وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الخامسة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023

مذكرات رسامة نازحة قسريا إلى عنبر الولادة القيصرية أمية جحا كاتبة ورسامة كاريكاتير عاد القصف العميق والقريب على شكل أحزمةٍ ناريةٍ في الثامنة صباحا. اعتاد النازحون هذه الأصوات، مع طول أيام الحرب. ولكنها باتت أكثر شراسةً من ذي قبل، فالهجوم لم يقتصر على الجو فحسب، لا بل أصبح اليوم من البر والبحر أيضا.

ما يخيف النازحين هنا، هو جرأة الاحتلال على تعمد القصف العنيف قرب المستشفيات، من أجل ترهيبهم، والإذعان لتهديداتهم المتكررة، بضرورة إخلاء المستشفيات من النازحين، لا بل والمرضى والأطباء أيضا.

انضمت سارة اليوم مع أخيها الصغير إلى أقارب لها من النازحين. كان من المفترض في نهاية هذا العام الدراسي، أن تختتم دراسة طب الأسنان، ومن ثم تمارس مهنتها.

تضع سارة عصابةً حول رقبتها، ترفع بها يدها اليمنى، يبدو أنها تعرضت لحادث ما، بينما تضع دبلةً ذهبيةً في إصبع يدها اليسرى، مما يشي بكونها مخطوبة. جلست تقرأ القرآن بخشوع، وبصمتٍ عميقٍ، كانت لا تشارك أحدا أحاديثهم.

وقلّما تجد ابتسامةً ترتسم على شفتيها. تبيّن لي فيما بعد، أنّها تعرضت وعائلتها لقصف صاروخي، فاستشهدت أمها مع أخواتها الأربع، ولم يتبق إلا هي، التي أصيبت إصابة طفيفة بيدها اليمنى، وتبقى أخوها محمد ووالدهما سالمين. سارة ليست مخطوبة، فالدبلة التي في إصبعها، هي دبلة أمها الشهيدة.

سريرٌ متحركٌ مرّ سريعا بين النازحين، الذين أسرعوا بالانزواء بعيدا عن سيره، كان يحمل امرأة أجهضت للتو، بعد تعرض بيتها للقصف، وتعرضها للإصابة. كانت أمها تبكي بكاءً مرا، قالت إنّ ابنتها في شهرها الثامن، وهذا أول حملٍ لها بعد انتظار دام 7 سنوات. أما أم البراء، فهي سيدةٌ في أول العقد الرابع من عمرها، موظفةٌ في وزارة الأوقاف.

كانت من أوائل النازحين إلى المستشفى، بعد تهديد بيتها وبيوت بعض جيرانها بالقصف. آثرت أم البراء أن تجعل في مكوثها رسالة دعوةٍ إلى الله أيضا، فتقوم بإعطاء المحاضرات الدينية القصيرة، يتجمع حولها النازحون، ويستمعون لها باهتمام.

أم البراء تحمل حسا فكاهيا أيضا، قالت لي: "اليوم يبلغ زمن مكوثي هنا 21 يوما، لو كان تحتي بيضٌ، لكان حولي الآن صيصاني".. (واستشهد زوج أم البراء لاحقا بعد شهرين من هذا اليوم).

من المواقف الطريفة في أجواء الحرب، أن تجد نازحين في إحدى المدارس، أو المستشفيات الأخرى، يقومون بزيارة أقارب لهم في أماكن نزوح أخرى قريبة. جاءت اليوم مجموعة من مدرسة صلاح الدين الإعدادية، لأقارب لهم في مستشفى الشفاء. إنهم يغامرون بسلامة أنفسهم، كي يخرجوا من السجن القسري الذي لا يطاق.

سئمتُ المكوث جالسةً على الأرض، بل توجعت من ذلك أشد الوجع، لم أجلس على كرسي منذ أسبوع. آثرت النزول إلى الساحة الخارجية للمستشفى. حتى درجات المصعد، كانت تعج بالنازحين، والأغطية والملابس معلقة على الدربزين. مما يجعل الرائحة لا تُطاق. لا بل حتى المصاعد الكهربية، التي تعطلت عن الحركة، بسبب قطع الاحتلال للكهرباء، تحولت بدورها إلى ملاجئ صغيرة.

