*اقتلوا الإسلاميين أو اطرحوهم أرضاً يخلُ لكم وجه الغرب وتكونوا من بعدهم قوماً مدنيين!!*
¤ عام ١٨٦٣م حصلت شركة آل مورجان الأمريكية على امتياز تنقيب النفط والغاز في منطقة النوبة بشمال السودان ، وتخلَّت الشركة عن امتيازها في العام ١٨٦٨م لأسبابٍ أمنية بعد تعرض منسوبيها لأحداث عنف من الأهالي وهلك اثنان من منسوبيها.

¤ عام ١٨١٩م أنشأت الولايات المتحدة أول مكتب استخباري وتجاري في السودان بمدينة سواكن ، وعيَّنت John H Kennedy كأول قنصل أمريكي في السودان ، ونشط المكتب في رصد الأنشطة البحرية ، وفي تصدير العاج والأخشاب والرقيق ، وتم إغلاق المكتب في ١٨٩٣م بسبب الحرب الأهلية الأمريكية.

¤ في العاشر من سبتمبر ١٨٨٤م بقرية الهبَّة (تسمى اليوم أم دويمة) وأثناء فرار الباخرة عباس من حصار الخرطوم ، قتل المناصير بقيادة النعمان ود القمر كل من كانوا على متنها ، وعلى رأسهم الكولونيل دونالد ستيوارت مساعد الحاكم العام تشارلس غردون باشا ، وكان مقرباً جداً من ملكة بريطانيا ، وقُتل معه نائب القنصل البريطاني فرانك لابويرباور ، والقنصل الفرنسي هيربن ، وستة عشر يونانياً آخرين ، وغيرهم.

¤ في ٢٦ يناير ١٨٨٥م قُتِل الجنرال البريطاني تشارلس غردون باشا حاكم عام السودان ، والقنصل البريطاني السير روبرت كولسون ، والقنصل الفخري الأمريكي عازر عبدالملك ، وقُتِل معهم عشرات الغربيين من العسكر ورجال الأعمال وغيرهم ، وخسِرت الحكومة البريطانية وحدها في سقوط الخرطوم مبلغ ١١.٥ مليون جنيه استرليني مما أدى لسقوط حكومة وليام جلادستون في لندن ، وأشعل ذلك سخطاً كبيراً وتعبئةً عامةً في بريطانيا لاحتلال السودان.
¤ حاولت إسرائيل باكراً احتواء السودان ، وفي عام ١٩٥١م (بعد ثلاث سنوات فقط على تأسيسها) أرسلت وفداً تجارياً من ٥٠ شخص للخرطوم ، وكانوا رأس الرمح في خلق علاقات مع قادة الأحزاب بالسودان ، وعام ١٩٥٤م في لندن جرى أول لقاء سري بين الصديق عبدالرحمن المهدي ومحمد أحمد عمر مع مسئولين إسرائيليين ، وبحثوا ما يمكن أن تُقدِّمه إسرائيل لاستقلال السودان ، والذي لم يرغب الطرفان في وِحدته مع مصر ، وعام ١٩٥٥م جرى اللقاء الثاني في قبرص بين الصديق عبدالرحمن المهدي ومحمد أحمد عمر مع مسئولين إسرائيليين ، ثم توسَّعت العلاقات فشملت أحزاباً سودانية أخرى ، وحركاتٍ إنفصاليةٍ جنوب سودانية.

¤ بمجرد استقلال السودان انخرط في دعم المجهود العسكري المصري المضاد لإسرائيل ، وهو ما تسبب في توتر علاقاته بالولايات المتحدة وأوربا ، ودفع ذلك إلى تدخل استخباري إسرائيلي غربي فاقم من حِدة التنافس والاستقطاب القائم أصلاً بين الحزبين الطائفيين ، ودفع في اتجاه أول انقلاب عسكري قدمه حزب الأمة على طبقٍ من ذهب للمؤسسة العسكرية ، والتي خاب ظن إسرائيل والغرب فيها إذ كانوا يظنونها صنيعة بريطانية ومطية سهلة لاستتباع السودان.

¤ عام ١٩٥٨م فرضت الولايات المتحدة عقوبات على السودان بسبب القطن طويل التيلة رداً على قرار الحكومة السودانية تأميم شركة القطن السودانية ، وهي شركة أمريكية كانت تعمل في زراعة وتسويق القطن طويل التيلة في السودان.

