منطلق لا يعبر عنه بوضوح حاليا الا الموقف المصري. ولجنوب السودان مقاربة ليست من ذلك ببعيد. كما ان مبادرة جدة تشي ببعض هذا. فبمناداة اعلان جدة الصادر في ١١ مايو ٢٠٢٣ بأن يسبق وقف اطلاق النار خروج الدعم السريع عن المنازل والاعيان المدنية، فان هذه المبادرة قابلة للتطور في هذا الاتجاه. ذلك ان فتح أي نافذة للتفاوض مع الدعم السريع في أي شأن سوى اخراجه من ديار المواطنين التي اغتصبها، وارجاعه مقتنياتهم التي نهبها، ومساءلته عن الجرائم التي أرتكبها، انما يكون سببا لمنحه شرعية لا يستحقها. او الاقرار له بمشروع ليس له. وقد أكد على ذلك قائد الجيش مرارا عن حق. وهو في ذلك انما يصدر عن الموقف الطاغي للشعب وقواه الحية التي أجمعت على رفض ما عدا هذا.

أُثر عن الرئيس الامريكي جون كينيدي انه قال في ابريل ١٩٦١، وهو في معمعان ازمة الصواريخ الكوبية وخليج الخنازير، “دعونا لا نتفاوض بداعي الخوف، لكن دعونا لا نخاف أبدا من التفاوض” Let us never negotiate out of fear. But let us never fear to negotiate. ان القياس بين مواجهات الامم الكبرى فيما بينها، وحرب السودان مع حميدتي، قياس لا يصح. او بلغة الفقهاء قياس مع الفارق. غير ان العبرة المستفادة من مقولة كينيدي هي ان هناك سنة كونية ماضية مفادها ان الحرب، من حيث كونها حربا، ايا كانت وكيفما كانت واينما كانت، وكائنا من كان أطرافها، “آخرها الكلام”. لا يشذ عن ذلك الا القليل، والشاذ لا حكم له. اما اذا أردنا قياسا نقيس عليه حالة تمرد حميدتي حذو القذة بالقذة فتلك هي حالة الباغي الذي يسعى في الأرض فسادا. والذي يُخفَف عنه حتى الحكم الشرعي إن هو تاب ووضع السلاح قبل ان تقدروا عليه. والتفاوض من الصور التي يتأتى عبرها وضع سلاح من يسعون في الأرض فسادا. غير ان التفاوض مع هؤلاء لايصح ان كان له أي غرض آخر؛ فضلا عن ان تكون غايته هي إلباس الباغي شرعية، او الاقرار بأن سعيه في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل في حد ذاته قضية.
ومن ثم فاننا نقول دعوا الجيش السوداني لا يتفاوض مع الدعم السريع بداعي الخوف من تمدده او حتى تشرذمه. او لإكسابه شرعية يفتقدها او لجعله صاحب مشروع او قضية. ولكن دعوه لا يخاف من التفاوض معه من باب التفاوض مع البغاة الذين يسعون في الأرض فسادا، فيُحملون على الحق حملا حتى يضعوا السلاح فتضع الحرب أوزارها. ولا يكون ذلك الا من منطلق الشرعية الكاملة التي تستند على هذا الالتفاف الجماهيري الكبير. فاذا لم يتأتى للجيش السوداني حتى الآن المنبر الذي يطلق وساطة كهذه تنبني على هذه القناعة فانه سيواتيه مثل هذا المنبر في عامنا الجديد هذا، عاجلا غير آجل. وما ذلك الا بفضل وقفة الشعب كله وراء جيشه، الا من أبي. وبفضل مقاومته المسلحة، التي أشتد عودها. وبفضل الانتصارات الباهرة، التي تتالت كالعقد النضيد. ثم بفضل الحادبين من الاشقاء ممن يقفون الموقف الصحيح من قضية الشرعية الدستورية.

