راشد بن حميد الراشدي
تصادف في هذه الحياة إخوة لم تلدهم أمك هم كالنجوم في بريقهم وعليائهم، مخلصون في عملهم لله ولإخوانهم في كل ما استطاعوا إليه سبيلا، تجدهم في تعاملهم وسيرهم بين الناس سِيراً بيضاء ساطعة يظللون عليك بدماثة أخلاقهم وابتسامتهم التي لا تفارق وجوههم الجميله بظلال الخير، فتزداد قربا منهم وتزدان بهاءً لإشراقة محياهم؛ فهم نفوس زاكية اختصها الله بفضله ليسعد من حولهم بقربهم منهم وتقديرهم له.
الأوفياء يرحلون بأمر ربهم ولكن تبقى ذكراهم عطرة تفوح بأريج شذى رياحين الحياة ما بقيت قلوب الناس المحبة لهم فرحمة الله واسعة تغشى عباده المؤمنين وتدخلهم جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
بالامس القريب رحل عنا الدكتور طاهر طبيب الأمراض الباطنية في مستشفى سناو، رحل ولم نودعه لوجوده في بلده جمهورية مصر العربية؛ حيث كان يقضي بين أهله وذويه إجازته السنوية.
رحل في حادثة أليمة حمل فيها خبر موته صدمة لمحبيه، فالكل هنا يذكره بأفعال الخير ولا اعتراض على أقدار الله في عباده؛ فالحياة بأسرها فانية والموت هو نهاية كل حي.
رحل وقلوب محبيه تستذكر مواقفه الطيبة رجالا ونساءً وهو يتفانى في خدمة مرضاه بابتسامة عريضة.. رحل وأركان مسجد مستشفى سناو تفتقد أحد عُمارها لسنوات مضت من أعمارنا.. رحل وخلف من ورائه ذكرى طيبة ستبقى في قلب كل من تعامل معه بحسن خلق.
كنت قريبا منه ولسنوات أتواصل معه إذا أردتُ استشارة طبية، فكان ملبيًا لجميع استفساراتي ليلًا أو نهارًا بصدر رحب، وهذا ديدنه ومنهاجه في تعامله مع جميع الإخوة.
اليوم تفتقد ولاية سناو أخًا للجميع ارتقى إلى جوار ربه وندعو الله له بالمغفرة وجنات الخلد، وأن يتقبله الله مع الصالحين من عباده، وندعو لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات بالعفو والعافية؛ فهكذا يرحل الاوفياء بذكراهم العطرة التي تفتقدها قلوب محبيهم فرحمة الله تغشى عباده الصالحين.
"وإنا لله وإنا إليه راجعون".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تناقضات الحياة في عمان خلال القرن العاشر الهجري
تناقضات الحياة في عُمان خلال القرن العاشر الهجري، واضحة لمن يقرأ التاريخ، القرن العاشر الهجري تحديدًا دون غيره، قرن الحَرْب والسِّلم في عُمان، وقرن الإعمار والدَّمار في آن، بداية عصر الاحتلال البرتغالي، واشتعال فتيل إبادته لمدن الساحل الشرقي العُماني، وتدميره لمرتكزات الحياة فيها وتشويه ملامحها؛ البيوت، والمساجد، والموانئ، وحرق السفن، وسفك دماء الناس، ضربها «البوكيرك» بإعصاره المدمِّر، القادم بعنصريَّته من البرتغال، حيث نكب المدن البحرية وحوَّلها إلى خراب، خلال عامين متتاليين؛ (1507- 1508م)، نسجت خلالهما عناكب الحزن في القلوب أعشاشًا، عامان من الطغيان والفجور، في القتل والسَّلب والنهب والحرق، بتوحُّش شرس وبلا هوادة، وكأنَّ البشر الذين جَدَعَ أنوفهم وقطع آذانهم، وسفك دمائهم قتلًا بعد تعذيب، ليسوا إلا كائنات لا قيمة لها في الحياة، فالطاغي لا يرى إلا نفسه، والطغيان لا يسمح بإعمار الأرض، لأن مشروعه قائم على التدمير والإبادة، من أجل وَهْم أنه الأقوى.
