توجعنا مشاهد الخراب والكوارث فى العالم العربي، إذ لا نغادر هما فى بلد ما حتى نجد أقسى منه فى مكان آخر، وهو ما يُحفزنا دائما أن نُفكر ونتدبر فيما يجب فعله.
ولاشك أن المشهد السودانى بما يستعر داخله من صراع دامٍ، وتتوالى فيه من مآسٍ قاسية، جدير بالالتفات والاهتمام من كل عربى بشكل عام، وكل مصرى بشكل خاص. ذلك أن السودان كان على مدى أكثر من قرن كامل إقليما جنوبيا للوطن نفسه فى ظل مملكة مصر والسودان.
وأتذكر أننى كتبت قبل عام بالتمام، وربما فى المكان ذاته، مقالا بعنوان «فى الصراع السودانى.. الكل مغلوب» مؤكدا أن الحرب الدائرة لا يُمكن أن تؤدى إلى أى نتائج طيبة، وأن القتال لا يحسم صراعا مثل هذا. وأتذكر أيضا أننى قلت إن الواجب على كافة الأطراف مد يد السلام والسعى للتهدئة واستعادة الاستقرار مرة أخرى فى هذا البلد العربى الشقيق، خاصة أن الصراعات الأهلية سبق وقادت السودان فى سنة 2011 إلى مصير مؤلم وهو الانفصال إلى دولتين مستقلتين، تعانى كلتاهما من تحديات اقتصادية عصيبة وأوضاع قاسية.
وإذا كانت الفوضى الآن هى عنوان الصراع الدائر، فإننا يجب أن نتذكر جيدا أن مصر أدت منذ البداية دورا عظيما، وسعت إلى التوسط لإنهاء القتال، ونبذ الحرب الدائرة، وتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة، وفتحت -رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة- أبوابها للأشقاء السودانيين دون قيود وحواجز، ضاربة المثل والقدوة فى دعم الأشقاء.
ورغم ذلك، فإن الأوضاع اليوم تزداد سوءا بصورة مخيفة، وهو ما يدفع مؤسسات الإغاثة الدولية إلى إطلاق مبادرات ودعوات لضرورة إنقاذ السودان من كارثة المجاعة التى قد تودى بمئات الآلاف من البشر نتيجة سوء التغذية.
فمن المعروف أن عدد سكان السودان يبلغ نحو 51 مليون نسمة، وأن هناك أكثر من 24 مليونا منهم يعانون من نقص الغذاء وضعف الرعاية الصحية نتيجة الحرب الأهلية، ولا شك أن ذلك يتطلب جهودا عربية قوية للضغط على الأطراف المتصارعة لوقف القتال، وتأمين إغاثة المدنيين، فى ظل تجاهل دولى غريب، لما يحدث.
صحيح أن الظروف صعبة والمشاهد موجعة فى فلسطين المحتلة منذ أطلقت إسرائيل حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وصحيح أن ذلك يتطلب جهودا دبلوماسية مكثفة لوقف العدوان، لكن ذلك لا يعنى أبدا أن ننسى الحرب الدائرة فى السودان، لذا فإنه من الضرورى أن ينتبه العالم العربى كله إلى ضرورة السعى لفرض السلام، والتكاتف لدعم الاستقرار وتأمين سبل الحياة فى السودان، والاصطفاف خلف مصر فى إغاثة الأشقاء السودانيين.
وسلامٌ على الأمة المصرية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: إغاثة السودان ضرورة عربية العالم العربي مكان آخر
إقرأ أيضاً:
السؤال الأصعب حول وقف الحرب في السودان
تعريف وفهم طبيعة حرب الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023 كمدخل لبحث كيفية إيقافها، إضافة إلى تعريف الآليات والوسائل المناسبة والممكنة لوقف القتال، ناقشناهما في مقالاتنا السابقة، وهما من ضمن الأسئلة الصعبة التي تشكل جوهر الرؤية المطلوبة كأساس للتفاوض حول وقف الحرب، مع التأكيد على أن صياغة هذه الرؤية هي من صميم عمل القوى المدنية والسياسية السودانية.
ولكن لعل من أهم هذه الأسئلة الصعبة وأشدها صعوبة، ما هو متعلق بمستقبل قيادة القوات المسلحة والخيارات المتاحة لأدوارها بعد توقف الحرب في السودان، وحول إصلاح وتطوير وتحديث القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى بما يحقق قوميتها ومهنيتها واحتكارها للعمل العسكري والنظامي في البلاد، وبما يتماشى مع المعايير الديمقراطية وتحت إشراف مدني، وضرورة تناول كل ذلك مقرونا بالتقرير في مستقبل قوات الدعم السريع وقوات الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى، واستكشاف الخيارات الممكنة أمام هذه القوات على أساس خضوعها لمبدأ بناء الجيش القومي والمهني الواحد في البلاد، وبناء المؤسسات النظامية الأخرى بذات الطبيعة وخضوعا لذات المبدأ، رفضا لتعددية المؤسسات النظامية في البلاد. وهذا ما سنتناوله في مقال اليوم.
بالطبع، فإن وقف إطلاق النار وإنهاء العدائيات يتطلب وجود طرفي الاقتتال، الجيش والدعم السريع، على مائدة التفاوض، في منبر جدة أو أي منبر آخر يتم التوافق عليه، لا بهدف النقاش على أساس ما يقدمه الخبراء الإقليميون والدوليون من الآليات الفنية لوقف إطلاق النار وإعادة نشر القوات فحسب، وإنما أيضا بهدف التفاوض على أساس الرؤية الوطنية التي تتضمن خيارات الإجابات على الأسئلة الصعبة المشار إليها، والتي تقدمها القوى المدنية والسياسية السودانية كمشروع رئيسي لوقف إطلاق النار الدائم. وبالنسبة للسؤال حول مستقبل الطرفين العسكريين، فأعتقد من الضروري البدء بنقاش المسؤولية القانونية حيال الحرب باعتبارها جريمة مركبة من عدة جرائم في حق الوطن والمواطن، تستوجب محاسبة كل من أشعلها وزكى نيرانها، وكل من ارتكب أو ساهم في ارتكاب الانتهاكات الفظيعة التي مورست خلالها. وفي هذا الصدد، فإن ضربة البداية هي تشكيل لجنة تحقيق محلية أو إقليمية أو دولية أو مختلطة، تتقصى وتحقق في كل تفاصيل هذه الجريمة المركبة، بما في ذلك المذابح التي جرت في دارفور، والتوصية بتقديم المتهمين إلى العدالة على ذات النسق الذي تم مع قادة الصرب في حرب البلقان. أما أي حديث عن العفو أو العدالة الانتقالية فيظل محكوما بالقانون الدولي الذي ينص على إنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب في جرائم الحرب. ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن مستقبل ودور كل من قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
أهم هذه الأسئلة وأشدها صعوبة، ما هو متعلق بمستقبل قيادة القوات المسلحة والخيارات المتاحة لأدوارها بعد توقف الحرب في السودان، وحول إصلاح وتطوير وتحديث القوات المسلحة السودانية
بالنسبة للقوات المسلحة، فإن الخيارات متعددة وتتراوح ما بين الإعفاء واستراتيجية الخروج، والمساهمة في الحل عبر «مجلس الدفاع والأمن» أو «مجلس الأمن القومي» برئاسة رئيس السلطة المدنية، رئيس مجلس الوزراء، والذي يتأسس وفق قانون يحدد مهامه وصلاحياته التي من ضمنها إعداد سياسات الأمن القومي وتنسيق السياسات الأمنية في البلاد بما يخدم وحدة السودان وسلامة وأمن أراضيه، كما يشرف على عمليات الدمج والتسريح، وعلى الترتيبات الأمنية والعسكرية المتفق عليها مع الحركات المسلحة، ويخطط وينفذ برامج بناء وتطوير وتحديث القوات المسلحة السودانية وقوات الشرطة والأمن، والإيفاء باحتياجاتها وتأمين مواردها. أما بالنسبة لقوات الدعم السريع، فأعتقد لا مجال سوى حلها وإلغاء قانونها، والتطبيق الفوري لإجراءات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج بالنسبة لأفرادها ما دون المستويات القيادية، بحيث يتم استيعاب هولاء الأفراد في القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى ومؤسسات الخدمة المدنية، ولكن وفقا لقانون وشروط الالتحاق بالقوات المسلحة أو القوات النظامية الأخرى، وكذلك قوانين وشروط الالتحاق بالخدمة المدنية. كما يتم البدء في تنفيذ الترتيبات الأمنية الشاملة بالنسبة لحركات الكفاح المسلح الأخرى، وانتقالها إلى الحياة المدنية، بما في ذلك تحول من يرغب منها إلى تنظيمات سياسية. وبالنسبة للاستثمارات والموارد الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فتتم تبعيتها للسلطة التنفيذية المدنية، وتستثمر لصالح إعمار ما دمرته الحرب ولتعويض ضحايا الحرب والمتضررين منها، ولتطوير وتحديث القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى.
هذه مجرد أفكار أولية في معرض الإجابة على أكثر أسئلة الرؤية صعوبة، قابلة للنقض والتطوير، ولا شك أن هناك العديد من الخيارات الأخرى يمكن طرحها على طاولة التفاوض، ولكن بالضرورة أن تحكمها بوصلة البحث عن مخرج يحقق وقف القتال، وكذلك ضرورة أن تحكم هذه الخيارات المتعلقة بمستقبل ودور كل من قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، نقطتان جوهريتان: النقطة الأولى هي ارتباط هذه الخيارات مقرونة بالمساءلة والمحاسبة القانونية على ارتكاب جريمة الحرب، أما النقطة الثانية فهي لا خيارات بدون مقابل.
وبالتأكيد، فإن المسألة مرتبطة بعملية الإصلاح العسكري والأمني، وهذا ما يمكن تناوله بالتفصيل في مقال آخر، ولكن تحضرنا هنا بعض المبادئ التي تحكم هذه العملية:
أولا، هدفها الرئيسي تصالح القطاع الأمني والعسكري مع القوى المدنية واستعادة الثقة المفقودة بينهما. ثانيا، ليس مجرد التفكيك والإحلال، وإنما تطوير وتحديث القطاع حتى يتماشى مع مفاهيم التحول المدني.
ثانيا، لا تتم بضربة واحدة وخلال فترة زمنية قصيرة، وإنما هي سلسلة عمليات مركبة تُبتدر خلال الفترة الانتقالية، لكن استكمالها واعتماد نتائجها تقوم به المؤسسات المنتخبة.
ثالثا، ترتبط بالإصلاح الشامل لكل مؤسسات الدولة الأخرى.
رابعا، هي ليست مجرد قرارات أو إجراءات سياسية أو إدارية أو فنية، ولا تخضع للمزايدات السياسية والإعلامية وإنما تستند إلى مفاهيم علمية متوافق عليها دوليا، وتستهدي بالتجارب الناجحة التي تمت في البلدان الأخرى.
خامسا، تنفيذها من داخل المؤسسات العسكرية والأمنية وبواسطة منسوبيها، على أن تخضع إلى رقابة المؤسسات المدنية من حكومة ومجلس تشريعي.
نقلا عن القدس العربي