¤ خاب فأل الغرب في حكم الجيش السوداني بتزايد دعمه لمصر ، فاتهمت الحكومات الأمريكية والأوربية الرئيس ابراهيم عبود بالتطرف الديني في طرده للمبشرين لنشاطهم الاستخباري الهدام والذي اشتكت منه الطائفة القبطية في السودان ، وتراوحت أرقام المطرودين حينها بحسب المزاعم الغربية بين ٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ مبشر ، وانتهاج الرئيس عبود (بزعمهم) سياسةً تهدف لأسلمة وتعريب الجنوب ، ورفضه التطبيع مع إسرائيل ، فدعمت إسرائيل والغرب بقوة لتأسيس حركة الأنانيا التي نادت بانفصال جنوب السودان.

¤ في عام ١٩٦٩م قامت حكومة النميري بتأميم عشرات الشركات والمؤسسات والبنوك الأوروبية العاملة في البلاد ، وشملت قطاعات المصارف وشركات التأمين والتعدين والبترول والشحن وغيرها ، وقد أدى التأميم إلى توترات عميقة مع الدول الأوروبية ، والتي فرضت بعض العقوبات على السودان ، وكان لها تأثير كبير على الاقتصاد والمجتمع السوداني.

¤ في الأول من مارس ١٩٧٣م اغتال مسلحون من جماعة إيلول الأسود الفلسطينية بعض الدبلوماسيين الأجانب في الخرطوم وعلى رأسهم السفير الأمريكي Jeorge Curtis Moore ، وتمت محاكمة القتلة في الخرطوم بالسجن المؤبد ، ولكن الرئيس النميري عفا عنهم في ١٩٧٤م ، فاستشاطت الولايات المتحدة غضباً وقطعت العلاقات مع السودان بضعة أشهر.

¤ عام ١٩٩٣م سحبت الولايات المتحدة سفيرها من الخرطوم ، وفي يونيو ١٩٩٥م تم طرد السفير البريطاني من الخرطوم ، وأوقعت الولايات المتحدة حزمة عقوبات اقتصادية على السودان ، ودفعت مع حلفائها الأوربيين مجلس الأمن لاستصدار عقوبات اخرى ، وصنفت السودان دولةً راعيةً على الإرهاب ، وموَّلت حرباً على السودان شنها الجيش الشعبي متحالفاً مع الجيش الإريتري والإثيوبي واليوغندي والمعارضة الشمالية ، وضغطت
أمريكا مع حلفائها الأوربيين وإسرائيل لانفصال جنوب السودان ، وأشعلوا تمرداً في دارفور ، وتواطئوا على إدانة السودان في المحكمة الجنائية الدولية ، ثم تمالؤوا مع بعض دول الإقليم فأسقطوا نظام الحكم.

¤ في الأول من يناير ٢٠٠٨م تم اغتيال الدبلوماسي الأمريكي John Michael Granfield وسائقه ، والذي كان يعمل موظفاً بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ، وفيها حكم القضاء بإعدام خمسة متهمين ، ولم يلبث ان لاذ ثلاثةٌ منهم بالفرار من السجن ، وعفى البشير عن الرابع ، وتم إعدام الخامس فقط ، ولا تسل عن غضبة الأمريكان لذلك.

* العلاقات السودانية الغربية ضاربة في القِدَم ، والسودان موضع اهتمامهم قبل أن تتشكل حدوده الحديثة ، وما سردناه بإيجازٍ خلال قرنين من الزمان ليس شاملاً ، ولكنها محطاتٌ ذات دلالةٍ على العداء المتجذِّر والأطماع الكبرى للغرب تجاه السودان ، وقد تعمَّدت هذه العلاقة بالكثير من الدماء مما قبل المهدية وحتى اليوم ، وانتقلت إدارة العداء الغربي تجاه السودان من المواجهة بالأصالة إلى الحرب بالوكالة .. ولقد ظل هذا العداء مستمكناً على امتداد كل العهود الوطنية .. سواءً كانت ثورية أو انتقالية أو ديمقراطية أو شمولية ، علمانية أو شيوعية أو ليبرالية أو إسلامية ، بل إن حكومة حمدوك التي ضربت رقماً قياسياً في عمالتها وخنوعها للغرب .. لم يتكرموا عليها بدعمٍ يُذكر ، لا في مؤتمرات المانحين ولا غيرها ، بل مارسوا عليها كل أشكال الإبتزاز والانتهازية ، وتركوها تسقط كخِرقةٍ باليةٍ ، وذلك أن هدفهم خنوع البلاد وشعبها وليس مجرد حفنة عملاء بلا مستقبل سياسي.