يقابل ذلك، في الفترة ذاتها من الزَّمن، سِلْم شاع في مدن الداخل، أرض الجوف العُماني الأخضر، في نزوى وما جاورها من مدن وقرى، رَخاء وسَخاء أضاف للحياة معاني جديدة، وبدأت الحياة تتفتح كزهرة في رماد، وبالأخص في زمن الإمام محمد بن إسماعيل بن عبدالله الحاضري (حكم: 906-942هـ)، فشاع في عهده الأمان، وانتعش الاقتصاد، وساد الرَّخاء، وعكست طمأنينة الحياة ظهور فن الزخرفة المحرابيَّة، وكانت مساجد «حجرة حصن البلاد» بمنح، على مقربة من الفنان المبدع عبدالله بن قاسم بن محمد الهميمي المنحي، بعد فترة انقطاع طويلة لفن زخرفة المحاريب بلغت قرنين ونصف، واصلة هذه التجربة الهميمية الجديدة، بالجذور الأولى للتجربة السُّعالية، الضاربة بجذورها في منتصف القرن السابع الهجري: (650هـ)، وهو العام الذي شهد زخرفة محراب «جامع سعال» بنزوى، أقدم زخرفة محرابية في المساجد العمانية، وما تزال تلك اللوحة الفنية معلقة في محراب الجامع الأثري الفخم، وبدخول القرن العاشر الهجري على الحياة، ظهر «ابن القاسم الهُميمي» في الوجود الإنساني، وبدأ بزخرفة محراب مسجد «العالي» 909هـ، تلاه محراب مسجد «العين» 911هـ، ثم محراب مسجد «الشَّرَاة» 922هـ، وفي هذا التوقيت كانت المدن البحرية في عمان تلبس ثوب الحداد، على ما فعلته حملة البوكيرك بها، بقيت آثار سواده في سويداء القلوب المكلومة.
في تلك الفترة كان الإمام محمد بن إسماعيل الحاضري، يوطِّد الأمن في المجتمع العماني، ويوزع الرَّخاء فاكهة بين الناس في المدن الداخلية، بعد انتصاره على السلطان النبهاني سليمان بن سليمان وابنه المظفر، في حرب ضروس دارت رحاها عام 909هـ/ 1503م، ليصبح الحاضري إمامًا على عمان، لكن كتب التاريخ لم تؤرخ أنه قام بدور في مواجهة الغزو البرتغالي، لربما كانت الحياة في الداخل العماني شبه معزولة عما يحدث في المدن الساحلية، وربما لم يكن لدى الإمام من العَتَاد ما يستطيع به مواجهة سفن الاحتلال العملاقة.
وما إن شارف نصف القرن العاشر الهجري على الانتهاء، حتى توفي الإمام ابن إسماعيل الحاضري، طاويًا 35 عامًا من حياة الدعة والاستقرار، فخلفه ابنه بركات بن محمد (حكم: 942-964هـ)، وفي عهده بدأت الحياة السياسية في الاضطراب من جديد، وتم تنصيب مجموعة من الأئمة على عمان الداخل، لم يبقوا في الحكم طويلًا، بعضهم لم يتجاوز العام.
مع ذلك، لم تتوقف حركة الزخرفة على المحاريب الجصية خلال تلك الفترة، بل بلغت أوجها في هذا القرن، بإنجاز أكثر من ستة عشر محرابًا، ما تزال باقية إلى اليوم، وبالأحرى ما تبقى من ذلك العمل الفني إلى اليوم، وبعد الفنان ابن القاسم الهميمي الذي ظهر في بداية القرن في منح، تبعه مجموعة من الفنانين المزخرفين، من بينهم مشمل بن عمر بن محمد المَنَحي، الذي قام بزخرفة محراب مسجدي «الغريض»، و«المُكبَّر» في نخل، أنجزهما في عام (923هـ)، وجاء من بعده ابنه طالب بن مشمل، وحفيده علي بن طالب بن مشمل، وعيسى بن عبد الله بن يوسف، وغيرهم، ما تزال إبداعاتهم الفنية باقية بآثارها إلى اليوم، في منح ونزوى وبهلا وأدم، وإزكي وسمائل ونخل، والرستاق ووادي بني خالد وغيرها، تذكِّر بتلك الأمَّة المبدعة.
