الشيخ ياسر السيد مدين يكتب.. كيف وصلتنا السُّنة؟ (3)
تاريخ النشر: 18th, April 2024 GMT
كان من المنتظر أن نبدأ فى عرض بيان كيفية انتقال السنَّة إلينا منذ عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رأيت قبل البدء فى هذا أن أعرض شيئاً من تطور أمر التدوين منذ العهد النبوى الشريف تمهيداً للحديث عن السنَّة المطهرة.
ومعروف أن القرآن الكريم بدأت كتابته فى العهد النبوى بما يُؤمَن معه ما قد يعرض للمكتوبات من محو أو تآكل أو تأثّر، مع حفظه فى موضع خاصٍّ، وقد كان هذا بإشارة من الوحى الكريم الذى نزل واصفاً القرآن الكريم بأنه كتاب وبأنه صحف من باب المجاز باعتبار ما سيكون إشارةً إلى ضرورةِ أن يصير كذلك بأيدى المسلمين، قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وقال سبحانه: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً}.
وقد كان الصحابة يدونون ما ينزل لأنفسهم، وفى قصة إسلام سيدنا عمر رضى الله عنه أنه آيات مدونة فى صحيفة مع أخته رضى الله عنها، وكانت الكتابة تتم عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيدُنا ابن عباس رضى الله عنهما: كانت المصاحف لا تُباع، كان الرجل يأتى بورقة عند النبى صلى الله عليه وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب، ثم يقوم آخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف.
وقد زاد الاهتمام بالعلم والتدوين فى عهده صلى الله عليه وسلم، وقد رُوى عن عدد من الصحابة عبارة «قيدوا العلم بالكتاب»، وبعضهم يرويها عنه صلى الله عليه وسلم، بل قال سيدنا أنس رضى الله عنه: كُنّا لا نَعدُّ عِلمَ من لم يكتب عِلمَه علماً، وهذه العبارة واضحة الدلالة فى اعتناء الصحابة بتدوين العلم، ولذا نجد الاعتناء بإنشاء كتاتيب للعلم، يقول سيدنا عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: «قرأتُ من فِى [فم] رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت له ذؤابة فى الكُتَّاب»، كما أنه صلى الله عليه وسلم اهتم بتعليم الكبار أيضاً، يقول سيدنا عبادة بن الصامت رضى الله عنه: علّمتُ ناساً من أهل الصُّفّة الكتابةَ والقرآن.
وبدأ فى عصره صلى الله عليه وسلم الصورة الأولى للديوان بفروعه المختلفة، فهناك ديوان خاص بالجنود، وفى صحيح البخارى أن رجلاً جاء يستأذنه صلى الله عليه وسلم فى أنْ يُرافقَ زوجتَه فى الحجَّ بعد أن تم تسجيل اسمه فى جيش سيخرج، وهذا واضح الدلالة فى وضع نظام دقيق لتسجيل الجند.
كما كان هناك كُتَّابٌ لمراسلات الملوك، وقد أَرسَى صلى الله عليه وسلم برسائله آداباً صارت معروفة متبعة فى المراسلات من حيث ما تُصدّرُ به الرسالة، وفى البدءِ بذكْرِ المرسَل إليهِ أو المرسِل، وفى طريقةِ الانتقالِ من موضوعٍ لآخر، وفى ختم الرسالة، وغير هذا.
وقد كان له صلى الله عليه وسلم عدد من الكُتّاب المتخصصين، فمنهم من يكتب للملوك، ومنهم من يكتب المعاهدات، ومنهم من يكتب المداينات والعقود، ومنهم من يكتب الغنائم، ومنهم من يكتب فى الحوائج العامة، ومنهم مَن ينوبُ عمَّن غاب عن عمله من الكُتّاب. كما كان فيهم من تخصص فى الترجمة.
وبدأ فى عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جمع العلم والأدب فقد كتبَ سيدُنا عمر رضى الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو عامله على الكوفة أنِ ادعُ مَن قِبَلك من الشعراء، فاستنشدهم ما قالوا من الشعر فى الجاهلية والإسلام، ثم اكتبْ بذلك إلىَّ.
بل كان لبعض الصحابة مصنفات، يقول موسى بن عقبة: وَضعَ عندنا كُريْب حِملَ بعيرٍ مِن كُتبِ ابنِ عبّاس، وسوف نذكر شيئاً من هذا فى المقال القادم إن شاء الله تعالى.
