تكاد الحرية فى فقه الاصطلاح الصوفى أن تكون أعلى مراتب الولاية تحقيقاً؛ وهى ألا يكون العبد بقلبه تحت رق شىء من المخلوقات، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة؛ فإنَّ الاسترقاق لشىء دون الله قادحٌ على الجملة، فضلاً عن التفصيل فى الولاية عموماً، فضلاً عن قدحه على التعميم فى العبوديّة وفى الدين.
والرجل الذى يملك الشجاعة ويستوفيها إلى غايتها مع قوة التبتل وقدرة التوجه إلى الملأ الأعلى، ويملك الزهادة فى الدنيا فلا يبالى نعيمها بل يستخف به، ويعرف الحقيقة الدينية معرفة الباحث المنقب المتحقق؛ لهو هو الرجل الذى يخاطب الدنيا خطاب المتعالى عنها العارف بحقيقتها ومصيرها، المتحرر غاية التحرر من آفاتها وغرورها فيقول مع الاستخفاف بها بمثل ما قال (رَبَّانيُّ الأمة): «يا دنيا غُرى غيرى.
وهو بلا شك خطاب الذى امتلك الحرية فى أوسع آفاقها وأكمل معطياتها، فلم يعد هنالك شىء ما يسترقه من مطالبها إلا أن تكون مطالب الحق الذى يعرفه بقلبه، فيمضى على لسانه ويجريه واقعاً فى الحياة قابلاً للتنفيذ الفعلى: شجاعة لا تبالى الحياة، وزهادة لا تخشى النعيم، وجراءة على الدنيا من طالب الحقيقة الكبرى؛ لتكون مبلغه إلى الغاية التى من ورائها.
فهى إذن لن تغرَّه فى شىء ولن يغرَّه منها شىء، وقد غرَّت حوله كل إنسان فى زمن تدفقت فيه الأموال من الأمصار على نحو لم تعهده الجزيرة العربية قط فى تاريخها، وأقبل الناس على الدنيا العريضة، بل هرولوا إليها، وإذا بخليفة عرف الحقيقة، وملك الشجاعة كما ملك الزهادة، ودانَ للحرية الأسمى كما دانت له الحرية كأرقى ما تدين لإنسان، يصدُّهم عنها كما يصد الطوفان وهو مندفع من وراء السدود، أو يصد الطبيعة الإنسانية وهى منطلقة من عقال التقوى، فهو مستشهد لا محالة ولو مات على سريره؛ فإنّ الإنسان قد يعيش عيشة الشهداء، ولا يلزم بعد ذلك أن يموت ميتة الشهداء كما قال العقاد، طيَّب الله ثراه، فى عبقريّة الإمام.
روحُ التصوف وعمق التبتل فى الإمام عليّ رضوان الله عليه، خصالٌ بادية فى جلاء، لا تخطئها النظرة العابرة، بمجرَّد أن تقرأ كلامه فى نهج البلاغة أو تنظر أوصافه كما جاءت على ألسنة أحبابه وصفاً لأعدائه؛ فقد دخل أحد تلاميذه الذين أخذوا العبادة عنه وأحبوه باعتباره عابد المسلمين الأول، وساروا على طريقته، دخل على معاوية فيطلب منه أن يصف علياً فيقول التلميذ لمعاوية فى أجمل وصف لأجمل عابد زاهد: (كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّرُ العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته. كان والله عزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفَّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جَشب. كان والله كأحدنا يُدْنِينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرَّبُه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإنْ تبسم؛ فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوى فى باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأشهد بالله، لقد رأيته فى بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل فى محرابه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين؛ فكأننى أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرّعُ إليه، ثم يقول للدنيا: إليّ تغرَّرتِ، إليّ تشوّقتِ، هيهات هيهات، غُرى غيرى، قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير ومجلسك حقير). هذا وصف لربَّانى الأمة الأمام عليّ، وتلك بعض أوصافه التى لا تخرج عن وصف حقيقى للزاهد الإسلامى المتقلب فى القرآن الكريم يعيش فيه ويرى الدنيا من خلاله.