وفي الثمانينات من القرن العاشر الهجري، بسط النفوذ البرتغالي في البلاد، وقويت شوكته أكثر، وتمركز في مدينتي «مطرح» و«مسقط»، فبنى قلعة مطرح عام (987هـ/ 1578م)، وفي مسقط قلعتي الجلالي (997هـ/ 1588م)، والميراني (998هـ/ 1589م)، فوق رؤوس جبلية شديدة الصَّلابة، فبدت الحصون أشبه بتماثيل حجرية عملاقة مفزعة، تطل برؤوسها من بعيد، إذ لم يعتد العمانيون في مدن الساحل، على مثل هذه القلاع الكبيرة، وبقي «البُعبُع» البرتغالي مسيطرًا بطغيانه على هذه المنافذ البحرية، واضعًا من تبقى على قيد الحياة من أهالي المدن، في حالة أشبه بالإقامة القهرية، حتى تمكنت الوحدة العُمانية في «قرن اليعاربة» من جلائهم من البلاد.
وإن كانت هذه الشوامخ في حينها، تحدِّث عن قوة الاحتلال، وهيمنته على المنافذ البحرية، إلا أنها أصبحت بعد ذلك رمزًا لصمود الإنسان العماني على الاضطهاد، ومقاومة الاحتلال، والتعايش الإيجابي مع الحياة، وما تزال هذه الشوامخ تحدِّث عن تاريخ انطوت صفحاته وأسراره، وفي مقطع متداول نشرته صفحة «تاريخ عمان» على منصة إكس، يتحدث عن اكتشاف ثمانية مدافع كبيرة، دفنها البرتغاليون في أسفل قلعة «الميراني»، بعد إحساسهم بالهزيمة أمام جيش الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي (حكم: 1649- 1679م)، حتى لا يستفيد منها العمانيون، فبقيت مدفونة قرابة أربعة قرون، ولعل الأيام تكشف عن خزائن أخرى لإرث الحروب، التي خاضها العمانيون مع الاحتلال، مدفونة تحت الأرض، وغارقة في الساحل الممتد من «رأس الحد» إلى «رأس مسندم»، وفي الزوايا خبايا كثيرة، فالبرتغاليون لم يأخذوا معهم عتادهم الثقيل من الأسلحة، بعد جلائهم من مسقط ومطرح عام 1650م، وبقيت المدافع خبيئة سرية في زاوية أرْضيَّة من المكان بقلعة «الميراني»، وقد رأيت بعضًا من تلك القلاع البرتغالية في قلعة «الحزم» بالرُّستاق.
وبلا شك أن بناء البرتغاليين، لقلاع «مطرح» و«الجلالي» و«الميراني»، في رؤوس الجبال، ألهم أئمة اليعاربة فكرة تشييد مثل هذه الصروح، في المدن والحواضر العمانية، أو المدن الواقعة تحت سيطرة حكمهم آنذاك الوقت، وتأكد لهم أهميتها في توطيد الحكم وحراسة الوطن، فالعبقرية تستفيد من تجارب الآخرين وخبراتهم، وتحوِّل المِحنة المؤلمة إلى منحة عظيمة.
وشهد قرن تناقضات الحياة في عمان، نموًا في الحركة العلمية، نبغت فيها أسر علمية، من بينها أسرة «آل وضَّاح» في منح، ومنهم محمد بن أبي الحسن بن وضاح المنحي، وصالح بن وضَّاح المنحي، وأسرة «آل مَدَّاد» في ونزوى، كالشيخ مداد بن عبدالله بن مداد الناعبي، وأسرة «آل زياد» في بهلا، من بينهم عمر بن زياد بن أحمد البهلوي الشقصي (ت: 950هـ)، وابنه عبدالله بن عمر بن زياد (حي إلى عام 983هـ)، وعمر بن سعيد بن معد البهلوي (ت: 1009هـ)، صاحب كتاب «منهاج العدل»، وأسرة «آل عميرة» في الرستاق، كالطبيب الرستاقي راشد بن عميرة الهاشمي، صاحب كتاب «فاكهة ابن السبيل»، وغيرهم، هذه الأسماء لم تكن عابرة في الحياة، فقد كان لها تأثيرها في الحراك الثقافي في المجتمع وتركت مؤلفات في الفقه والأدب والطب، وبعضهم من الصفوة المختارة من أهل «الحل والعقد»، أشبه بمجلس الدولة اليوم، حتى أن أحمد بن مدَّاد تبرَّأ من الإمام بركات، فعزله عن الإمامة، ولم يشفع له إسهامه في شق فلج «الميتا» ببهلا سنة 950هـ، أن يسلم من العزل، وأسهم أولئك الفقهاء في تطوير حركة النسخ، وازداد عدد نسَّاخ المخطوطات، تحتفظ بها خزائن العلم في عُمان.