النازحون في الساحة الخارجية يزدادون، وهامش القدرة على المشي والتنقل، بات أمرا في غاية الصعوبة. الطريف أن عدة حلاقين وجدوا رزقهم في هذا المكان. بضعف الأجر الذي كانوا يتقاضونه قبل الحرب. يقصون شعر الكبار والصغار من الذكور. يلجأ النازحون لذلك، خشية انتشار القمل والصئبان، في ظل ندرة الماء، وصعوبة توفر الحمامات.

قطةٌ رماديةٌ بفروٍ غزير، كانت بيد صبي، لفتت انتباهي. تذكرت بألم شديد قطتي المدللة "توتة"، التي بقيت في بيتي الذي تهدم. طلبت منه أن أحملها، فوافق. ربتُّ على شعرها الغزير، بكل الشوق والحنان الذي كنت أعطيه لقطتي، ثم أعدتها إليه، وقلت له: لا تفرِّط بها أبدا.

باعة الملابس في داخل المستشفى، يبيعون الملابس الشتوية. هم نازحون أيضا مع بضاعتهم. الجو لا يزال حارا نهارا، وحتى أول المساء، ولكنه يزداد برودةً ما بعد منتصف الليل، وحتى تباشير الصباح. نيران ودخان القصف والتدمير على مدار الساعة، وازدحام النازحين وتكدسهم، زاد الجو حرارة وتلوثا.

أوصتني إحدى السيدات، بشراء منديل لها إن وجدت مع الباعة. النساء في العنبر، يبقين طوال اليوم، ليلا ونهارا، وغطاء الرأس لا يفارق رؤوسهن، مما يزيد شعورهن بالحر والحنق، وقصر البال في تحمل الآخرين، بل وفي تحمل صغارهن.

عدتُ للعنبر وأنا أبتسم بمرارةٍ ساخرةٍ من عودتي إلى نفس المكان الذي بتُّ أمقته. اعتقدت النساء أنّي أحمل أخبارا سارّة. ألقيتُ الكيس الذي بيدي إلى السيدة، وقلت ساخرةً:" أنا لا أحمل إلا المنديل".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات أم البراء

إقرأ أيضاً:

رأي.. بارعة الأحمر تكتب: لا معجزات في لبنان إلا باستكمال الانقلاب الأبيض

هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

لا يتوقع اللبنانيون المعجزات أو الحلول السريعة لأزَماتهم لأنَ تحدّيات وقف انهيار الدولة وإعادة بناء المؤسسات، ضخمة ومتشعبة. إلا أن أسبابا واقعية تحملهم على التفاؤل اليوم، مع انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسا للجمهورية.

ذلك أن نجاح عملية الانتخاب، أولا، اخترق الجمود السياسي وأنهى الفوضى الدستورية السائدة منذ سنوات. وثانيا أن شخصية الرئيس الجديد وما يمثله، إضافة الى باقة العهود التي قطعها للبنانيين، تطلق نهجا جديدا في قيادة الدولة. وأهمها حصر السلاح بالقوات المسلحة اللبنانية واستعادة هيبة القضاء واستقلاليته ومعالجةِ تداعياتِ الانهيار المالي، التي تحاول الحكومة الحالية إلقاء تبعاته على الشعب اللبناني من خلال حماية المرتكبين من المسؤولين المصرفيين والسياسيين.  

أول الغيث كان الاستجابة الإيجابية للأسواق المالية، حيث ارتفعت قيمة سندات اليورو التابعة للحكومة اللبنانية، قبيل جلسة الانتخاب بساعات. فهو رئيس يتمتع بدعمٍ عربي ودولي واسع، من دول أبدت استعدادها لتمويل إعادة الإعمار لما دمرته الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي أعلنتها إيران وحزب الله وكان اللبنانيون وقودا لها.

مشهد انتخاب العماد جوزاف عون وخطاب القسم الرئاسي بدا أقرب إلى "انقلاب أبيض" بعد الزلزال الذي ضرب الواقع السياسي والعسكري في لبنان وسوريا والمنطقة وأدى الى اختلال توازن النفوذ في الإقليم. إلا أن النفق أمام لبنان يبدو مظلما حتى اللحظة. وسيبقى مظلما إن لم يُستكمل هذا الانقلاب كي يشمل السلطة التنفيذية والتشريعية التي تنتمي إلى توازنات ما قبل الزلزال وهي نتاج لمحاور لم تعد قائمة.

