كيف نعيد التفكير الواعي في الديمقراطية ؟
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
لا يزال الحديث عن قضية الديمقراطية في الكثير من دول العالم تشوبه الكثير من الارتباكات الفكرية والسياسية، بحسب التوجهات الفكرية والأيديولوجية لكل نظام سياسي قائم، فأصحاب التوجهات الشمولية اليسارية والماركسية، التي كانت تتبع النظام الاشتراكي آنذاك، كانت ترى الديمقراطي في تقدم للشعوب من الكفاية من العيش الكريم بحسب رأيهم، دون النظر لمسألة الحرية السياسية والحياة الحزبية، أو إتاحة الفرص لحرية التعبير أو إعطاء المجال للصحف الفردية بالعمل الحر، كما هو قائم في الغرب الليبرالي الرأسمالي، من حرية التعبير والصحافة الحرة، وغيرها من الحريات الممنوحة بحسب الدساتير القائمة.
لكن التحولات السياسية في المعسكر الاشتراكي، بعد سقوط هذا المعسكر عام 1991، بدأت أغلب دول هذا المعسكر في الدخول في النظام الليبرالي من قيام الأحزاب، والصحافة الحرة، وفي المقابل فإن النظام الليبرالي بدأ يتأزم، وبدأت حركات مناهضة للرأسمالية ونقد النظام الحزبي الذي يقوم على المال وشراء الأصوات، ومن هذه الحركات ما يسمى بـ(الحركة الشعبوية)، وهي أقرب للحركات اليسارية التي كانت في القرن الماضي.
وفي البلدان العربية، فإن التفكير في الديمقراطية، بدأ متأخرًا، بالمقارنة في العالم الغربي، لاختلاف الثقافة التي يراها البعض تجانب قضية الديمقراطية في بعض رؤيتها الفكرية، لكن البعض من الدول تمسكت بالمصطلح الإسلامي المقابل للديمقراطية الغربية، وهو الشورى، والبعض الآخر تماشى مع مصطلح الديمقراطية دون أن يلتزم بما كانت عليه هذه الديمقراطية في الغرب، مع الالتزام بالانتخابات من خلال التصويت، دون أن تكون هذه الممارسة بتلك الرؤية الديمقراطية فيما سار عليه الغرب الليبرالي، وينظر لها نظرة أخرى من حيث إن الفكرة تخضع لكل ثقافة ورؤية ذاتية دون أن نكون نسخة من الغرب في ممارساته لفكرة الديمقراطية.
ولذلك يرى البعض أن القبول بالديمقراطية ونتائجها عبر طريق صناديق الاقتراع، تحتاج إلى تدرج محسوب، وإلى وعي بالممارسة الديمقراطية، والغرب نفسه وهو الذي سبق العديد من الأمم والثقافات من أكثر من قرن ونصف القرن، في إرساء هذه الوسيلة وتفاعلاتها السياسية والفكرية، لم تأت دفعة واحدة في كل الدول، بل إن الديمقراطيات في الغرب، مرت بمراحل وخطوات، وتطبيقات متدرجة، حتى استطاعت المجتمعات أن تتقبل نتائجها بالصيغة التي نعرفها الآن. لذلك فإن فرص تطبيق الديمقراطية في المشهد العربي تواجه صعوبات عدة، علمًا أن هذا الأمر ليس سمة مقتصرة على المنطقة العربية وحدها؛ فللديمقراطية صعوباتها وإخفاقاتها في دول كثيرة كما نجاحاتها.
قد يقول البعض الاهتمام بتطبيق الديمقراطية في الوطن العربي مسألة مهمة للإصلاح السياسي، وإيجاد المناخ السلمي للتعبير، وإبعاد الاحتقان السياسي المتمثل في العنف والإرهاب والتوتر وعدم الاستقرار الذي تعانيه الكثير من المجتمعات العربية بسبب هذه الأزمة وتوابعها العديدة، لكننا نعتقد أن مشروعية تعميم الديمقراطية -مع أهميته- قد لا نجد له تلك الأرضية الحاضنة بسبب رواسب كثيرة، وتمددات عديدة جعلت الديمقراطية تتراجع كثيرا عما شهدته الدولة العربية التقليدية قبل الاستقلال من انفتاح سياسي وتعددية حزبية.