وما من عجب؛ فإنَّ الذى تحرَّر من عبادة السِّوى وتحقق من الحرية، وهى أعلى مقامات الولاية، لهو الذى تتلمذ لربِّه وعاش القرآن وتقلب فيه، وتربى فى حجر نبيه ليصبح إماماً للأولياء من بعده، وإماماً لكل من لم تغرّه الدنيا بغرورها وإنْ غرت غيره. ولم تكن للولاية علامة وهو أمام الأولياء وربانيُّ الأمة غير هذا التحرر من عبادة السَّوى وقد بلغ فيه الاعتماد على وحى البصيرة الهادية، كما بلغ فيه الاجتهاد مبلغه الذى يرجع بالحكمة إلى رياضة النفس على سنة النُّسَّاك وتمحيص الفكر على سنة العلماء الربانيين المستبصرين. (وللحديث بقيَّة)
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم
إقرأ أيضاً:
العم مصطفى بيومى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الشتاء الماضى فى يوم من أيام مارس الأقرب لقلبي، أجلس فى مقر عملى ولكننى منهكة للغاية أنتظر نشرة منتصف الليل فهى آخر مهمة لى فى هذا اليوم المزدحم.. أعد الدقائق على يدى حتى أعود لأستريح فى المنزل فثقل بطنى وآلام ظهرى لم تعد تُحتمل فها أنا حامل فى شهرى السابع ويتبقى فقط شهران حتى أضع مولودى نوح وفى صمت يتخلله الملل إذ بهاتفى يرن والغريب أن الاسم الذى ظهر على الشاشة لم يهاتفنى فى حياته قط.. ترددت ربما أخطأ فى الاتصال أو ربما هناك عاجل يريد أن يخبرنى به.. إنه عمى مصطفى بيومى هكذا تعودت أن أناديه فهو فى منزلة أبى.. التقط الهاتف وجاوبت فإذا به متحليًا بكل الرقى والأدب والتهذيب الذى من الممكن أن يتحلى به شخص يسألنى: "شاهندة فاضية أكلمك شوية"؟.. وها أنا متلهفة "طبعًا يا عمو اتفضل" فهذا الرجل الهادئ الذى لا يلتفت إلا نادرًا وقلما يتفاعل سلامه هادئ ابتسامته هادئة كلماته قليلة.. ما الذى جعله يتصل بى فى هذا التوقيت؟.. إنها العاشرة و٤٥ دقيقة مساءً ولكننى ربما نسيت تمامًا إنه اليوم العشرين من مارس فغدًا تحتفل مصر بعيد الأم وها أنا قد نشرت منذ قليل مقالة قديمة على حسابى عبر موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك لأمى الحبيبة وفاجأنى عمو مصطفى بأنه قرأها والمفاجأة الأكبر أنه أُعجب بها إعجابًا شديدًا قائلًا: "شاهندة إنتى مبتكتبيش ليه؟ إنتى بتكتبى حلو أوى على فكرة، يعنى مشروع أديبة" وتابع: "أنا قريت المقال وعجبنى أوى إنك طبيعية ومش مثالية فيه.. عبرتى عن حبك لماما ولكن كنتى حقيقية وأجبرتينى أكمل المقالة.. أسلوبك جميل وسلس وسافرتى بيا عبر المكان والزمان، أرجوكى متكسليش واكتبى روايتك ولو محتاجة أساعدك فى أى حاجة أنا موجود".. لا أخفى عليكم شعورى فى هذا اليوم وأنا استمع إلى هذه الكلمات من أديب عظيم وكاتب وروائى كبير كل ما كنت أردده فى هذه المكالمة أنه لشرف كبير حصلت عليه فى هذا اليوم فهذه شهادة ستظل عالقة فى ذهنى متى حييت.. تحول يومى البائس هذا إلى واحد من أسعد أيام حياتى، فيكفى أن أخبركم بهذا السر الذى سيصف لكم مدى فخرى واعتزازى بهذ الاتصال فبعد أن انتهت المكالمة أخذت صورة من سجل الهاتف فمازلت لا أصدق أن الأديب الكبير مصطفى بيومى حادثنى أنا بسنى الصغير وتاريخى البسيط ليبلغنى بهذه الكلمات العظيمة وبعدها هاتفتُ أبى وأرسلت له رسالة مازلت احتفظ بها حتى الآن أبلغته فيها كم أنا فرحة وسعيدة بكلمات العم لى فما كان منه إلا أن قال لى "إنتى عظيمة"..
فطالما سمعت من أبى عن ذكرياته مع أصدقائه القدامى وتحديدًا العم مصطفى بيومى هذا الرجل الذى ينحدر من أسرة صعيدية برجوازية يعشق القراءة والكتابة والأدب والشعر.. هذا الجيل الذى ظل يحتفظ بصداقة امتدت نحو نصف قرن من الزمان جمعتهم السياسة والثقافة والفنون بكل ألوانها ولكن ما أثرى هذا الصداقة هو الأصل الطيب لهؤلاء الذين وُلدوا وترعرعوا على ضفاف نيل صعيد مصر الذى لطالما صنع الرجال وصدر المواهب الفذة.
اليوم رحل عمو مصطفى بيومى كما اعتدت أن أناديه.. رحل عن عالمنا واحد من أنبل وأعظم وأكبر الأدباء المصريين.. ما يحزننى أننا لم نجلس سويًا لنتناقش حول روايتى وأنه لن يحضر توقيعها ولن يشهد على إصدارها ولكننى أعدك عمو مصطفى أن اليوم الذى ستصدر فيه روايتى سأهديها لروحك العظيمة والجميلة.. السلام أمانة لكل الأحبة ولروحك السلام.