ردت إيران وتم الأمر، هي ليست لعبة ولا تبادل أدوار مع أميركا أو إسرائيل، كما يروج ويسوق من يريدون أن تبقى هذه الأمة رهينة حكامها وخياراتهم التي لا تتجاوز الخضوع لإملاءات أميركا، بل وتقديم الخدمات المجانية لها على حساب الكرامة ومصالح الأمة.
ومن المهم أن ننظر في الأبعاد الحقيقية لهذه الضربة وتداعياتها المحتملة، وأن نضعها في سياقها الطبيعي دون تهويل أو تبخيس.
ما جرى من حيث الفعل والحجم هو حالة غير مسبوقة من حيث الرد الإيراني المباشر، وذلك بعد أن تلقت إيران في السابق عشرات الضربات القوية في عقر دارها، بما في ذلك اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني (الرجل الثاني بعد المرشد في الأهمية) في العراق، واغتيال عدد من العلماء واستهداف المنشآت النووي داخل إيران.
صحيح أن القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق، يعتبر قصفا لقطعة من التراب الإيراني حسب القوانين الدولية، فضلا عن أنه أدى لمقتل سبعة من قادة الحرس الثوري الإيراني، منهم قائد كبير في سوريا ولبنان، غير أن إيران كان يمكن أن تتعامل مع الحدث كالأحداث السابقة باستهداف أهداف إسرائيلية خارج الأراضي المحتلة عن طريق وكلائها مثلا، ولكنها اختارت هذه المرة الرد المباشر في العمق الإسرائيلي وبكثافة منقطعة النظير في عدد الصواريخ والمسيرات، الأمر الذي يعني أن تغييرا ما حدث في طبيعة التعامل الإيراني مع إسرائيل.
قد يكون هذا التغيير تكتيكيا، وبمثابة رسالة لإسرائيل لردع إسرائيل عن التفكير مستقبلا بأي خطوة فد تتخذها ضد إيران في المستقبل، ولكنه قد يكون أبعد من ذلك، وقد تكون إيران قررت تغيير سياسية الصبر الاستراتيجي الذي تتجنب فيه الانجرار وراء الاستفزازات الإسرائيلية حتى تتمكن من بناء سلاحها النووي سلاح رادع، وبما يحدث توازنا مستقبليا في الردع بينها وبين إسرائيل.
ولكن الاستفزازات الإسرائيلية لإيران وصلت إلى حدا غير مسبوق، وكان من الممكن أن يؤدي سكوت إيران إلى إرسال رسالة تشجيع لإسرائيل.
وعلى الأرجح فإن القيادة الإيرانية التقطت الأجواء في المنطقة في ظل الخلخلة التي يعاني منها الاحتلال في ضوء فشله في تحقيق أهدافه بغزة، وتصاعد حدة الخلافات بينه وبين الولايات المتحدة. وربما قدرت أن واشنطن لن يكون لها رد على استهداف إسرائيل، بل وأبعد من ذلك، ربما تكون رأت أن مثل هذه الضربات المحسوبة والمنضبطة ستخدم إدارة بايدن لتكثف الضغوط على الكيان للتجاوب مع المواقف الأميركية بغزة، خصوصا أن هذه الإدارة سبق وعبرت لحكومة نتنياهو عن عدم رضاها لعدم استشارتها في الضربة التي تم توجيهها للقنصلية الإيرانية في دمشق.
ومن هنا فقد عمدت طهران إلى إرسال رسالة واضحة لأميركا عن طريق الوسطاء بأنها مضطرة للرد في عمق الكيان، مع إبداء حرصها على عدم الانجرار لحرب إقليمية، وأنها ستضرب ضربة محددة، ربما تكون حددتها للأميركان بقاعدتين عسكريتين في الكيان استخدمتا منطلقا لاستهداف قنصليتها في سوريا. وهذا الأمر يفترض – فيما لو صح- أن الإسرائيليين أخلوا هاتين القاعدتين من العسكريين حتى لا تتسبب الضربات بمقتل أحد!