* الغرب الذي مأسس لانفصال جنوب السودان بقانون المناطق المقفولة الصادر لسبع مناطق منذ عام ١٨٩٩م ، ثم حصرته بريطانيا لجنوب السودان فقط في عام ١٩٢٢م ، وفعل الغرب كل الممكن لاستقلال دولة جنوب السودان .. مازل إلى اليوم يمارس على دولة جنوب السودان الابتزاز السياسي والدبلوماسي ، وعلّق في رقبتها أنشوطة العقوبات ، رغم أن جنوب السودان استجابت لكل المطلوبات الغربية ، وليس بها تنظيمات إسلامية ، ولا جدال فيها على العلمانية ، وعلاقتها بإسرائيل على أطيب ما يشتهيه الغرب ، والأمثلة غير ذلك أكثر من ان تُحصى ، ومن السذاجة السياسية الاعتقاد بأن وجود الإسلاميين في السودان هو سبب العداء الأمريكي والأوربي للسودان.

* الواقع والوقائع تؤكد بأن الهرولة وراء استرضاء الغرب لن تجلب للسودان رضى الغرب ، وأن مصالح السودان الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والجيوسياسية لا ترتبط بالغرب ولا سبيل لها إلى ذلك ، وقدر السودان أن يُحسِن تموضعه إقليمياً ودولياً بما يناسب العداء الغربي الصهيوني الذي استمكن قبل ميلاد دولة السودان الحديثة ، فهذا العداء لم يكن خيار السودانيين ، ولكنه مفروضٌ عليهم ولا مناص لهم عن التعامل مع هذه السياسة الغربية بما لا ينتقص من السيادة الوطنية ، ولا يُضيع المصالح القومية ، ولا يُدخل البلاد وأهلها في معادلاتٍ خطِرة ، وأخطر ما نواجهه اليوم هو توهان الموقف الجيوسياسي للدولة ، والذي حرمها من اكتساب الحلفاء والأصدقاء ، وأدخل البلاد وشعبها تحت تهديدٍ وجوديٍّ بزوال الدولة وتجريف شعبها.

* العداء الأمريكي الأوربي الصهيوني تجاه السودان واقعٌ قديمٌ وسيستمر ، وأثبتت التجارب في السودان وغيره أن الاستجابة لضغوطهم لا ينتج عنها إلا مزيداً من الضغوط والصَّلف ، فالقوم لا يحترمون الضعفاء ، والإسلاميون في السودان تيارٌ وطنيٌّ معتبر ، وحقيقة قائمة على امتداد ولايات السودان ، ولا يخلو منهم مجتمع سوداني ، *والأصل أن لا يتشكَّل سودان بعد الحرب على إرادةٍ أجنبيةٍ غير وطنية ، وإلَّا فما جدوى النصر منقوص السيادة ، وعلام كانت الحرب إذن* ، وكما لن تستطيع أي قوىً وطنية مهما رضخت أن تقلب الموقف الغربي تجاه السودان ، كذلك سيستحيل اقتلاع الإسلاميين من هذه الأرض أو إلغاء دورهم فيها إرضاءً للغرب أو أذنابه في المنطقة ، وكِلا المحاولتين تهدِّدان وجوباً بزوال السودان ومن عليه ، والسياسة هي فن صناعة البدائل ، وليست فن الممكن كما يتداول البعض ، والذين يظنون أن ليس بالإمكان إدارة البلاد وتطويرها في ضوء هكذا تحدِّيات .. فإنما يؤكدون بأن السياسة ليست أفضل الميادين التي يستطيعون منها خدمة الوطن ، *والحقيقة أن أزمتنا الوطنية لطالما كانت في التنظيمات السياسية والعسكرية التي لا تقوم على أساس قومي إسلاميةً كانت أو يسارية ، وإنما على تلك التي تنبني على أساس إثني أو جهوي (كالدعم السريع والجيش الشعبي و…الخ) وتستنكف الانصهار في البوتقة القومية ، وهذه لا يستنكرها الغربيون ، ويستمرؤها الانتهازيون ، ويتجاهلها الغافلون ، ويغض الطرف عنها الآخرون.*