فالممارسة التراكمية للديمقراطية السليمة، هي الضمان من أي تعثرات جانبية، وهي التي ستكسب المجتمع الخبرات والتراكم المعرفي للأسس الصحيحة للحراك الديمقراطي السلمي في الوطن العربي، ومن هذه المنطلقات فإن المشاركة بأي وسيلة من وسائل التعبير تعتبر مجالًا حيويًا للتفاعل -كما يقول د. هادي نعمان- في التأثير: «حيث إن السلوك الفردي يتبادل التأثير مع السلوك الجماعي، وقد يوجه أحدهما الآخر تبعًا لعوامل وظروف متعددة. وفي الأحوال كلها يراد للمشاركة أن تكون فعّالة، والتي يمكن أن تجد لها تحقيقًا في عملية اتخاذ القرارات الاجتماعية عبر فرص متكافئة في التعبير عن الاختيارات.
وهكذا فإن المشاركة، مع أنها تتضمن إشراكا للمواطن إلا أنها تتسع لتشكل منظورًا أو منهجًا في تهيئة الأفراد للتعامل مع الحاضر ومواجهة احتمالات المستقبل بكفاءة، وهذا المنظور يؤلف ما يطلق عليه منهاج العملية الذي يقوم على تمكين المواطن من فهم المشكلات وأسبابها، وإشراكهم في التعامل مع تلك المشكلات التي يحسون بها».
ولا شك أن الحديث عن الديمقراطية وضروراتها الملحة للاستقرار السياسي، يعد من الأحاديث الذي يهتم له الكثير من الباحثين والمهتمين بالفكر السياسي الحديث بمتغيراته الكثيرة، ذلك أن فكرة الديمقراطية، كما طبّقت في الغرب، ومن خلال ما أسهمت فيه من توافقات من الفرقاء، سواء من الدول العربية أو النخب السياسية ورغبة الشعوب في ذلك، كان لها الأثر الإيجابي في جعلها تسهم في الاستقرار، وفي التداول السلمي للسلطة في الغرب، مما قلل من الصراعات والتوترات السياسية التي حصلت في القارة الأوروبية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وهذا ما جعل فكرة الديمقراطية تلقى رواجًا كبيرًا لدى العديد من الشعوب الأخرى، التي عانت من التوترات والصراعات الداخلية من خارج القارة الغربية، من جراء الحكم الشمولي، وفي غياب التعددية والرؤية التي تفتح المجال لاختلاف الآراء وتنوعها.
والبعض من الشعوب الأخرى يرى أن فكرة الديمقراطية، فكرة بعيدة عن الواقع الفكري لدى الثقافات الأخرى، فلماذا يتم استيراد هذه الوسيلة من خارج نطاق الجغرافيا؟ لكن هذا القول تبريره ليس واقعًا بصورة عامة، ذلك أن حركة الحياة فيها الأخذ والعطاء، من كل الثقافات والحضارات واقعًا في سنن الحياة البشرية، ففي العصر الإسلامي الأول، أخذ الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الكثير من النظم الإدارية من الحضارات الأخرى التي سبقت حضارة الإسلام في نظمها الإدارية والعسكرية، ذلك أن هذه طرق ووسائل، لا تقترب من الدين أو قيمه وإرثه الفكري، وهذا يتوافق مع الحديث الذي نسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فيه: (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها).
من هنا فإن الاستفادة من حكم وأفكار خارج من نطاق الدين، لا شيء يمنع من ذلك، وهذا مصداق لهذا الحديث الشريف، وحتى الشيخ الجليل، محمد الغزالي، قال في بعض كتاباته: «إن الديمقراطية وسيلة وطرق لإدارة الاجتماع البشري، وليست دينا يتم مقارنتها به». ولا شك أن الأمة تملك الكثير ما يقابل الديمقراطية في قيمها أو يتفوق عليها، وعبر تاريخها القويم، هناك محطات تستحق الوقوف عليها، لكن الإشكالية أن فكرة الشورى لم تتطور في فترة التراجع والانحطاط من قرون مضت، حيث إن نصوص الشورى عامة، ويمكن تطويرها بما يناسب كل عصر من العصور، وكان بإمكان أهل العقول النيرة من المجتهدين، أن يقوموا باستخراج هذه القيمة العظيمة (الشورى) من مجالها المحدود، إلى آفاق نظم وقوانين، ترتفع بهذه الرؤى الشوروية إلى مستويات ووسائل راقية للتطبيق، بما يحقق للأمة قيمة عظيمة مثل الديمقراطية ووفق قياس هذا المصطلح وأفضل منه، إلى قوانين ولوائح، لكيفية تأسيس شورى تبعد الفردية والاستبداد التي عانت منه الأمة كثيرا، ولا تزال تعاني منه حتى الآن.
والحقيقة أن الكثير من الباحثين العرب والمسلمين، تحدثوا عن هذه القضية وأهمية الديمقراطية لوقف الاحتقان السياسي، بما تتيحه وسيلة الديمقراطية من الاختيار الحر النزيه، لمن يتقدم للعمل العام، وهذه من المسائل التي لاقت قبولا كبيرا من النخب الفكرية والسياسية العربية منذ القرن التاسع عشر؛ لأن ما هو متبع لا يعطي مجالًا رحبًا للانفتاح السياسي، والقبول بالتعددية وفق المناخ الديمقراطي الذي يعكس التوجه المؤسسي للحريات العامة في اختيار من يرشح نفسه -كما أشرنا آنفًا- للعمل العام، والجمهور يختار من هو الأقدر ومن يتم التوسم فيه من القدرات التي تؤهله لهذا الواجب الوطني. فالديمقراطية في كثير من دول العالم لا شك أنها نجحت في أن تتيح المجال للنظم السياسية كما هو في الغرب أن تحقق القبول الكبير من الشعوب؛ لأنها تمس جوهر أحاسيس الناس ورغباتهم واختياراته المتعددة، ولذلك حققت ما كانت تفقده الكثير من الدول في عالم اليوم. صحيح أن الديمقراطية لا تخلو من عيوب ومن سلبيات؛ لأنها منطلقة من نظام سياسي رأسمالي جشع، في بدايات تطبيقها في الغرب، وله خلفية قاسية تجاه حقوق الطبقة الوسطى من حيث الاستئثار بالكثير من الحقوق دون التوازن في التوزيع العادل.
إن بلادنا عُمان بحمد الله سلكت منهج الشورى كنموذج إسلامي، واستفادت من تطورات العصر من حيث الإجراءات التي تتفاعل مع كل التطورات الجديدة، دون أن تخرج عن مواريثها الفكرية، فجمعت من فاعلية التاريخ وقيمه الذاتية، وتفاعلت مع العصر ومستجداته وتحولاته الفكرية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدیمقراطیة فی الکثیر من فی الغرب دون أن
إقرأ أيضاً:
عملية دوران النخب: ركيزة الديمقراطية وضمان استمرارية الدولة
#عملية_دوران_النخب: ركيزة #الديمقراطية وضمان #استمرارية_الدولة
بقلم: ا د #محمد_تركي_بني_سلامة
في الوقت الذي يواجه فيه الأردن تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية متزايدة، يظهر بوضوح أن عملية دوران النخب أصبحت ضرورة ملحة لتعزيز الديمقراطية وضمان استمرارية الدولة. إنها عملية تعكس الحيوية والانفتاح في النظام السياسي، وتساهم في ضخ دماء جديدة تُنعش مسيرة الإصلاح والتطور، بينما يؤدي الجمود وعدم خلق نخب جديدة إلى انغلاق النظام وتكلسه، مما يوسع الفجوة بين الحاكم والمحكوم.
إن تجديد النخب السياسية ليس مجرد إجراء تجميلي، بل هو عملية جوهرية لخلق توازن بين استمرارية الدولة ومتطلبات التغيير. عندما تُتاح الفرصة للكفاءات الجديدة لتولي المسؤوليات القيادية، يتم ضخ طاقات شبابية وأفكار مبتكرة قادرة على التفاعل مع التحديات المعاصرة. هذا التجديد يُعزّز الثقة بين المواطن والدولة، ويعيد الأمل بوجود نظام سياسي يتسم بالمرونة والقدرة على تلبية احتياجات الشعب.
في المقابل، فإن استمرار الاعتماد على النخب التقليدية، التي قد تكون قد استنفدت أفكارها وقدراتها، يساهم في ترسيخ الإحباط واليأس بين المواطنين. ويصبح السؤال المُلِحّ: لماذا لا نرى وجوهًا جديدة قادرة على قيادة المرحلة المقبلة؟ وهل تعجز الدولة عن إيجاد رجالات دولة يحملون هموم الشعب وطموحاته؟
مقالات ذات صلة حق العودة مقدس .. مسيرة حاشدة نصرة لغزة من المسجد الحسيني ترفض إلغاء الأونروا / صور وفيديو 2024/11/15إن غياب عملية تجديد النخب يعكس انغلاقًا سياسيًا قد يؤدي إلى تآكل شرعية النظام بمرور الوقت. حينما يشعر المواطن الأردني بعدم وجود قنوات طبيعية لإنتاج قيادات تمثله بصدق وتعبر عن همومه، فإنه يلجأ إلى وسائل أخرى للتعبير عن إحباطه، مما قد يُفاقم حالة عدم الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة.
التدوير المستمر للنخب ذاتها، دون إفساح المجال للوجوه الجديدة، يشبه إعادة تدوير الحلول القديمة لمشكلات حديثة. هذه العملية تُبرز فجوة عميقة بين الحكومة والشعب، وتضعف من قدرة النظام السياسي على مواجهة التحديات. إن هذا الواقع يتطلب وقفة جادة لإعادة النظر في آليات اختيار النخب وتمكين الكفاءات الشابة من الوصول إلى مراكز صنع القرار.
المصلحة الوطنية تتطلب أن تكون عملية تجديد النخب منهجية مستدامة تقوم على معايير الكفاءة والقدرة على تمثيل قيم الدولة ومصالحها العليا. النخب الجديدة ليست فقط واجهة للتغيير، بل هي أيضًا وسيلة لبناء جسور من الثقة مع المواطن. يجب أن تتمتع هذه النخب بالقدرة على التحرك وفق هموم الناس وتطلعاتهم، وأن يكون الأردن قضيتهم الأولى، مع تمسكهم بالبوصلة الوطنية التي تضمن مصالح الشعب والدولة على حد سواء.
كما أن الدور المطلوب من الدولة في هذا السياق يتمثل في توفير بيئة سياسية تُحفّز على المشاركة الفعالة، وتشجع على ظهور قيادات جديدة تحمل رؤى مستقبلية قادرة على قيادة المرحلة المقبلة. هذه القيادات يجب أن تكون قادرة على تقديم حلول مبتكرة للتحديات الراهنة، وأن تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
إن عملية دوران النخب تمثل فرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والنظام السياسي. إنها دعوة لتجديد روح الديمقراطية التي تضع مصلحة الشعب في قلب العملية السياسية. كما أنها تؤكد أن التغيير الإيجابي يبدأ من الداخل، عبر تفعيل المؤسسات السياسية وتمكينها من أداء دورها بفعالية.
الأردن يمتلك رصيدًا كبيرًا من الكفاءات القادرة على العطاء، ولكن يبقى التحدي في كيفية استقطاب هذه الطاقات وتمكينها. الدولة بحاجة إلى رجال ونساء يُدركون حجم المسؤولية الوطنية، سواء كانوا في مواقع المسؤولية أو ضمن صفوف المعارضة، على أن تكون مصلحة الأردن فوق كل اعتبار.
ختامًا، إن دوران النخب ليس خيارًا، بل ضرورة تفرضها تحديات المرحلة. يجب أن نعمل جميعًا على تحقيق هذه العملية بشكل ديمقراطي وشفاف، بحيث يُعاد بناء الثقة بين المواطن والدولة، ويُعزز من مكانة الأردن كدولة قادرة على مواجهة التحديات بثقة وحكمة. إن بناء المستقبل يبدأ بتجديد الحاضر، ودوران النخب هو المفتاح لتحقيق ذلك.