الملفت في ذلك أن واشنطن لم تهدد إيران بالرد إلا إذا استهدفت إيران أو حلفائها قواعد عسكرية أميركية في المنطقة. وبالفعل حصلت واشنطن على ضمانات بأن الضربات لن تستهدفها.
وهذا يدل على ضجر إدارة بايدن من نتنياهو وحكومته المتشددة الذين قد يأخذوا المنطقة لتصعيد إقليمي يتناقض مع سياسة أميركا التي تركز على مواجهة الصعود الصيني والتحدي الروسي على حدود أوروبا.
بل إن في ذلك إشارة واضحة إلى رغبة بايدن في توجيه ضربة ثانية لنتنياهو بعدما ضربه في المكالمة الهاتفية بينهما التي أسفرت عن مسارعة الحكومة لفتح المعابر للمساعدات، والعودة لطاولة مفاوضات الأسرى مع حماس.
تضعضع مكانة إسرائيلولذلك، فعلى صعيد التكتيك السياسي، فقد سجلت إيران نقطة ضد حكومة المتطرفين، أما في الميدان العسكري، فإن الضربة لم يكن لها تأثير كبير على الكيان الذي تصدى للهجمة بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فضلا عن مساهمة دول عربية في ذلك.
وتتباهى حكومة الاحتلال بأنها تمكنت من تحييد الصواريخ والمسيرات الإيرانية، ولكن من قال إن ادعائها بأنها أسقطت معظم الصواريخ والمسيرات بدون خسائر مادية كبيرة هو صحيح؟ لقد قالت هذا عن صواريخ المقاومة في غزة، ولا زالت تخفي خسائرها في المواجهة في غزة، فما الذي يدفعنا لتصديقها في المواجهة مع إيران؟!!
لقد حاولت إسرائيل ممارسة حرب نفسية مفادها أنها محصنة وقوية، وقادرة مع حلفائها على التصدي لأي هجمة ضدها، ولكنها في الحقيقة ظهرت ضعيفة بعد أن تم استباحتها للمرة الثانية خلال ستة أشهر، كما أنها تتناسى أنه على الرغم من معرفتها بالضربة، فإنها بقيت أياما في حالة استنفار وتوتر وتحسب للضربة.
كما أن إسرائيل تعلم أن إيران لم تسع أصلا إلى إلحاق أضرار كبيرة في الكيان، حتى لا تتسبب باندلاع حرب إقليمية، فهي أبلغت أميركا بأنها ستضرب، وأعلنت عن الضربة بمجرد بدئها.
بل إن الأهم حسب خبراء عسكريين أن إيران وهي تحاول أن تخوض صراعا منضبطا، استخدمت ترسانتها القديمة من المسيرات والصواريخ التي تستطيع التقنية الإسرائيلية التصدي لها، وأن إيران تستطيع أن تأخذ العبر وتستفيد من خلال معرفة حجم وقدرات الاعتراض لدى إسرائيل وأميركا، لتجاوزها في حال كان هناك جولة قادمة ستستخدم فيها إيران أسلحة أكثر تطورا. وقد قال مسؤول إيراني للجزيرة لم يتم الإفصاح عن اسمه في 16/4/2024 "نحن جاهزون للمستوى الثاني من الرد عبر أسلحة لم تستخدم سابقا في الصراع مع الكيان الإسرائيلي".
وهذا الأمر يعني نتيجتين مهمتين هما:
أولا: أن مكانة إسرائيل الاستراتيجية تضعضعت أكثر وأكثر، بعد أن تأكد للمرة الثانية خلال 6 أشهر حاجتها للتدخل الأميركي والغربي لحمايتها، بدلا من أن تكون هي حصنا متقدما للمشروع الغربي. ثانيا: إسرائيل فقدت هيبتها ومكانتها في المنطقة بعد أن أصبحت مستباحة من الصواريخ والمسيرات الإيرانية. هل استفاد نتنياهو؟ولكن، هل استفاد نتنياهو وإسرائيل من هذه الجولة؟
حاول نتنياهو الاستفادة من هذه المواجهة لمحاولة إطالة أمد الصراع، والظهور أمام خصومه الداخليين أنه لا يزال يحظى بدعم أميركي غربي، وأنه الأقوى ما بين زعماء إسرائيل في مواجهة الضغوط الأميركية للجم مواقفه، فضلا عن استعادة إسرائيل دور الضحية الذي فقدته من خلال الوحشية التي مارستها في العدوان على غزة.