بقلم :الدكتور الدرديري محمد أحمد
وزير خارجية السودان الأسبق

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الشرعیة الدستوریة الدعم السریع هذه الحرب فی الأرض

إقرأ أيضاً:

الجيش السوداني: مقتل 60 عنصرا من "الدعم السريع" بهجوم على الفاشر  

 

الخرطوم - أعلن الجيش السوداني، الخميس 24 ابريل 2025، قتله 60 عنصرا من قوات "الدعم السريع"، خلال تصديه لهجوم شنته على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي البلاد.

وقالت الفرقة السادسة مشاة بالجيش في الفاشر، عبر بيان، إن "قوات الجيش والقوات المساندة تمكنت من صد هجوم عنيف شنّته عناصر مليشياوية (تقصد "الدعم السريع") متسللة باتجاه المحور الجنوبي الغربي للمدينة أمس الأربعاء".

وأضافت: "قتل 60 من عناصر ميليشيا الدعم السريع، وأصيب 52 آخرون، وفر بقية المهاجمين، مخلفين وراءهم القتلى والجرحى".

وتابعت أن "قوات الدعم السريع قصفت الفاشر مدفعيا على فترات متقطعة، ما أدى إلى استشهاد 5 مدنيين وإصابة 40 آخرين، بينهم نساء بإصابات بليغة".

وحتى الساعة 10:45 "ت.غ" لم يصدر تعقيب من قوات "الدعم السريع".

تأتي هذه التطورات بعد أيام من هجوم لـ"الدعم السريع" على مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور وإعلانها السيطرة عليه بعد اشتباكات مع الجيش والقوات المساندة له، خلّفت 400 قتيل وعشرات آلاف النازحين حسب الأمم المتحدة.

ومنذ 10 مايو/ أيار الماضي، تشهد الفاشر اشتباكات بين قوات الجيش و"الدعم السريع"، رغم تحذيرات دولية من المعارك في المدينة، التي تعد مركز العمليات الإنسانية لولايات دارفور الخمس.

ويخوض الطرفان منذ أبريل/ نيسان 2023 حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.

وبوتيرة متسارعة، تتناقص في الفترة الأخيرة مساحات سيطرة "الدعم السريع" لصالح الجيش في أغلب ولايات السودان الـ18.

وتسارعت انتصارات الجيش في ولاية الخرطوم بما شمل السيطرة على القصر الرئاسي، ومقار الوزارات بمحيطه، والمطار، ومقار أمنية وعسكرية.

وفي الولايات الـ17 الأخرى، لم تعد "الدعم السريع" تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب 4 ولايات من أصل 5 بإقليم دارفور (غرب).

مقالات مشابهة

  • الإعلام السوداني والتحديات التي تواجهه في ظل النزاع .. خسائر المؤسسات الاعلامية البشرية والمادية
  • محافظ شمال سيناء الأسبق: حرب الاستنزاف كانت جزءا أساسيا من إعادة بناء الجيش
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • الجيش السوداني يعلن مقتل 60 عنصراً من قوات الدعم السريع في الفاشر
  • مساعد وزير الدفاع الأسبق يسرد كيف أعاد الجيش بناء نفسه بعد 1976
  • بالفيديو.. شاهد الدمار الذي أحدثه اللواء “طلال” على برج المليشيا بالخرطوم في الساعات الأولى من الحرب بقرار انفرادي وشجاع منه نجح في قلب الموازين وحسم المعركة لصالح الجيش
  • مساعد البرهان يبلغ مبعوث للامم المتحدة شروط توقف الحرب ضد الدعم السريع
  • الجيش السوداني: مقتل 60 عنصرا من "الدعم السريع" بهجوم على الفاشر  
  • الحرس الثوري الإيراني والدعم السريع نفس الملامح والشبه
  • دارفور التي سيحررها أبناء الشعب السوداني من الجيش والبراءون والدراعة ستكون (..)