وكذلك انتشر التصنيف فيمن بعدهم فكان لعبيدة السلمانى (ت 72هـ) كتبٌ محاها قبل موته وقال: «أخشى أن يليَها قوم يضعونها غير موضعها»، وكتب عروة بن الزبير (ت 93 هـ) فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان له كتب كثيرة أبيدت فى وقعة الحَرَّة وكان يتحسر على ذلك، وكذلك كتب أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ) كتاباً فى السيرة النبويّة، وكان للحسن البصرى (ت 110هـ) كتب يتعهد النظر فيها، وكان لزيد بن أسلم (ت 136 هـ) كتاب فى التفسير، بل كانوا يرون أن من شرط العالم كتابة العلم، يقول معاوية بن قرة (ت 113 هـ): «من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالماً»، بل كثر التدوين والتصنيف حتى إن أبا عمرو بن العلاء (ت 154هـ) -وهو أحد القراء السبعة وأحد أئمة اللغة والأدب- كتب عن العرب الفصحاء كتباً ملأت بيتاً له إلى قريبٍ من السقف.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: القرآن الكريم و ي ع ل م ه م ال ك ت اب و ال ح ك م ة رسول الله صلى الله علیه وسلم له صلى الله علیه وسلم رضى الله عنه ومنهم م
إقرأ أيضاً:
العطاء المبرور
د. سليمان بن خليفة المعمري
يقال إنَّ العطاء هو أقصر الطرق لحصول المرء على السعادة والرضا النفسي، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" (رواه البخاري)، وقد حضَّ الإسلام أتباعه على العطاء والإنفاق الحسن يقول الله عز وجل "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا" (المزمل: 20).
الآية الكريمة تؤكد على أنّ الأجر العظيم والخير العميم إنما هو فيما يسديه الإنسان من عطاء ومعروف وإحسان للآخرين، وأنّ ما يقدمه من زكاة وصدقات هو في حقيقته يقدمه لنفسه ويدخره لآخرته عند رب كريم لا تضيع عنده الودائع؛ بل يجازي المحسنين بالإحسان إحسانا ويكافئ بالمعروف أجرا كبيرا وغفرانا.
ولقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة لأتباع هذا الدين الحنيف ينفق في سبيل الله إنفاق من لا يخشى الفقر، وكان صلى الله عليه وسلم مثالا في الجود والكرم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة"، وقد تربى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الخلق النبيل واعتادوا هذا النهج الكريم فكانوا يسارعون في الخيرات وينفقون أموالهم في وجوه البر سرا وجهرا، فها هو الصديق رضي الله عنه ينفق جميع أمواله لتجهيز جيش المسلمين لغزوة تبوك، ويتبرع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، ويضرب الصحابي الجليل عثمان بن عفان المثل والأسوة في البذل والسخاء فقد "جاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بألفِ دينارٍ في كُمِّه –حينَ جهز جيشَ العسرةِ– فنثَرها في حِجرِه، فرأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقلِّبُها في حِجرِه، ويقولُ: ما ضَرَّ عثمانَ ما عمِل بعدَ اليَومِ، مرتينِ"( رواه الترمذي).
وقد سار المسلمون على هذه السيرة الحسنة فتصدقوا بفضول أموالهم وأوقفوا الكثير من الأوقاف في وجوه الخير، وأعانوا كل محتاج ووقفوا مع كل مغرم أو معوز مستلهمين الوصايا الربانية الكريمة في هذا الشأن ومستحضرين عقبى ما يقدمونه من عون إنساني مستذكرين حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(أخرجه مسلم)، والواقع أنّ انتشار ثقافة العطاء في المجتمع وسيادة روح التعاون بين أفراده من شأنه أن يسهم في رفاهية وخير المجتمع، فبالإضافة إلى ما يحصده المعطي من بركة ونماء في حاله وماله جزاء ما يقدمه من صدقات وتبرعات فإنّ العطاء يذهب السخائم من قلوب الفقراء والمعدمين تجاه الأغنياء والموسرين ويزرع المحبة والألفة بين أفراد المجتمع المسلم، ويسهم في تجاوز تحديات وصعوبات الحياة والوصول إلى الاستقرار المنشود.
إلا إنّه وحتى يكون العطاء مبرورا مشكورا محققا لمقاصده النبيلة وأهدافه وغاياته الإنسانية السامية فإنه يجب أن يخلو من كل ما من شأنه المس بكرامة الإنسان واهدار ماء وجهه أو الإساءة إليه عبر ما قد يمارسه البعض من تصوير ونشر وابتذال عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينما يقدمون أية معونة أو مساعدة لمتضرر أو محتاج، مما قد يجرح مشاعره ويؤذي نفسيته، فيصبح عطاءً مقرونا بالمن والأذى وصدق الله العظيم حيث قال في محكم كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "( البقرة، 264)، فعلى المتصدق أو المعطي أن يحترم آدمية الإنسان الذي يتصدق عليه وأن يعلم أن ما يعطيه له من مال إنما هو من مال الله الذي استخلفه فيه وأنه هو أحوج لأجر العطاء والصدقة من الشخص المتصدق عليه، وعليه أن ينفق برضا نفس وطيب خاطر وأن يتوخى كل ما من شأنه احباط العمل وذهاب أجر العطاء، ولله در الشاعر حين قال:
إن التصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا
أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتهُمْ بانوا
داوي عَليْلكَ بالمِسْكين ِتطعِمُهُ
البَذلُ يُنجيكَ مِنْ سُقم ٍ وَنِيرانُ
يا مُنفِقا ً خلفا ً أُعْطِيتَ مَنزِلة ً
يا مُمْسِكا ًتلفا ًتلقى وَخُسْرانُ
لا تخذِلنَّ لآتٍ رادَ مَسْألة ً
جَلَّ الذي ساقهُ كافاكَ إحْسانُ