* في ٣ مارس ١٩٨٥م زار الخرطوم جورج بوش الأب ، وكان آنذاك نائب الرئيس رونالد ريغان ، ورافقه في زيارته تلك وليام كيسي مدير وكالة المخابرات المركزية CIA ، وأبلغا الرئيس النميري ما يشبه الإنذار الأخير بضرورة التخلص الفوري من شركائه الإسلاميين ، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية المعروفة بقوانين سبتمبر ١٩٨٣م ، والاستئناف العاجل لعمليات ترحيل الفلاشا التي كانت قد تعطلت بسبب تسرُّب أخبارها ، وذلك مقابل الرضى الأمريكي ، واستئناف شيفرون لعمليات التنقيب ، وتقديم مساعدات إنسانية واقتصادية ، وقد وافق النميري ، وبعد مغادرة بوش بأيامٍ قليلة .. فضًّ النميري شراكته مع الإسلاميين ، وزج بهم في السجون توطئةً لإلغاء قوانين سبتمبر ، ولم تمضي أيامٌ معدودة حتى نزع مالك الملك ملكه ، فما أغنت عنه أمريكا شيئاً ، وكان من سخريات الأيام أنّ النميري ما استطاع أن يعود للسودان إلا بعد أن حكمه الإسلاميون ، ولقد كان في قصصهم عبرة.

اللواء (م) مازن محمد اسماعيل

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الولایات المتحدة جنوب السودان تجاه السودان على السودان فی السودان

إقرأ أيضاً:

هل يحسم فك حصار القيادة العامة معركة الخرطوم؟

الحروب حبلى بالمفاجآت، فكثيرا ما لا تنتهي بما يريده من يشعلون وقودها، ففي الحرب العالمية الثانية انتهى هجوم هتلر الكاسح على الاتحاد السوفياتي، في قلب برلين، ووصلت جحافل الجيش السوفياتي العاصمة الألمانية بعد قتال دموي استمر لسنوات.

أدى الهجوم الألماني إلى هجوم مضاد، فانقلبت الدفة، وأصبحت موسكو المُهددة بالاجتياح الألماني تسيطر على شرق أوروبا بأكمله وصولا لألمانيا الشرقية ذاتها، لنحو نصف قرن، إلى أن انهار جدار برلين ثم تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كوابيس الحاكم الخفي.. هل اقترب ظهور "مملكة الحاخامات" في الضفة؟list 2 of 2"مدمن تعذيب الجزائريين" والسيرة البشعة لجان ماري لوبانend of list

ومن أوروبا إلى أفريقيا، وإن اختلفت الجغرافيا وأعداد المتقاتلين وهوياتهم، فإن المضمون يتشابه، فبعد قرابة عامين من اندلاع القتال في السودان، أعلن الجيش السوداني استعادته السيطرة على مصفاة الجيلي النفطية الواقعة على بعد نحو 70 كيلومترًا شمال الخرطوم، وسيطرته على منطقة التصنيع الحربي شمال مدينة بحري.

كما أعلن وصول قواته إلى سلاح الإشارة وسط بحري، وفك الحصار عن مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، ليواصل زخم هجومه المضاد الذي شمل إحكام السيطرة على ولاية سنار جنوب شرق السودان، ثم مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وصولا لأماكن إستراتيجية في الخرطوم، مما يفتح الباب للجائزة الكبرى المتمثلة في استعادة السيطرة على كامل العاصمة مجددا.

التطورات الميدانية الأخيرة تعكس تصاعد النزاع في السودان، مع سيطرة قوات الدعم السريع وانتشار الفوضى والنزوح (الجزيرة)

 

تعكس تلك التطورات الميدانية تغير اتجاه دفة الحرب، والذي بدا سابقا أنه يميل باتجاه قوات الدعم السريع التي سيطرت على أغلب غرب السودان وأجزاء من الوسط وصولا لجنوب شرق البلاد، وتصاعدت آنذاك مخاوف من أن السودان على وشك فوضى عارمة تشبه ما حدث بالصومال في تسعينيات القرن العشرين من انهيار للدولة، حيث تحول البلد إلى إقطاعيات يتصارع عليها أمراء الحرب، وتتنافس القبائل في السيطرة على مقدرات البلد وموارده.

إعلان

وقد لاحت مؤشرات ذلك بالتدمير الواسع الذي طال العاصمة، والذي شمل المطار ومقرات الوزارات والبنوك والمشافي والمدارس، وسط شلل تام لمظاهر الحياة، وحركة نزوح داخلية وإلى دول الجوار طالت نحو ربع الشعب السوداني.

لم تقدم قوات الدعم السريع نموذج حكم جذابًا، وانتشرت عمليات السلب والنهب والاختطاف والقتل في المناطق الشاسعة التي سيطرت عليها، مما أكسبها نفورا واسعا بين عموم المواطنين، فيما سادت مخاوف من انتقال الحرب والفوضى إلى دول الجوار، مما يعني تأثر ليبيا وتشاد ومصر وأثيوبيا وإريتريا فضلا عن المحيط الأوسع في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وجنوب الصحراء وشمال أفريقيا.

من التمدد إلى الانحسار

بمضي الوقت، ظهرت بيد عناصر الدعم السريع أسلحة متطورة لم تكن منتشرة في السودان سابقا، ولم تظهر عند بداية القتال، مثل صواريخ الكورنيت الموجهة المضادة للدبابات، والطائرات المسيرة المزودة بصواريخ، والمسيرات الانتحارية، ومدرعات حديثة ثقيلة، فضلا عن أنظمة مضادة للطائرات المسيرة.

اعتمد الدعم السريع في حصوله على تلك الأسلحة المتطورة على دعم من أطراف إقليمية عبر استخدام مطار أم جرس في تشاد، وهو ما أثار خلافات في الداخل التشادي، فالنخبة الحاكمة التشادية تنتمي لقبيلة الزغاوة، التي يحارب أبناؤها ضد الدعم السريع في دارفور على الحدود السودانية التشادية.

وانتشر الحديث في تقارير الأمم المتحدة والصحف الكبرى مثل نيويورك تايمز عن الأسلحة والذخائر المنقولة عبر تشاد إلى الدعم السريع، فبدأت محاولات لفتح خط إمداد إضافي عبر الحدود الإثيوبية، فدشن الدعم السريع نهاية عام 2024 هجوما باتجاه ولاية الجزيرة ومنها في منتصف عام 2024 إلى ولاية سنار التي تقع على حدود إثيوبيا.

ورغم نجاح الجيش في طرد قوات الدعم السريع من ولاية سنار ومدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة، فإن فلول الدعم السريع الهاربة تمددت إلى مناطق جديدة مستغلة المساحات الواسعة في السودان للوصول إلى مناطق في ولايتي النيل الأبيض والنيل الأزرق المتاخمتين لدولتي جنوب السودان وإثيوبيا.

إعلان

لقد انعكست تلك التطورات على علاقات الخرطوم مع جوبا، فمع انتشار اتهامات بمشاركة مقاتلين من جنوب السودان مع قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة وأماكن أخرى، حدثت اعتداءات بحق عدد من مواطني جنوب السودان عقب استعادة مدينة مدني، مما أحدث حالة غضب في جنوب السودان، فاندفعت جموع هائجة لمهاجمة محلات ومنازل المواطنين السودانيين المقيمين في العاصمة جوبا في يناير/كانون الثاني الجاري، وسط دعوات من الجيش السوداني وحكومة جنوب السودان للمواطنين بالهدوء وتجنب الانجرار لاعتداءات على أساس الهوية العرقية أو الإثنية.

وأضافت تلك الأحداث أزمة جديدة لدى جنوب السودان المتضرر بشدة من إغلاق خط أنابيب نقل النفط للتصدير من أراضيه عبر موانئ السودان بسبب الحرب. فيما سبق لقائد قوات الدعم السريع حميدتي أن اتهم عناصر من التغراي في إثيوبيا بالقتال مع قوات الجيش السوداني، مما يوضح بعض الأبعاد الإقليمية لما يحدث في السودان، وتداعياتها على دول وارتباطاتها بصراعات أخرى تدور داخل تلك الدول.

استعادة الدفة

حاولت عدة أطراف إقليمية ودولية دفع قيادة الجيش السوداني والدعم السريع للجلوس للتفاوض، ورعت واشنطن مؤتمرا للتفاوض بمدينة جنيف السويسرية في أغسطس/آب 2024، لكن الجيش رفض الحضور، فالواقع الميداني لم يكن في صالحه، والتفاوض آنذاك يعني تكريس المكتسبات الميدانية التي حصل عليها الدعم السريع بشكل سياسي.

وقد برزت عناوين للتفاوض تتضمن معاملة الأطراف المتقاتلة بشكل يتسم بالندية، وعدم الاعتراف بالجيش كممثل للشرعية إنما كطرف في خصومة مع طرف آخر يمثله الدعم السريع، وفي المقابل أصر الجيش على أنه يمثل شرعية الدولة في مواجهة جماعة متمردة.

إن امتناع الجيش عن حضور مفاوضات جنيف لم يمر دون ثمن، فقد أضافت وزارة الخزانة الأميركية قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إلى قوائم العقوبات في يناير/كانون الثاني 2025 بعد أن أضافت قبله بأيام قائد قوات الدعم السريع حميدتي لذات القائمة، وذلك للضغط عليهما، ودفعهما للجلوس معا.

إعلان

فواشنطن منزعجة من دخول أطراف منافسة على خط الصراع، مثل موسكو التي عدّلت بوصلتها نحو الجيش السوداني بعد أن دعمت شركة فاغنر سابقا قوات الدعم السريع، وصولا لاستخدام روسيا الفيتو ضد مشروع قرار بريطاني في مجلس الأمن الدولي اعتبرته قيادة الجيش السوداني يمس أمن البلاد ويضع الجيش مع الدعم السريع على قدم المساواة، فضلا عن التوجس الأميركي تجاه طلب روسيا من القيادة السودانية الحصول على قاعدة بحرية في بورتسودان مما سيتيح لها الوجود في البحر الأحمر، وذلك بالإضافة لعودة العلاقات السودانية الإيرانية بعد انقطاعها منذ عام 2016، وإمداد طهران للجيش السوداني بعدد من الطائرات المسيرة.

في مقابل دعوات التفاوض، وبالتحديد مع نهاية موسم الأمطار في عام 2024، أطلق الجيش السوداني بحلول سبتمبر/أيلول 2024 هجوما مضادا واسعا بمشاركة عناصر هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات العامة وكتائب المستنفرين والقوة المشتركة التي تضم أغلب الجماعات الدارفورية المتمردة سابقا. ونجح الجيش في عبور العديد من الجسور الإستراتيجية على نهر النيل لكسر معادلة سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق غرب النيل.

ونجح في بداية هجومه في رفع الحصار عن معسكره في الكدرو بمنطقة بحري، ثم توالت إنجازاته الميدانية، وصولا لنجاحه في فك الحصار عن سلاح المدرعات في منطقة الشجرة العسكرية، مما مهد الطريق أمامه للتمدد في حي جبرة والاستيلاء على منزل حميدتي قائد الدعم السريع وصولا إلى فك الحصار عن مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بقلب الخرطوم.

ويسعى الهجوم المذكور لاستعادة العاصمة مما يتيح للجيش تعزيز شرعيته بإنجازات على الأرض، وأملا في حسم المعركة عسكريا، أو على الأقل تحسين موقف الجيش فيجلس لاحقا للتفاوض من موطن قوة.

لقد نجح الجيش السوداني في التضييق على قوات الدعم السريع بالخرطوم، حيث قصف بواسطة الطائرات بشكل متكرر شحنات الأسلحة على الطريق الرئيسي لإمدادات قوات الدعم السريع، والقادم من تشاد ثم دارفور وصولا إلى أم درمان ومنها إلى العاصمة عبر جسر خزان جبل أولياء جنوب الخرطوم. وبالتالي بدأت قوات الدعم السريع تعاني لتوفير الإمدادات وتحصين خطوطها الدفاعية في مواجهة الجيش.

