جاءت أحداث غزه في السابع من أكتوبر لتؤكد على أمرين في غاية الأهمية هما:
الأمر الأول : أن الساحة العربية والإسلامية لم تشهد ولادة وحضور مقاومة تمتلك السلاح والمشروع والمنهجية الدفاعية ضد الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي فحسب، بل إن هذه المقاومة تمتلك الإرادة النافذة في تحقيق الهدف ( إنهاء الاحتلال ) والإرادة النافذة في وحدة وتقرير المصير (توحيد ساحاتها رغم التعقيدات الجغرافية) والأهم من ذلك محورية التحرك وتحرك المحور، وفي وجهة النظر التحليلية فإن هذا الأمر هو أكثر الأمور التي أثارت دهشة واستغراب الأمريكان، بل أثارت تخوفهم على مستقبل وجودهم في المنطقة، بعد أن راهنوا على نجاح ما عملوا خلال السنوات المنصرمة من خطط ومشاريع تقتضي تجزئة المقاومة وفصلها عن بعضها البعض على مستوى ميدان المواجهة قهراً وذلك بإشغال كل فصيل أو محور بافتعال مشاكل سياسية وعسكريه واقتصاديه نتيجة سياسة متبعة من قبلهم أخذت أطواراً متعددة وأشكالاً مختلفة من التنامي والاستحكام …
ولم يكن في حسبان الأمريكان ولا حساباتهم أن يجدوا يوما ما المقاومةَ وهي تواجه وتقاتل ضمن محور واحد وعمليات موحده وفي ميدان واحد ولقضية محددة ولذات السبب، من اليمن، مروراً بالعراق والجمهورية الإسلامية ولبنان ووصولاً إلى فلسطين المحتلة .


هذا ما كان مستبعداً تماماً من حسابات الأمريكان لأن الذي اشتغلوا عليه خلال العقد الأخير لغرض أشغال كل محور من محاور المقاومة وإغراقه بالمشاكل الخاصة به ليس بالشيء الذي يستهان به واليمن وما جرى خلال تسع السنوات خير مثال وشاهد على مدى خطورة المشروع الأمريكي الصهيوني في إشغاله عن أهدافه ذات الأولوية .
وهنا يجب أن نسجل نقطة لصالح محور المقاومة ضد السياسة الأمريكية وحلفائها وانتصاراً مفاجئاً كبيراً أمام المشروع الغربي الذي اشتغل عليه أمهر القادة ودهاة الساسة الغربيون لسنوات ليست بالقليلة.
وفي الحقيقة أن لليمن الدور الأكبر والأبرز في تجسيد هذه الوحدة وهذا التمحور، لكونه أول المبادرين والواصلين إلى ميدان المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني بصفة رسمية مدعّمة بتأييد شعبي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب الدولية، مما جر فصائل المقاومة إلى ميدان المواجهة لحوقاً باليمن الذي أستخدم أشد الوسائل وأكثرها ضرراً وتأثيراً على صعيدين: صعيد الحملة العسكرية الشرسة التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني على غزة، وصعيد الجبهة الدولية الداعمة (مادياً ومعنوياً) لهذا الجيش المحتل والمتمثلة في دول الغرب مجتمعه بقيادة أمريكا..
أما الأمر الثاني الذي أكدت عليه أحداث غزة: فيتمثل في تسديد الضربة القاضية للحلم الغربي باستمرار التسيّد على المنطقة العربية والإسلامية، وبقاء الهيمنة الأمريكية دون منازع لها من داخل المنطقة (وليس من خارجها هذه المرة)، بل أكدت الأحداث الأخيرة على وجود منازع قوي على السيادة والهيمنة على مصير هذه المنطقة وقرارها وأن هذا المنازع لن يرضى بأقل من فرض إرادته الكاملة (المستحقة) على قراره السيادي في البر والبحر والجو وكل ما يخص المنطقة وما يتعلق بها …
وهذا الأمر، في غاية الخطورة بالنسبة لأمريكا ويشكل الهاجس المزعج لقادتها، بل يشغل حالياً الحيز الأكبر في اهتمامات سياساتهم الخارجية وهذا ما يفسر صلابة موقفهم ووقوفهم مع كيان الاحتلال في حربه المسعورة، وشدة تمسكهم بخيار الإبادة الجماعية لسكان غزة وإحراق هذا الجزء من المنطقة بأفتك أنواع الأسلحة المحرمة دولياً .
لأنه، لم يكن في تصورات الساسة الأمريكان- بحسب منهجية السياسة الخارجية المتبعة ومشاريع تعزيز النفوذ (من علاقات خاصة بالأنظمة، وعلاقات مشبوهة مع التنظيمات الإرهابية، وتأثير كبير على الرأي العام، وتواجد عسكري مهول في المنافذ البحرية، والسيطرة الجوية والتكنولوجية، والقواعد العسكرية الثابتة، ومن جهة أخرى تحييد خصوم الهيمنة الأمريكية، وتقليص نفوذهم، واشغالهم بمعارك جانبية مع أدواتها تضمن عدم وصولهم حتى إلى أدنى مستوى من مستويات المساس بهيمنتها وسيادتها على المنطقة!
وعندما نقول المنطقة، فالمقصود البحر والمياه البحرية ومنافذها، لأن البحر هو الذي يشكل العامل الأهم في فرض السيادة وبسط الهيمنة والأمريكان إنما فرضوا هيمنتهم على كل العالم من خلال السيطرة البحرية والسيطرة على البحار من خلال التواجد في المنافذ والممرات والتحكم فيها وهناك نظرية مشهورة في علم السياسة تقول: (إن من يهيمن على البحر يهيمن على كل الدنيا وتؤكد هذه النظرية على أن سبب فقدان بريطانيا العظمى لسيطرتها على العالم وحضور السيطرة الأمريكية الطاغية إنما يعود لفقدان الأولى سيطرتها على البحار مقابل كثافة التواجد الأمريكي ).
إذن أمريكا استيقظت على وجود منازع كبير ويشكل خطورة بالغة على هيمنتها وسيادتها (أحادية القطب) على المنطقة، ولا من سبيل لإيقافه عن محاولاته نزع البساط من تحت القدم الأمريكية (من وجهة النظر السياسية الأمريكية)، إلا التمسك بخيار الإبادة الجماعية لسكان غزة ومحو هذا الجزء من خارطة فلسطين، بل ربما كل فلسطين لو أمكنهم ذلك! وبالتالي إنهاء دور المقاومة الفلسطينية تماماً والى الأبد كما هو الحال مع اليابانيين الذين لم يكونوا هم من يشكلون تلك الخطورة البالغة على هيمنتها في ذلك الجزء من الأرض بعد أن استطاعت التعامل معهم وإدارة الحرب والتحكم فيها من عام 1941م إلى 1945م بالمستوى الذي يضمن عدم وجود أي تهديد من قبلهم على مستقبل هيمنتها على تلك البلاد أو بالمستوى الذي يمكنها من إنهاء الحرب وحسمها لصالحها في أي وقت تريد، إنما الذي كان يشكل الخطورة البالغة في نظرها هو تواجد قوات الاتحاد السوفيتي بالأعداد البالغة والمهولة في أوروبا والذي يشكل العامل الأكثر خطورة في تهديد الهيمنة الأمريكية ولذلك تمسكت أمريكا بخيار الإبادة الجامعة لسكان اليابان وألقت في منتصف أغسطس 1945م قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي وبهذا استطاعت إخضاع الإمبراطورية اليابانية على الاستسلام وتسميتها باليابان المحتلة، كذلك استطاعت فرض نفوذها في مقابل الاتحاد السوفيتي (المقصود بالرسالة ) واستطاع الحلفاء تقسيم ألمانيا وبرلين وأوروبا بالستار الحديدي والحرب الباردة اللاحقة !
على هذا يكون خيار التمسك بالإبادة الجماعية هو الورقة الوحيدة المتبقية في رف الأمريكان القابلة للاستخدام في نطاق سياسة استعادة دور (شرطي الكوكب)، ولكن يبقى السؤال إلى أي مدى يمكن الرهان على هذه الورقة وهل خيار الإبادة الجامعية يجدي أمريكا في استعادة هيبتها وكامل هيمنتها على المنطقة ؟
الجواب واضح ويزيده وضوحاً تماسك المقاومة في غزة وصمودها أمام آلة الإبادة الصهيونية الأمريكية هذا من جهة: ومن جهة أخرى تنامي القدرات العسكرية الخارقة للجيش اليمني وفرض السيطرة على البحر الأحمر بشكل أكبر وباستحكام أكثر قوة ودهاء وخبرة .
كذلك الانتقال إلى مرحلة أشد خطورة على الأمريكان في ما يتعلق بالنزاع البحري وهي : تهديد التواجد الأمريكي والملاحة التابعة في محيطات أخرى كالمحيط الهندي والذي يعتبر النفس الأخير لرئة العالم الغربي، وهذا ليس بالتهديد البسيط الذي يمكن تلافيه باستخدام الأدوات (كما يتصور البعض) فأمريكا أذكى من أن توظف أدواتها البئيسة لتلافي مشكلة وتهديد بهذا الحجم الذي يهدد حكومتها، واستقرارها لما له من انعكاسات سلبية على الشارع والمواطن الأمريكي الذي لا يمكن أن يتحمل مغامرات حكومته على حساب اقتصاده وثبات مقومات معيشته لأجل حفنة من اليهود يعيشون على أرض يعلم أنها ليست لهم! ويمارسون أبشع الانتهاكات والجرائم!.
إذن هذه مشكلة ومعضلة لا تحلها الأدوات الرخيصة، بل ان تَدَخلها قد يفاقم المشكلة ويزيدها تعقيداً على أسيادهم، ومثلها جدير أن يبحث الأمريكي عن حلها بنفسه وبوسائله المباشرة وليس المتاح أكثر من وسيلتين وهما:
– المضي في خيار الإبادة الجماعية وبالتالي إنهاء وجود المقاومة تماماً في فلسطين، ولكن المعطيات تشير إلى عكس هذا وتفيد بأن هذا غير ممكن، بل بعيد كل البعد وأن المقاومة راسخة وثابتة وتحقق انتصارات كبيره.
والوسيلة الثانية : التخلي عن الكيان المحتل تماماً، ولكن هل التخلي عن الكيان سيضمن لها استعادة هيمنتها على البحار ؟!
كلا، فنزاعها مع اليمن الآن لم يعد متعلقاً بغزة (ربما نزاع الكيان مع اليمن متعلق بغزة) أما أمريكا فنزاعها مع اليمن بات نزاع فرض سيادة وهيمنة وهذا شيء آخر عن النزاع المتعلق بغزة وموقف اليمن منه وموقف أمريكا كذلك من الكيان.
إذن النزاع الأمريكي مع اليمن حول الهيمنة هو نزاع استثنائي ولن ينفك بأي تسوية داخل الأراضي الفلسطينية على الأطلاق، وإنما ينفك بانسحاب أحد الطرفين، والقدر المتيقن أن اليمن ليس ذلك الطرف لاعتبارات كثيرة يطول شرحها
بل المحتمل جداً جداً هو انسحاب المحتل الأمريكي، ليس من نزاع الهيمنة على البحر مع اليمن إنما انسحابه من المنطقة برمتها وهذا واضح جداً لاعتبارات فوق أن تحصى وأهمها: أولاً: إنه بعد تخليه عن أهم عامل مؤثر على بقائه في المنطقة وعليه تقوم سيادته وهيمنته فيها لا يستطيع حماية نفسه من أي تهديدات قد تلاحقه في قواعده الثابتة.
وثانياً: أن القواعد الثابتة (البرية) ليست تلك التي يعول عليها في بسط النفوذ والتحكم، بل تصبح عامل ضعف لدولها وتشكل عبئاً اقتصادياً على تلك الدول.
ثالثاً والأهم: نزع الثقة من الأمريكان من قبل حلفائهم، فالأمريكي في غير المحيطات والمنافذ البحرية ذات الأهمية الاستراتيجية، هو متواجد على أساس مصلحة الحلفاء ومصلحة الحلفاء تتمثل في الحماية وأي حماية لهم من الأمريكان بعد فقدان أمريكا لأهم أداة تطوع بها العالم ؟!
لا يمكن أن نقول إن تواجد أمريكا في الخليج كافٍ لضمان مصالح حلفائها، فالخليج أيضا ملغوم ووجود الأمريكان هناك محاصر بمضيق هرمز الذي يتحكم فيه أيضا محور المقاومة وتواجد أمريكا هناك فقط لا يمثل أي مستوى من الحماية لا للحلفاء ولا للمصالح الأمريكية على حدٍ سواء في حال فقدت هيمنتها في البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن بل هو تواجد شكلي لا يسدّ ولا يحدّ والمتيقن هو فقدانها لهذه السيادة البحرية وكل المؤشرات تؤكد ذلك !
بالإضافة إلى أن هؤلاء الحلفاء سيتنازلون أكثر عن التمسك بخيار بقاء أمريكا لغرض حمايتهم بعد أن أثبتت عجزها عن حماية قواعدها المتنقلة فضلاً عن غيرها وأثبتت أن كل ما جلبته من أدوات ووسائل حمايه هو في حد ذاته يفتقر إلى أدنى مستويات الحماية !
ولك أن تتصور الى أي مدى يمكن أن يصل حجم اليأس والإحباط في قلوب حكام دول الخليج وهم يرون أمريكا التي جاءت وتواجدت لغرض حمايتهم تترجى منهم المساعدة – بإسناد دور الوساطة للبعض وإغراء البعض الآخر بإلغاء الاتفاقات – لفك شفرات عقدة البحر الأحمر التي أحكم اليمنيون تلغيزها !
وعلى إثر هذا لا أقل من انسحاب أمريكا من المنطقة هذا ما تؤكده المعطيات وتجدد تأكيده الأحداث والفعل وردات الفعل، بل هذا ما نجزم به ونعتقد ونؤمن به من منطلقات إيمانيه لا يخالطها ريب بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين.. ولكن هل هناك مؤشرات لهذا الانسحاب ؟
نعم هناك مؤشرات ومعطيات تؤكد على أن الأمريكان لن يطول بقاؤهم طالما أن وجودهم لم يعد ذا نفع، لهم من جهة ولمن تمسك في بقائهم من جهة أخرى، فمنافع أمريكا في المنطقة عباره عن برميل نفط وهذا البرميل سيأتيها بشكل أمن مما لو اختارت البقاء وفرضت وجودها بالقوة، نعم ربما في عقود منصرمة تطلبت تجارتها النفطية لإنشاء قواعد حمايه في البحار والمحيطات ومنافذها، أما الآن لم تعد التجارة الدولية بل التجارة بين القارات تحتاج إلى مثل هذا التواجد خصوصاً التواجد الأمريكي وبالخصوص في هذا الجزء من الأرض لما يشكل هذا التواجد المبغوض من تهديد على خطوط التجارة نفسها وعلى مكانة الحكومة الأمريكية داخلياً وأمام العالم !
ومن المؤشرات أيضاً: تخلي حلفاء أمريكا الغربيين عنها وتنصلهم عن أي مسؤولية فعلية في مواجهة الرياح العاتية التي تعصف بالقارب الأمريكي في مياه البحر الأحمر والعربي وما يتصل بها من محيطات واكتفائهم بالمؤازرة الشكلية لها في حرب ترى أنها خاسرة ومن جهة لا تخص مصالحها بمعزل عنهم..
ومما تجدر الإشارة والتنبيه عليه أن أمريكا حالياً تواجه تهديدين، تهديد وجود، وتهديد هيمنة في منطقة معينة (العربية والإسلامية) ولا يمكن لأمريكا أن تواجه تهديد هيمنتها بخوض حرب تساعد على مضاعفة حجم تهديد وجودها وتذهب في رحلة مغامرة، من المحتم أنها ستضعف فرص تفوقها وتغلبها على روسيا التي تشكل التهديد الوجودي لها خصوصاً وأن أمريكا ترى أنها حالياً تخوض حرباً مع روسيا عبر وكلائها الأوكرانيين، وهي حرب وضعت أمريكا كل ثقلها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري فيها، لما يترتب عليها من مصير سيئ لوجودها في أوروبا فيما لو حسمتها روسيا لصالحها، بل إن أمريكا غير مستعده لتفادي الحرب مع روسيا لو تطلب عدم سقوط كل أوكرانيا بيد الروس على خوضها.
والضامن لعدم سقوط أوكرانيا -التي تمثل أمريكا في هذه الحرب المصيرية لكلتا الدولتين- هو بقاء أمريكا مستيقظة ومسلطة كل الجهود لدعم هذه الحرب وكذلك بقاءها بجاهزية واستعداد عسكري واقتصادي تام تحسباً للحرب فيما لو فشلت خطط التصدي الأوكرانية وتطلب الأمر تدخلها المباشر، وكلاهما يتطلب عدم دخولها في أي مغامرة لخوض حروب مباشرة تضعف هذه الجهوزية وهذا الاستعداد ومن المحتم أن بقاءها في المنطقة العربية والإسلامية – بعد الأحداث الأخيرة في غزة وبعد أن هشّم اليمنيون هامة جبروتها- يدفعها إلى أتون حرب تقضي على ما تبقى من هيبتها وتضعف استعدادتها أمام خصمها الروسي العنيد وتضاعف حجم تهديده الوجودي لها، والخيار الأسلم لتفادي هذا كله هو إنهاء وجودها العسكري في المياه العربية والإسلامية.
ثم لا يفوت في هذا الصدد أن أمريكا قد مهدت بتنصلها عن أي مسؤولية تجاه قضايا المنطقة (وهو مؤشر للرحيل) حين رفضت توقيع إتفاقية أمنية ملزمة مع المملكة العربية السعودية ترقى لمستوى ضمانات البند الخامس لحلف شمال الأطلسي بموافقة الكونجرس أو الموافقة على عضويتها في هذا الحلف، وكذلك تخليها عن الكيان الصهيوني في مواجهة الضربات الصاروخية الإيرانية الكبيرة وإبلاغ ايران أنها لن تتدخل في هذا الأمر برغم أن الكيان حليف رئيسي ليس أقل من أي عضو في حلف شمال الأطلسي !
وأخيرا بادرت دول مجلس التعاون الخليجي إلى تنبيه الأمريكان بعدم استخدام أراضيها ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حال قررت الرد على الضربة الإيرانية لحليفها الرئيسي وأعلنت إغلاق مجالها الجوي أمام أي تحرك عسكري، وهذا ما كان ليحدث من هذه الدول لو كان الأمريكي في نظرهم حليفاً صادقاً مرشحاً للبقاء ..