الرئيس قرر الدخول في هذا النفق وعدم التأجيل. ألغى الاحتفالات التقليدية في القصر الجمهوري لصالح بدء ورشة العمل، وحدد يوم الاثنين موعدا لاستشارات برلمانية تسمي رئيس/ة الحكومة وتفضي إلى التكليف. علما أن الفقرة الثانية من المادة ٥٣ من الدستور اللبناني جعلت صلاحية تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة من مهام رئيس الجمهورية، على أن "يقف على آراء النواب" ولطالما صدرت اجتهادات دستورية متعددة حول إلزامية الاستشارات بحسب المرحلة والتوازنات السياسية.

هذا بالطبع إن لم تكن رئاسة الحكومة المقبلة محسومة ومدرجة من ضمن الاتفاق، الذي شكل الغطاء العربي والدولي وساهم في انتخاب الرئيس.

فهل تم التوافق على رئاسة الحكومة مسبقا؟ أم أن الرئيس جوزاف عون قادر على تكليف رجل، أو ربما امرأة، لتشكيل حكومة تكون فريق عمل قوي يلبي طموحات اللبنانيين ويترجم خطته الطموحة إلى إنجازات؟

هي محطة حاسمة من شأنها أن تطلق عملية واسعة لإصلاح وتحديث مؤسسات الدولة، أوإن تكون فخا وحقل الغام للرئيس وللبنان، يضاف إليها التحدّي الأساسي وهو تطبيق القرار 1701 لأن الهدنة الهشّة مع إسرائيل تهدد استقرارَ الحدود.

 لا تسريبات جدية حول رئاسة الحكومة أو الفريق. فالرجل متكتم  مذ كان قائدا للجيش. لكنه مدافع عن حرية التعبير، فهو رفض إصدار أمر للعسكر بالانقضاض على المتظاهرين وقمع الاحتجاجات في أواخر عام 2019 وقد كلفه هذا الرفض اتهاما بالخيانة من قبل أركان الحكم في حينه. إلا أنه  قاد مؤسسة الجيش بصمت وهدوء وحزم، وحافظ عليها وسط انهيار تام لباقي مؤسسات الدولة.

وعلى الرغم من التفاؤل الحذر، يسود لبنان جو من الإيجابية حلو المذاق ويشبه طعم الحلم. منذ وقف في البرلمان رئيس شاب صاحب وجه صبوح، إلى جانب وجوه مغلقة ومتجهمة وديكتاتورية ومستبدة وعتيقة، لم تجلب للشعب اللبناني إلا الخيبات والأزمات منذ عقود. وتحاول اليوم البقاء داخل اللعبة  والابتزاز، سعيا للاحتفاظ بشيء من نفوذها المتبقي، بعدما خسرت كل المعارك والرهانات. إلا أن اللبنانيين الغارقين في الخسارات يراهنون على رجل واثق حازم، يفقه سلطة الابتسامة الهادئة للرئيس.  

لبناننشر الاثنين، 13 يناير / كانون الثاني 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2024 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

مقالات مشابهة

  • شاهد بالفيديو والصور| هكذا تمت عملية تطهير منطقة حنكة آل مسعود من “داعش” والأماكن التي كانت تتمترس فيها العناصر التكفيرية وطريقة تعامل رجال الأمن مع الأسرى
  • سوهاج تحتفل بنجاح طلابها في محو أمية 64 ألف مواطن خلال عام
  • جامعة سوهاج: محو أمية أكثر من 156 ألف مواطن من أبناء الصعيد حتى الآن
  • 23 شهيدا في غارات للاحتلال على منازل وخيام النازحين بغزة فجر اليوم
  • هند عصام تكتب: إيخو وناركيسوس
  • منال الشرقاوي تكتب: بدايات ملهمة من عدسة السينما
  • إريتريا ترحل 4 صيادين يمنيين قسرا
  • فنانة مصرية ترد علي خبر بتر ساقها: منكم لله
  • رأي.. بارعة الأحمر تكتب: لا معجزات في لبنان إلا باستكمال الانقلاب الأبيض
  • طرح يوميات صلاح الغزالي حرب بمعرض الكتاب 2025