إعلان رد فعل الدعم السريع

ردا على تقهقرها الميداني، لجأت قوات الدعم السريع لاستخدام سياسة الأرض المحروقة، فدمرت منشآت مصفاة الجيلي النفطية قبل انسحابها منها، كما استخدمت تكتيك مهاجمة محطات توليد الكهرباء في مناطق سيطرة الجيش باستخدام أسراب من الطائرات المسيرة، فدمرت محولات محطة الغزالة مما أغرق مدينة مروي الإستراتيجية بالولاية الشمالية في الظلام، ثم تكرر الأمر بالهجوم على محولات محطة كهرباء الشواك التحويلية بالقضارف مما أدى إلى انقطاع الكهرباء في القضارف وكسلا وسنار شرقي وجنوبي شرق السودان.

كذلك حاولت قوات الدعم السريع حسم معركة السيطرة على كامل إقليم دارفور، فحشدت مقاتليها لمهاجمة مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دافور الحصن الأخير المتبقي للجيش في الإقليم. وأعلن الدعم السريع في يناير/كانون الثاني 2025 مهلة 48 ساعة لإخلاء الفاشر قبل اجتياحها، وبالفعل هاجم المدينة من 5 محاور في وقت متزامن، لكن طيران الجيش قصف الأرتال المهاجمة فيما تصدت قوات الجيش والقوة المشتركة للهجوم الذي اعتُبر الأكبر من نوعه من حيث حجم القوات المشاركة فيه.

وفي الخرطوم تحاول قوات الدعم السريع لملمة صفوفها، وتشكيل خطوط دفاعية جديدة توقف زحف الجيش. فمدينة الخرطوم تختلف عن ساحات القتال الأخرى المنبسطة حيث توجد بها عمارات مرتفعة وكتل سكنية متقاربة ومتلاصقة، مما يمنح عناصر الدعم السريع موقفا دفاعيا يتلاءم مع قدراتهم القتالية، التي تناسب حرب المدن، ومن أبرزها مهاراتهم في استخدام الأسلحة النارية الخفيفة والمتوسطة، وامتلاكهم لأسلحة قنص وأسلحة محمولة مضادة للدروع، وقدرتهم على الحركة السريعة باستخدام عربات التاتشر، فضلا عن استخدامهم منازل المواطنين للاختباء وتخزين الذخائر وإعداد الكمائن.

في المقابل، يعتمد الجيش في معركة الخرطوم على الاستخبارات والطيران المسير ووحدات العمل الخاص فضلا عن مقاتلي هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة، باعتبارها الجهة الأكثر خبرة في حرب المدن بالسودان. وتعمل تلك المكونات على تحديد ارتكازات الدعم السريع ومقرات القيادة والسيطرة ومخازن أسلحته وخطوط إمداده وأماكن انتشار القناصة لاستهدافها بالقصف الجوي والكمائن كمقدمة للتقدم بريًا للسيطرة على المناطق المستهدفة، وربط مقرات الجيش المحاصرة داخل الخرطوم مع القوات المتقدمة من محاور القتال المتعددة، وبالأخص من ولاية الجزيرة.

إعلان الوساطة التركية

تقدمت عدة جهات غربية وإقليمية بمحاولات وساطة دون جدوى، لكن في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في 13 ديسمبر/كانون الأول 2024، اتصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وعرض عليه الوساطة بين الجيش السوداني ودولة الإمارات الحليف الأبرز لقوات الدعم السريع، وعقب الاتصال الهاتفي بأيام التقى برهان الدين دوران، نائب وزير الخارجية التركي، مع البرهان في بورتسودان، وأعلن البرهان ترحيبه بالوساطة التركية، لكنه لاحقا صرح بألا مستقبل للدعم السريع في السودان.

لم يرفض البرهان علنا الوساطة التركية، لكن لا يبدو أنه يراهن عليها حاليا كي لا يعرقل التقدم الميداني الذي يحققه الجيش أو يمنح فرصة للدعم السريع بالتقاط أنفاسه وتجميع شتات قواته أو تلقي أسلحة نوعية تغير مسار المعركة، كذلك فإن استعادة العاصمة الخرطوم ستمثل جائزة كبرى تعزز سردية الجيش بأنه يمثل الشرعية فضلا عن أهميتها السياسية والاقتصادية، فيما يشهد الشارع السوداني احتفالات جماهيرية عفوية وتأييدا شعبيا واسعا للقوات المسلحة، وهو ما لا يشاهد في مناطق سيطرة الدعم السريع، بل تشهد باستمرار احتكاكات بين مقاتليه وجموع المواطنين.

لقد سبق تناول دلالات استعادة مدينة مدني، وأنها تمهد الطريق لمعركة الخرطوم، وهو ما يجري حاليا بالفعل، ولذا فإن خيار التفاوض ستزداد فرص نجاحه بعد استعادة السيطرة على الخرطوم، ولكنه آنذاك لن يكون على أرضية النزاع بين كيانين متماثلين أو تقاسم السلطة أو إعادة هيكلة الجيش بشكل يلائم مطالب الدعم السريع، إنما سيكون على أرضية التفاوض بين سلطات دولة تسيطر على العاصمة وعلى معظم ولايات البلاد في مقابل كيان متمرد يسيطر على أجزاء من إقليم دارفور، وربما يؤدي نقل الجهد الرئيسي للقتال إلى دارفور إلى مزيد من الضغط على الدعم السريع، فيقبل قادته بشروط الجيش.

إعلان

ومع تبلور الملامح الجديدة لخريطة الصراع في الخرطوم، يترجح أن احتمال انهيار الدولة يتراجع، وأن السودان اجتاز خطر الصوملة، لتعود الأمور إلى الوضع الذي عاش السودان عليه لعقود بوجود تمردات في أطرافه، وهو وضع يظل خطيرا دون شك، فقد سبق أن أسفر عن انفصال جنوب السودان في عام 2011.

ولكن الفارق الآن أن الدعم السريع لا يحظى بإجماع شعبي في إقليم دارفور، حيث توجد خلافات عميقة داخل الإقليم بين المكونات القبلية ذات الأصول العربية والأفريقية، وهو ما يتجلى في القتال بين القوة المشتركة الممثلة لحركات دارفورية والدعم السريع، كما توجد خلافات حتى داخل المكونات العربية والحاضنة الاجتماعية للدعم السريع، فالقائد الشهير موسى هلال زعيم قبيلة المحاميد يدعم الجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع رغم أنه تجمعه بحميدتي صلة قرابة، وسبق أن عمل الأخير تحت قيادة هلال قبل أن يبزغ نجمه، وبالتالي فإن خيار الانفصال كما حدث في الجنوب فرصه ضئيلة.

وختاما، فإن الإدارة الأميركية الجديدة التي يقودها ترامب غير معنية باستمرار حروب مثل تلك التي تحدث في السودان، وربما تضغط من طرفها على بعض الجهات الخارجية المساندة للدعم السريع، فيما توجد جهات أخرى إقليمية منزعجة من استمرار الصراع، وفي مقدمتها مصر، وكذلك المملكة العربية السعودية. وبإمكان واشنطن وعواصم أخرى بالمنطقة تحجيم التدخلات التي تنفخ النار في الخلافات داخل السودان، وتقدم الإمدادات التي تتيح للدعم السريع مواصلة القتال وخوض معارك فقدت أهدافها السياسية التي دارت بمخيلة قادته عند بدء الحرب منتصف أبريل/نيسان 2023، فسيطرتهم على الحكم أصبحت أقرب للأماني والأحلام منها للواقع.

مقالات مشابهة

  • فك الحصار عن القيادة العامة في الخرطوم.. ماذا يحدث في السودان؟
  • الأيام القادمة ستشهد ازدحاماً عنيفاً على جسر جبل أولياء وقتالاً بين الهاربين فيما بينهم حول أولوية العبور
  • التمرد يتجرع الهزيمة في السودان
  • البرهان من مقر قيادة الجيش: “الدعم السريع” إلى زوال
  • هل يحسم فك حصار القيادة العامة معركة الخرطوم؟
  • انتصارات الجيش.. آخر تطورات الأوضاع في السودان
  • إلى أبطال القيادة العامة.. تحرير الخرطوم ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو رمز لصمودكم وإرادتكم
  • أخطاء الٱنقاذ الكارثية في عملية فصل جنوب السودان.. وتبعاتها في حرب الخرطوم أبريل 2023م
  • كاميرون هدسون: ترامب وحده القادر على صنع السلام في السودان
  • جيش الاحتلال: استهدفنا مواقع لحزب الله في جنوب لبنان خلال الأيام الماضية