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

هل لا يزال نتنياهو يحلم بمشروع إسرائيل الكبرى؟

عادة ما يتلذذ نتنياهو بترديد، ما يشير إلى أنه مبعوث قوة "روحية/ خفية" مؤيدة وداعمة له لإنجاز مشروعه عن "الشرق الأوسط الجديد" ـ وهو المصطلح "الناعم" لمعنى إسرائيل الكبرى ـ وأن "رسالته" إلى العالم، كانت مرهونة بمآلات الحرب على الجبهة اللبنانية، فيما كان واثقًا وكأن "بطاقة ضمان" دسّتها تلك القوةُ الخفية في جيبه، مُرفقًا بها خريطة هذا "الشرق المزعوم" الذي يستخدمه نتنياهو كـ"مرهم" و"مُلطف" للجرح الإسرائيلي النازف منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، فيما يعتقد آخرون من حاضنته السياسية، الأكثر اعتدالًا ورصانةً، بأنه "يوتوبيا" ومثل من يطلب "لبن العصفور" كما يقول المثل الشعبي العربي.

إسرائيل ـ منذ هزيمتها في حرب "أكتوبر/ رمضان" 1973 ـ لم تحقق أي انتصارٍ إلا على المدنيين والمخيمات، وظلت عالقة بعد أكثر من 15 شهرًا من بربريتها في مخيم بحجم "جباليا" وبضعة أمتار في قرى جنوب لبنان، ومع ذلك ما انفكت تتكلم بوقاحة عن عدم رضاها بـ"إسرائيل الصغرى"، وأنها في سبيلها لإنجاز "نسختها الكبرى" تحت لافتة الشرق الأوسط الجديد.

وكما يقولون "الزَّنُّ على الوِدان/الأُذُن" أمرُّ من السحر، تصدَّرَ المشهدَ داخل الكيان، صحفيون ومعلقون، لإسالة هذه الديماغوجية إلى حقيقة متوهّمة، تجري في شرايين اليمين الشعبوي المتطرف مجرى الدم، ويتحدثون في صلف بأنَّ مرحلة ما "بعد حزب الله" ستكون مُدخلًا لتل أبيب، نحو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وإحالته إلى "منطقة سلمية" قادرة على إدارة المصالح المتضاربة طوعًا أو بعصا إسرائيل الغليظة.

إعلان

لم يكن هذا التفكير المتفائل بالأمر الجديد، فبعد حرب الخليج عام 1991، واتفاقات أوسلو عام 1993، والربيع العربي عام 2011، روّج الخبراء الإسرائيليون لسيناريوهات وردية مماثلة، ولعلّ أشهرها كتاب شيمون بيريز صاحب الرؤية الذي ألفه في تسعينيات القرن العشرين حول "الشرق الأوسط الجديد"، وهي النبوءة التي قال عنها المفكر الإسرائيلي إفرايم أنبار: لقد تبين لاحقًا أنها "كلامٌ فارغ".

غاب لفترة ـ ليست بالقليلة ـ هذا الخطاب المتبجح، والمسلح بالحجج الدينية، وبغطرسة القوة على الأرض، ولعله قُمع وأحيل إلى "اللاوعي الإسرائيلي"، بفعل مرحلة الإحماء التدريجي والناعم التي شهدتها المنطقة ـ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ تمهيدًا لإدماج إسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة، وذلك إلى ما قبل طوفان الأقصى، الذي وضع العصا في عجلة التطبيع، فتعثر كلُّ شيء وتناثر المشروع مع بعثرة جثث الضحايا تحت أنقاض غزة المدمرة.

بيد أن صورةً لجندي إسرائيلي، التقطت له أثناء العمليات في غزة، في يونيو/ حزيران 2024 وهو يرتدي "شارة/ خريطة" إسرائيل الكبرى على زيّه العسكري ـ مطابقة لتصريح ثيودور هرتزل الذي مضى عليه أكثر من قرن من الزمان ـ أثارت غضبًا واسعًا في العالم العربي.

الخريطة ـ كما بدت على ذراع المقاتل الإسرائيلي ـ شملت مناطق من النيل إلى الفرات، ومن المدينة المنورة إلى لبنان، بما في ذلك أراضٍ من سوريا، والأردن بأكمله.

ومن المرجح أن ما أثار الغضب العربي هذه المرة، لم يكن وجود الخطة، بل ظهورها في الفضاء الأوسع لوسائل الإعلام الاجتماعي، إذ في مطلع العام 2024، وفي مقطع صوتي مسجل، قال السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين: "… في النهاية، ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، ثم من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى نهر الفرات. وتساءل:

ومن الذي يقع على الجانب الآخر من الفرات؟ الأكراد! والأكراد أصدقاء. لذا، لدينا البحر الأبيض المتوسط ​​خلفنا، والأكراد أمامنا، ولبنان، الذي يحتاج حقًا إلى مظلة حماية إسرائيل، وبعد ذلك أعتقد أننا سنستولي على مكة والمدينة وجبل سيناء، ونطهر تلك الأماكن " بحسب أوهامه المريضة.

إعلان

ولم يلقَ هذا المقطع ـ آنذاك ـ ردود أفعال غاضبة، ولعل ذلك يرجع إلى أن الحرب كانت في مراحلها الغضة، بكل تجلياتها "المبهجة" من انهيار الأساطير المؤسسة لـ" الدولة التي لا تقهر"، وتنامي الانطباع المصاحب لـ"النصر الغزي"، بأن ثمة شرقًا أوسطَ، يتشكل في رحم الغيب قد يكون بدون "إسرائيل".

بيدَ أن مشروع "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد"، اكتسب زخمًا أكبر، واهتمامًا متجددًا، مع النجاح التكتيكي الذي حققه نتنياهو، في المراحل الأولى من حربه على حزب الله (تصفية غالبية قياداته السياسية والأمنية والميدانية).

وفي حين ظل التوسع الإقليمي الإسرائيلي، بمسوغاته الدينية/ التاريخية، ومدى موضوعيته، يعيد ـ في العالم العربي ـ إنتاج خطابه الشعبوي كأداة للحشد والتعبئة والتخويف من التطبيع بدرجاته، أو كأداة بيد المعارضة السياسية، تستخدمها في إدانة أنظمة عربية تراها "متسامحة" مع المشروع، فإنه كان يخضع ـ مع كل أزمة ـ لاختبارات قاسية داخل دوائر النخبة الإسرائيلية، أو يُدرج على رأس أجندة مؤسسات بحثية، معنية بمستقبل منطقة الشرق الأوسط، وتبدأ من جذور المشكلة وأصولها، مثل التساؤل بشأن تحديد درجة علمية مطالبات هرتزل بالأرض، وخلص بعضها إلى أن هناك اتفاقًا واسع النطاق بين الباحثين على أن الكتاب المقدس لا يمثل مصدرًا تاريخيًا علميًا، وبالتالي فإن رواية العودة إلى إسرائيل، أو إسرائيل الكبرى يمكن ربطها بخطاب جدلي، وليس تاريخًا مفصلًا للمنطقة أو الحقائق الديمغرافية على الأرض.

لقد أخضعت البروفيسور إيكاترينا ماتوي ـ مديرة برنامج الشراكة مع الشرق الأوسط  MEPEI ـ مقولات "هرتزل" والأصول التي أقام عليها بنيانه التوسعي لنقاش أقرب إلى اختبار صحة الأسانيد التي يستقي منها الشرعية التي تملك القدرة على الإقناع أو قياس المسافة التي تفصلها عن المشروع كحتمية تاريخية ومؤجلة.

إعلان

وتساءلت: إذا كانت هذه الأرض إسرائيلية، فلماذا يتم شراؤها من ملاك قانونيين قائمين؟ وإذا كانت أطروحة الأرض "القاحلة" التي روجت لها وسائل الإعلام، أو "الأرض الشاغرة" بحسب "هرتزل" فلماذا يشتريها الإسرائيليون؟

ليخلص البرنامج إلى القول: يمكننا أن نؤكد أن طبيعة مطالب هرتزل المتعلقة بالأرض ليست علمية، فبينما كانت هناك أسباب دفعت الحركة الصهيونية إلى التفكير في تأسيس دولة يهودية مستقلة، فإن موقع وطريقة تنفيذ مثل هذا المشروع كانا خاضعين لمفاوضات أطول مع ضامني القوة في تلك الأوقات، أي القوى الاستعمارية السابقة، ألمانيا، ثم الولايات المتحدة في وقت لاحق، وكانت هذه اتفاقات ذاتية.

وإذا كان قد تم تحقيق أهداف الحكم الذاتي والحماية الذاتية التي ذكرها هرتزل، فإن هذه الحماية الذاتية تعتمد بشكل كبير على المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية حتى يومنا هذا، ما يعني أن "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد" يظل قرارًا دوليًا وليس إسرائيليًا محليًا، وهو القرار المستحيل، بسبب المصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.

في هذا السياق فإن معهد القدس للإستراتيجية والأمن الذي تأسس عام 2017 ويصر على أهمية القدس الموحدة كأساس لأمن الدولة والهوية الوطنية للشعب الذي يعيش في "صهيون" بحسب زعمه.. تهكم من فكرة "شرق أوسط جديد" ما بعد "حزب الله، وقال في لغة ساخرة: "من السذاجة الاعتقاد بأن حدثًا واحدًا قد يغير المشهد السياسي في منطقة بأكملها، فحتى النهاية الحاسمة للحرب الباردة والنصر الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة على صدام حسين ـ وهما حدثان كان لهما تأثير دولي كبير ـ لم يحدثا إلا القليل لتغيير السياسة المحلية أو الدولية في الشرق الأوسط.

ويعتقد المعهد أن الشبكة المعقدة من الديناميكيات المحلية والدولية لا تشجع على التعايش السلمي، وإذا كان السعي إلى تحقيق شرق أوسط أكثر سلامًا يشكل مشروعًا نبيلًا، بحسب زعمه، فإنه يظل مهمة شاقة في الوقت الراهن.

إعلان

وينتهي إلى القول: " إن الدرس الذي يجب على إسرائيل أن تتعلمه هو أنها سوف تضطر إلى العيش على سيفها لسنوات عديدة قادمة، ورغم أن فترات انخفاض التوتر، مثل تلك التي تتمتع بها إسرائيل مع مصر والأردن، ممكنة بالتأكيد، فإنها لا تعكس علاقة ثنائية مختلفة نوعيًا، مثل العلاقة بين كندا والولايات المتحدة، وإن الانتقال من علاقة غير عنيفة إلى صراع مسلح قد يحدث بسرعة، ولا بد أن تكون إسرائيل مستعدة لهذا الاحتمال".

لا يوجد ما يشير بوضوح إلى أن إسرائيل قد تتخلى عن هذا الهدف، أو أنها قد تتنازل عن مشروع إسرائيل الكبرى، ومع ذلك، فإن الفكرة الرئيسية التي تظهر في الحجج التي تدافع عن مشروع إسرائيل الكبرى، أي العصر "الجديد" الدائم، قد تمثل بالفعل سببًا للتأمل.

فمع اقتراب العالم من نهاية عصر النفط الكبير، وتضاعف طرق التجارة على المستويين؛ العالمي والإقليمي، سوف تكون هناك حاجة إلى تغييرات نموذجية جديدة بالنسبة للقوى العظمى التقليدية من أجل التنافس سلميًا مع القوى الصناعية والتجارية الناشئة.

وفي حين تتمتع إسرائيل باستقلال نسبي ـ كما تدعي ـ وتزيد من حصتها في حماية نفسها، فإن أهمية الدعم الأجنبي قد تظل تشكل عنصرًا أساسيًا في سياستها الإقليمية، وعند تحليل مشروع إسرائيل الكبرى، يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار ما إذا كانت دولة الحرب الدائمة المحتملة متوافقة مع التطلعات نحو التنمية الاقتصادية في زمن السلم، والتي من المفترض أن تنافس القوى الاقتصادية سريعة النمو في عصر جديد، ما يجعل فكرة "إسرائيل الكبرى/الشرق الأوسط الجديد" خرافة تصطدم مع أية قراءة رصينة وعاقلة، إن لم تكن حلمًا بعيد المنال، وبالتزامن مع تنامي نزعة الثأر من تل أبيب في المنطقة التي "عليها العين"، وبالتوازي أيضًا مع اختمار تيار إسرائيلي استشرافي بات أكثر قناعة بأن الشرق الأوسط الجديد.. قد يتشكل فعلًا على المدى البعيد، ولكن بدون دولة إسرائيل.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • انطلاق مؤتمر "طب السموم الإكلينيكي"
  • هل لا يزال نتنياهو يحلم بمشروع إسرائيل الكبرى؟
  • مع بدء العدّ التنازلي لـ«الانتخابات».. الإضرابات تشلّ «حركة النقل» في ألمانيا
  • مسؤول أمريكي سابق لشفق نيوز: خطة ترامب لتغيير الشرق الأوسط غير جيدة
  • بدء العد التنازلي للنسخة الثالثة من مبادرة المنفذ «كل يوم حكاية.. رمضان 2025»
  • بدء العد التنازلي للنسخة الثالثة من مبادرة كل يوم حكاية.. رمضان 2025
  • «فوربس الشرق الأوسط» تستضيف فعالية «أكتف أبوظبي 2025»
  • غوتيريش يدعو الى ضرورة إحراز تقدم لا رجعة فيه نحو حل الدولتين
  • جوتيريش: نطالب بتقدم لا رجعة فيه نحو حل الدولتين
  • لإظهار القوة.. قاذفات "بي 52" الأميركية تنفذ مهمة في المنطقة