ولكن كل هذه المكاسب لحظية وقتية ستتبخر بمجرد انتهاء هذه الجولة، مقابل عودة مظاهر العدوان على الفلسطينيين ومهاجمة رفح، وظهور الكيان باستمرار حاجته لأميركا والغرب في الدفاع عنه، وهي المرة الثانية التي يظهر بها بهذا الشكل. ويظهره بأنه عالة على أميركا والغرب، ويظهر كذلك تعارض مواقف نتنياهو مع أميركا بمحاولته جرها لصراع إقليمي واسع بما يتناقض مع استراتيجية حليفه الساعية للتركيز على الصين وروسيا!
وإن كان السؤال عن الفائز في هذه الجولة، فهو بلا شك الإدارة الأميركية التي ضبطت رد الفعل الإيراني من خلال تفاهمات مع وسطاء، وأكدت للإسرائيليين أنهم لا يمكنهم الاستغناء عنها في الدفاع عنهم، وبالتالي فعليهم الانصياع لطلباتها، وبإمكانهم لجم الرد الإسرائيلي المقابل، طالما أنها أرتأت أنه لا مصلحة منه.
وعلى الأغلب، فإن نتنياهو سيفشل في محاولته إطالة أمد الصراع وجر المنطقة لحرب إقليمية، لأن محاولته في غزة فشلت، واضطر للرضوخ للمطالب الأميركية بعد ارتكابه مجزرة المطبخ المركزي العالمي، وهو يقف الآن أمام اتفاق إيران وأميركا لتوسيع الصراع.
الرد، وما بعدهولئن اتخذ مجلس الحرب الإسرائيلي قرارا بالرد على إيران، فإنه لا يريد أن يظهر بأنه تمت مهاجمته دون أن يرد، ويعتبر أن ذلك تقليلا من صورته وهيبته في المنطقة، رغم أنها تضررت بالفعل منذ 7 أكتوبر وما تلاه. كما أنه يريد استعجال الضربة حتى لا تفقد إسرائيل التأييد الدولي الذي كسبته بسبب الرد الإيراني
ولكن الحقيقة أن تقييد الرد الإسرائيلي من خلال الولايات المتحدة بحد ذاته يشكل تراجعا في صورة إسرائيل وتقييدا لإمكاناتها ولدورها في المنطقة، فضلا عن الخلاف المتصاعد مع الرئيس بايدن الذي أعرب سرا عن قلقه من أن يحاول نتنياهو جر واشنطن إلى صراع إقليمي!
ولا تزال إمكانية تمدد الصراع قائمة من خلال تنفيذ إيران تهديداتها بالرد بعنف على أي عدوان وبشكل أقوى، في ظل امتلاكها أسلحة أكثر تطورا، من خلال تعاونها مع روسيا، مثل منظومة صواريخ أس-300 المضادة للطيران، فضلا عن الصواريخ الهجومية والطيران والمسيرات المتقدمة.
ويبدو أن حكومة الاحتلال تعول على أن هذا الرد المحدود لن يتسبب بردود من إيران، ولكن اضطرار إسرائيل لتنفيذ ضربة خارج أراضي إيران سيعزز ضيق خياراتها وتراجعا لصورتها التي كونتها لنفسها بأنها قادرة أن تضرب في أي مكان وزمان، كما أن من يبدأ العدوان لا يضمن أن يتدحرج لحرب. وقد علمنا نتنياهو أنه كثيرا ما يخطئ الحسابات.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الصواریخ والمسیرات فی المنطقة أن إیران من خلال فضلا عن بعد أن کما أن فی ذلک
إقرأ أيضاً: