موقع النيلين:
2025-03-10@18:43:00 GMT

عادل الباز: لماذا أفلح العسكر وخاب المدنيون؟

تاريخ النشر: 18th, April 2024 GMT


لماذا أفلح العسكر وخاب المدنيون؟ (1/2)
عادل الباز
1
حين تتأمل وقائع ما جرى خلال الخمس أعوام التي مضت تستوقفك أشياء كثيرة وعجيبة لم يكن تخيلها ممكنا قبل التغيير الذي جرى في 11 أبريل 2019.
اذكر أنني كتبت ثلاثة مقالات بعد الثورة تحت عنوان (ثورة أمرها عجب) ولكن لم يطف بخيالي عجائبها التي وقعت بالفعل بعد ذلك وهي لا تكاد تحصى.

على أني سوف اتأمل في هذا المقال وقائع ما جرى في العلاقة بين العسكر والمدنيين.
2
قامت تلك التي سميت زوراً ثورة لإسقاط حكم العسكر وكان الشعار الأبرز (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل). انظر ماذا حدث بعد ذلك.؟ نفس المجموعة التي كانت تملأ الفضاء بتلك الشعارات لم تُعد العسكر للثكنات بل أعادتهم مرة أخرى إلى سدة الحكم ليصبح رأس الدولة من العسكر، ثبتوا العسكر في القصر ولم يعيدوهم إلى الثكنات بموجب اتفاق سياسي ووثيقة دستورية… كأننا ياعمرو لا رحنا ولا جينا.
3
إذن أفلح العسكر وهم محاصرون بالجماهير الساخطة على نظام الانقاذ الذى يمثل النموذج الابرز للدكتاتورية العسكرية بحسب زعمهم ، تلك الديكتاتورية التي أكلوا من مواعينها اكثر من عقد من الزمان.ف افلح العسكر وهم في الحالة تلك من البقاء في سدة الحكم.. لا عليك بالتفاصيل، دعك من التكتيكات وانظر لما جرى في إطار صورة حكم العسكر( البشير/ ابنعوف/ البرهان) تجدهم هنا على سدة السلطة ما بارحوا المسرح أصلاً وفي كافة الأنحاء.
4
هكذا أمسك العسكر بالسلطة وهم في قمة ضعفهم وارتضى المدنيون أن يسلموها لهم طوعاً، الامن /الدفاع والداخلية/ ثم أضافوا اليها بعد قليل الاقتصاد (لجنة برئاسة نائب الرئيس)…. وكان المدنيين في الحكومة يقولون إن 90 % من موارد الاقتصاد بيد العسكر…إذن يا ترى ماذا تبقى للمدنيين من السلطة الحقيقة غير بهلوانيات لجنة التمكين التي ترأسها هى نفسها العسكر (ياسر العطا) وكان برنامجها الكوميدي
أراضي وأراضي) من تأليف وإخراج أسوأ الممثلين المهرجين في قحت.!!. قف تأمل.. مغرب الثورة.. واخفاق الشعاع.. مايهم الناس من ثورة أضاعت أحلام جماهيرها وباعت دماء شهدائها.؟!!
5
العسكر عبروا المرحلة الأولى من الهيجة الثورية بالمحافظة والإمساك بسلطاتهم وامتيازاتهم التي نالوها على أيام الرئيس البشير، ثم جاءت المرحلة الثانية حينما لم يحتملوا تهريج المدنيين وإساءاتهم المستمرة للمؤسسة العسكرية التي وصلت بهم الوقاحة أن يهتفوا (معليش ماعندنا جيش)… أمام أسوار القيادة!!. وقتها قرروا الإطاحة بسلطة المدنيين كلية فحدث انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، المهم بانقلاب أو بتصحيح الوضع استطاع العسكر الإمساك بالسلطة كاملة منفردين لم يكن هناك حزب خلف الكواليس إنما عسكر فقط يمارسون لعبة السلطة مع مجموعة هواة سياسيين.
6
جاءت مرحلة أخرى تعرض فيها العسكر لضغوط دولية كثيفة فانحنوا للعاصفة مؤقتاً ووافقوا على الحوار لتاسيس شراكة أخرى مع المدنيين، وتمخضت تلك المشاورات واللقاءات عما عرف بالاتفاق الاطاري، ولكن مالبث العسكر أن أفسدوا الطبخة بذكاء شديد حين أصروا على بندين ،الأول يُخضع الدعم السريع لقيادة الجيش والثاني يحدد مدة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. ونتيجة لذلك الموقف وبعد يأسهم وعجلتهم لاستلام السلطة بأي ثمن دفع المدنيون حلفائهم فى الدعم السريع للانقلاب على السلطة واستلامها بالكامل لتنفيذ أجندتهم، لكن خاب تمرد الخائنين الخائبين وارتد عليهم فنشبت الحرب ليمسك العسكر منذ بداية الحرب وإلى الآن السلطة بكاملها بين أيديهم وينالوا دعم الشعب ورضاه بل أصبحت أنشودة الشعب المفضلة (جيش واحد شعب واحد). كان العسكر يتحدثون عن شراكة في الحكم مع المدنيين، الآن يبحث المدنيون عن شراكة في السلطة مع العسكر و(ما لاقينها) و أصبحوا شراذم، مطاردين فى أرجاء الدنيا يعتاشون على فتات المنظمات كما قالت رشا عوض (الست رشوة) آكلة السحت الفصيحة.!!. يجب ألا ننسى أن أخوها في الرضاعة (أقصد رضاعة المنظمات.) وأستاذها الباقر غير العفيف هو من علمها…سبل الرضاعة الصحية المفضوحة من أثداء المنظمات المشبوهة.!!.
ترى كيف استطاع العسكر استرجاع السلطة؟، وبدلاً من عودتهم للثكنات بأمر المدينين عادت السلطة إلى ثكناتهم تامة غير منقوصة وهاجر المدنيون الثوريون إلى منافيهم البعيدة والقريبة، وبدل أن ينحل الجنجويد تم تدميرهم. كيف حدث ذلك؟. نواصل

عادل الباز
لماذا أفلح العسكر وخاب المدنيون؟(2/2)
1
بعد أن رأينا استلام الجيش للسلطة كاملة بعد فترة 25 اكتوبر ٢٠٢٢، تساءلت في ختام المقال الأول (ترى كيف استطاع العسكر استرجاع السلطة، فبدلاً من عودتهم للثكنات بأمر المدنيين، عادت السلطة إلى ثكناتهم تامة غير منقوصة وهاجر المدنيون الثوريون إلى منافيهم البعيدة والقريبة، وبدلاً من أن ينحل الجنجويد تم تدميرهم. كيف حدث ذلك؟).
اتخذ العسكر طرائق ذكية جداً ساعدهم في ذلك ضعف الكوادر المدنية التي صعدت لسدة الحكم بلا سابق خبرات ولا قدرات تؤهلهم للتعامل مع تعقيدات أوضاع شائكة لم يتأهلوا ليتعاملوا معها.
2
حكى لي أحد القادة العسكريين الذين تولوا ملف التفاوض مع كوادر قحت قصة كافية أن تشرح الكيفية التي تعامل بها العسكريين مع ناشطين هواة بلا أدنى خبرات، لماذا أفلحوا. قال لي قبل المفاوضات بفترة درسنا تاريخ كل قادة الحرية والتغيير، دراستهم ومؤهلاتهم، نوع التدريب الذي تلقوه، حتى هواياتهم.. لاحظنا أنه لا أحد لديه خبرة بالمفاوضات، إذ لم يدرس أيّاً منهم كورساً واحداً عن الاستراتيجيات أو تكتيكات المفاوضات، بالطبع نحن ندرس ذلك في الكلية الحربية، وكنا ضمن وفود كثيرة للمفاوضات في أبوجا ونيفاشا والدوحة ولسنوات طويلة، فتوفرت لنا خبرات متراكمة تعلمنا منها الكثير في فن إدارة المفاوضات.
وقال: عندما شرعنا في أولى جلسات المفاوضات مع الجانب المدني لاحظنا أنهم يدخلون قاعة المفاوضات بدون أي ورقة أو نوته بأيديهم لتدوين الأفكار والوقائع، وكأنهم مقبلون على ركن نقاش.. في حين كنا نجهز أنفسنا جيداً ونوزع الأدوار ونستعين بتيم مساعد فيه كل التخصصات للرصد والمتابعة لما يجري في قاعة التفاوض وخارجها. وهكذا لم يكن صعباً علينا الوصول إلى ما نريد بيسر، إذ أدركنا أننا أمام جماعة هواة همها الوصول لكرسي السلطة بأقصر الطرق، وفرنا لهم ذلك، مما ساعدنا في تحقيق كل أهدافنا وكان أهمها إبعادهم من التدخل في الشئون الأمنية كافة وتلك كانت استراتيجيتنا.
3
بمهارة، استطاع العسكريون مِن لعب لعبة فرق تسد بإجادة تامة، وخاصة أن التناقضات بين قوى الحرية والتغيير لم تكن خافية على أحد وهي القوى التي قادت الثورة، إذ لم يجمعها إلا هدف إسقاط النظام، وبعد أن تحقق ذلك الهدف برزت تناقضاتها وأجنداتها المتعارضة، وسرعان ما تفجرت خلافاتها، وهنا استثمر العساكر في تلك التناقضات بذكاء، وساهموا في تعميقها واستقطاب بعض النافذين في الأحزاب والمجتمع المدني وكان للدعم السريع القدح المعلى آنذاك في الاستقطاب بما توفر له من موارد مكنته من شراء وبيع كثير من الناشطين، بل ومن قادة الأحزاب نفسها وهم ذات الناشطين والقادة الذين يسبّحون بحمد التمرد الجنجويدي اليوم.
تمكن العسكر في أقل من عامين من تفتيت وحدة قوى المعارضة، فتسيدوا المشهد السياسي والعسكري، وكل ما يريدونه كانوا يفعلونه بينما انزوت قوى الحرية والتغيير وخسرت جماهيرها بفشلها وترددها وأصبحت مجرد خيال مآتة، كومبارس في نظام لا يملكون فيه إلا حرية الكلام الفارغ والهتاف.
4
استطاع العسكر بتكتيكات (الحفر بالإبرة) وغيرها أن يمارسوا لعبة التقية مع العالم الخارجي فيبذلون للعالم وعوداً لا تتحقق ويسلمونهم حبال بلا بقر ويذهبون بهم إلى البحر ويرجعوهم عطشانين… يا لهم من ماكرين.. أنظر كيف تعاملوا مع المنظمات الأفريقية، يقبلون مشاريعها ومقترحاتها ثم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يفشلونها لأنهم يعرفون أن تلك المنظمات هي الداعم الرئيس لأعدائهم المتمردين. انسحبوا من الإيقاد بعد أن دوخوها، طردوا البعثة الأممية التي كانت ظهيراً لأعدائهم بالقطاعي، سعوا دائماً لخلخلة المواقف الإقليمية والدولية بمكر سياسي يحسدون عليه. سياستهم دائماً الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية مبدئياً وامتصاص صدمتها الأولى، ثم العمل على تدمير كل ما يتعارض مع سياستهم، خططهم ورؤاهم. فعلوا ذلك مع الوثيقة الدستورية ثم مزقوها لاحقاً ومع البعثة الأممية وطردوها بعد حين وجدوا فرصتهم فى الإطاري بعد حرب الخيانة فقبروه ومعه ثلة الخائنين.
إذا رغب المدنيون في الفلاح في مستقبل أيامهم ومهما كانت مواقعهم ومواقفهم فإن عليهم أن يتعلموا الدروس القريبة والبعيدة في التعامل مع العسكر، إذ ليس صدفة ولا تآمراً أن يحكم العسكر 57 عاماً من جملة 64 عاماً هي سني الاستقلال، وليس صدفة أن كل الانجازات التي يفتخر بها الآن السودانيون كانت في عهودهم، عليهم أن يتعلموا أنهم يتعاملون مع أناس أذكياء تخرجوا من مؤسسة عريقة لها تاريخ، تعلموا فيها فنون الحرب والسياسة والاستراتيجيات، وليسوا مجموعة عساكر متواضعين انقلابيين، لا هم لهم سوى السلطة، إن هذا التحليل الساذج والاستهانة بمقدرات العسكريين هو الذي استدام حكمهم لعشرات السنوات، بل أصبح هم من يتلاعبون بالمدنيين ويستخدمونهم فى مشاريعهم السلطوية، وحتى تلك الأحزاب التي جاءت بهم إلى السلطة خضعوا في النهاية لسلطة العسكر ولا يزال المدنيون يعتقدون أنهم أذكى من العسكريين، وإنهم لا يستحقون أن يكونوا شركاء في الحكم.. هم للثكنات فقط، للحراسة. والمدنيين للسلطة والامتيازات وتلك محض أوهام ثبت زيفها عبر السنين والتجارب ولكن من يقنع ديوك السياسة السودانية؟!!.
الدرس الأول هو لابد من احترام المؤسسة العسكرية واتخاذها شريكة فعلية في السلطة وليس مجرد أداة حراسة.
على المدنيين أن يتذكروا أن الذي يفتح الطريق للعسكر هو تنازعهم وصراعاتهم المزمنة والعبثية وفكرة الإقصاء والإقصاء المضاد بتعبير أستاذنا الواثق كمير، وإذا أرادوا أن يحدوا من تدخلات العسكر عليهم إصلاح أنفسهم وأحزابهم وسياساتهم ويتخلوا نهائياً عن فكرة الإقصاء لبعضهم البعض.
عليهم أن يتحدوا حول برنامج ودستور يحرسونه جميعاً ضد أي تدخلات أو انتهاكات من العسكر وأنفسهم، فالمدنيون صاغوا دساتيرَ ووثائقَ سرعان ما داسوها بأقدامهم في أول منعطف حاد (دستور 56 أطاح به انقلاب عبود بالتآمر مع حزب الأمة/ دستور 56 مرة أخرى أطاح به النميري في 25 مايو 1969 بالتآمر مع الشيوعيين كما تمت الإطاحة بدستور 1973 بواسطة ثورة أبريل 1985، ثم تم تمزيق دستور 56 للمرة الثالثة بعد انقلاب الإسلاميين في 1989، دستور 1998 جرى تمزيقه عقب مفاصلة الإسلاميين ونفس المصير، حصده دستور 2005 الذي اشترك الجميع في صياغته ووضعه، حيث تم إلغاؤه بعد التغيير في 2019 واستبدل بالوثيقة الدستورية التي جرى تزويرها أولاً بأيدي من كتبوها ثم تم تجميدها بانقلاب 25 أكتوبر 2022، وهاهي الآن في مهب الريح.).
وضع دائري في غاية السيولة، فما لم يتم احترام المؤسسة العسكرية والاعتراف والاتفاق على أدوارها، وما لم يجري الاتفاق على دستور يٌحترم من قبل الجميع ليقي البلاد من الإقصاء والإقصاء المضاد، فسيحصد العسكر السلطة في كل منعطف ويترك للمدنيين الهتاف والثرثرة الفارغة في الأسافير وإن أنجزوا مائة ثورة أخرى.

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي

المعارضة التونسية بين رهان السياسي و"وجدان" القاضي
عادل بن عبد الله
بصرف النظر عن التوصيف الدستوري لإجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021 -هل هي انقلاب أم قراءة ما فوق دستورية- فإن تلك الإجراءات قد أعادت هندسة المشهد العام بصورة تجاوزت المستوى السياسي الصرف. ولأسباب يمكن ردها إلى ضعف المعارضة وهشاشة مخرجات الانتقال الديمقراطي من جهة، وإلى الدعم النشط من القوى الإقليمية المتوجسة من نجاح التجربة التونسية من جهة ثانية، استطاع الرئيس -بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وأذرعها المختلفة- أن يجمّع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد القرار 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وهو ما أعطى للمراسيم والقرارات الرئاسية سلطة لا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، كما خوّل ذلك المرسوم للرئيس "حصريا" سلطة إصدار القوانين لتنظيم المحاكم وكذلك مراجعة إجراءات التقاضي.

بدخول الدستور التونسي الجديد حيز التنفيذ إثر الاستفتاء الشعبي العام سنة 2022، أصبحت "السلطة" القضائية مجرد "وظيفة" مثلها في ذلك كمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولم يكن تغير التسمية مجرد مسألة لغوية، بل كان تعبيرا عن رهان سياسي مداره شرعية "التأسيس الثوري الجديد". فالرئيس لا يعتبر "تصحيح المسار" تأسيسا لسلطة جديدة، بل هو إعادة لها إلى صاحبها الأصلي، أي الشعب. وهذا الشعب -حسب أنصار تصحيح المسار- هو الذي فوّض "الخبير الدستوري" قيس سعيد ليمارس السلطة باسمه مرتين: مرة أولى سنة 2019 عند انتخابه رئيسا من خارج النخب السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، ومرة ثانية عند تأييده لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.

ومهما كان موقفنا من الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 ومن مدى التزامها بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة، فإن فوز الرئيس قيس سعيد قد جاء ليُشرعن سردية التفويض الشعبي وليدفع بـ"حرب التحرير الوطني" إلى مرحلة اللا عودة، خاصة من جهة علاقة المنظومة الحاكمة بأغلب الفاعلين الاجتماعيين المعارضين، أي بأولئك الذين جاء "تصحيح المسار" لإنهاء الحاجة إليهم وإلى أجسامهم الوسيطة وديمقراطيتهم التمثيلية.

في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، لا يكون توحّد الجبهة الداخلية ضد "الخونة" و"المتآمرين" و"الفاسدين" خيارا، بل هو واجب وطني لا يمكن لأي "وظيفة" من الوظائف الثلاث ألا تنخرط فيه دون أن تكون عرضة هي الأخرى لتهمة الخيانة/ العمالة. وهو ما وضع الوظيفة القضائية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاشتغال بمنطق "الوظيفة" التابعة للوظيفة التنفيذية، لا بمنطق السلطة المستقلة، وهو ما يعني أن يتخلى القاضي عن وجدانه ثقةً في وجدان السياسي والأمني حتى إن لم يكن ذلك الوجدان مسنودا بأدلة وبراهين، وإما أن يحافظ على استقلال "وجدانه" فيصبح عندها محل استهداف مباشر من السلطة التنفيذية كما وقع لعشرات القضاة المعزولين أو المعاقبين بنقلات تعسفية وغيرها. فتبرئة من وقر في وجدان السياسي و/أو الأمني أنهم مذنبون يجب "تطهير" البلاد منهم، تعني أنّ القاضي "شريك لهم" كما صرّح بذلك الرئيس نفسه.

للرد على بيان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الداعي إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير"، لم يجد النظام التونسي ممثلا في وزارة الخارجية تعبيرا أفضل من "بالغ الاستغراب". فالمفوض الأممي فولكر تورك يبني انتقاداته للنظام التونسي على "مغالطات"، ذلك أن الرواية الرسمية للنظام ما زالت متمسكة باستقلال القضاء وبتوفير الضمانات القضائية للمتهمين، كما أن النظام ينكر الطبيعة السياسية للقضايا ويعتبرها مجرد "قضايا حق عام" لا علاقة لها بأنشطة أصحابها الحزبية والسياسية والإعلامية ولا بممارستهم حرية الرأي والتعبير. وإذا قرأنا هذا الموقف الرسمي في سياق المحاكمات السياسية الحالية التي قد تصل بعض العقوبات فيها إلى الإعدام، سيكون من الواضح أن لا نية للسلطة للتراجع عن المقاربة الأمنية-القضائية لحل القضايا السياسية.

بمعنى من المعاني، يبدو أن النظام قد اختار المضيّ في المحاكمات الحالية ردا على دعوات الحوار الوطني وإظهارا لقدرته على فرض خياراته السلطوية الأحادية. فما لا يفهمه العديد من السياسيين والمحللين هو أن الحوار والتشاركية والاعتراف بتعدد الشرعيات والرمزيات والإقرار بدور الأجسام الوسيطة.. كل ذلك يعني نهاية "تصحيح المسار" وفقدانه لعلة وجوده أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج. ولذلك يواصل النظام سياسة الهروب إلى الأمام ويرفض الاعتراف بأي حاجة لتعديل خياراته الكبرى سواء في السياسة (الديمقراطية المباشرة) أو في الاقتصاد (الشركات الأهلية).

إن إدارة ملف المعارضة السياسية بمقاربة أمنية-قضائية مسنودة بإعلام مدجّن ليس خيارا جديدا في الساحة التونسية، بل هو إعادة إنتاج لخيارات سابقة منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية. ولا شك في أن التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" وبين الرأسمال البشري/الفكري للمنظومة القديمة يجعل من التفكير في بدائل للمقاربة الأمنية أمرا مستبعدا.

عندما كان القضاء "سلطة" فإنه كان نظريا محكوما بجملة من القواعد مثل أن القاضي لا يحكم بعلمه، وأن الإدانة أو التبرئة يكونان بما "استقر في وجدان المحكمة". ولكن انتقال القضاء من سلطة إلى وظيفة في ظل سردية "التأسيس الثوري الجديد" وسردية "حرب التحرير" تجعل القاضي محمولا على الحكم بعلم السلطة وما يستقر في وجدان السياسي والأمني بصرف النظر عما يستقر في وجدانه بعد الاطلاع على ملف الإحالة. فالقاضي -مثل جميع موظفي الدولة- هو الآن في خدمة "مشروع سياسي"، وإلا في معارضته إذا ما خالف انتظارات المنظومة الحاكمة منه.

ولا شك في أن لكل احتمال من الاحتمالين كلفة أخلاقية وقانونية يتحملها القضاء وسائر المواطنين سواء في الوضع الراهن أو في المستقبل. وإذا كان وجدان القضاء قبل "تصحيح المسار" غير مطابق للقلب السليم -أي خاضعا لاعتبارات وتدخلات من خارج الملفات ذاتها- فإنه على الأقل كان قادرا على ضمان نوع من الاستقلالية بحكم تعدد مراكز السلطة والسلطة المضادة. ولكنّ تمركز السلطة وغياب السلطات المضادة في ظل "تصحيح المسار" يجعلان من ذلك الوجدان القضائي مسيجا بوجدان السياسي والأمني، وخاضعا للسلطة التنفيذية التي تجعل الوجدان الصافي للمحكمة خيارا لا يستطيع إلا القليل من القضاة تحمل كلفته.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • الدويش: لماذا لم تذكر المادة التي تثبت صحة مشاركة الرويلي
  • لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟
  • المرأة العمانية في السلطة القضائية
  • إنتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة غدا
  • الجزيرة ترصد معاناة المدنيين في حي الجريف شرق الخرطوم
  • العراق يدعو الى حفظ أمن المدنيين السوريين
  • ترامب..بين الشعارات الانتخابية ومحك السلطة
  • عادل الباز يكتب: لماذا ستفشل الحكومة “المزازية”؟
  • جيش الاحتلال يواصل انتهاكاته في القطاع وجرائمه بحق المدنيين في الضفة
  • المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي