يمر من أمامي بيت شيخنا أبي الطيب المتنبي الذي يمدح فيه سيف الدولة الحمداني، فقال:
وَفي صُورةِ الرُّوميِّ ذي التَّاجِ ذُلةٌ
لأبلجَ لا تيجانَ إلا عَمائِمُه
وكنتُ كلما تفكرت في الصورة التي رسمها أبو الطيب أستشعر العزة والقوة والأنفة التي كان يشعر بها وهو يرى سيف الدولة يجلس منتصرًا عند صورة ملك الروم، وهو -أي سيف الدولة- الذي لا يرتدي إلا عمامته العربية، فكفته عن التيجان.
في الوقت نفسه الذي يمرُّ فيه هذا البيت في بالي، أنظر إلى المتهم الأول فيما يحدث للعالم العربي من مآسٍ، وهذا المتهم يأخذ مسميات عديدة فأحيانا يكون العرب، وأحيانا العروبة، وأحيانا الكرامة العربية، وأحيانا الضمير العربي وما إليه، والمشترك في هذه المسميات كلها هو العرب، وكأن العرب -باعتبارهم أصحاب هوية وثقافة عامة واحدة- هم الذين تسببوا في هذه المآسي. وكنتُ قبل مدة قد كتبت مقالا بعنوان «(هوياتي أيضا!).. دفاعا عن الهوية العربية»، ناقشتُ فيه مسألة الهوية العربية ومحاولة تقسيمها إلى هويات أصغر تتعلق بالدول القُطرية، وبينتُ كيف يسعى المحتل في تفكيكها ولأي هدف، وليرجع إليه للاستزادة. وهنا أود أن أقول: إن هذا «المتهم الأول» لا يجب إلا أن يكون «المتهم الأخير»، وقبل أن يُتهم يجب النظر لجميع العوامل والمتهمين قبله.
فما صدر هذا الاتهام إلا عن شعوبية حديثة مبطّنة، معلومٌ منشؤها، لكن ما يؤرق المضجع أن بني قومنا اتخذوها مطية وشماعة يُعلّق عليها كل سوء.
وهل كان هؤلاء العرب الذين يتهمون أنفسهم، أو هذه الكرامة/ الضمير/ الهوية إلا منهم وبهم وفيهم؟ وإذا كان هذا معلومًا، فما أشبهه بمن يطلق الرصاص على نفسه بدلًا من إطلاقه على عدوه!
بالعودة إلى الشعوبية، فإذا كانت في أول ظهورها واضحة وإلى حد ما بسيطة، وانبرى لدحضها وبيان ضعفها وانحلالها أناس من أعظم الكتَّاب والأدباء، من أبرزهم أبو عثمان الجاحظ، فإن شعوبية عصرنا معقدة ومتشابكة، مثل تشابك هذا الزمان وتعقيده.
لكن الناظر في الأمر يجد أن هذا الاتهام -باعتباره أول شماعة- لا معنى له؛ لأن هؤلاء المتَّهمين (العرب) هم من أسّسوا اللبنة الأولى لحضارة عظيمة، بلغت مشرق الأرض ومغربها، ولا ينكرها أو يُنكر فضلها إلا متعامٍ. وقد يقول قائل: كيف يُستشهد بأمثال الجاحظ العربي القديم واستحضاره في عصر غير عصره وقضية غير قضيته وعالم غير عالمه؟ فإن جواب سؤاله قد قاله هذا «القديم» أيضا، عندما ذكر في البيان والتبيين أن «لو علم القوم أخلاق كل ملة، وزي كل لغة، وعللهم في ذلك، واحتجاجهم له، لقلَّ شغبهم، وكفونا مؤونتهم»، فكيف إذا كان من أهل هذه الملل والشعوب الأخرى من يكتب عن العرب وحضارتهم، أمثال غوستاف لوبون الذي أفرد كتابا أسماه «حضارة العرب»، ولو لم يُقرأ إلا الباب الخامس -في طبعة دار الرافدين، ترجمة علي زعيتر- من الكتاب الذي تحدث فيه عن هذه الحضارة لكفى، وانظر إليه في خاتمة الكتاب يقول: «إن الأمم التي فاقت العرب تمدنا، قليلة للغاية، وإننا لا نذكر أمة كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثلما حققوا. وإن العرب أقاموا دينا من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا دينا لا يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم مدنوا أوروبا ثقافة وأخلاقا». فضلا عن كتّاب آخرين مثل لويس سيديو الذي كتب «خلاصة تاريخ العرب»، والعالمة الألمانية الشهيرة زيغريد هونكه، وغيرهم.
وقد يُقال: هذا كله حديث في التاريخ، فما يُقال اليوم؟ أقول: هنا يأتي المثَل البليغ الذي قاله العمانيون من قبل: «الرهوة على المربوطة»، أي أن كل من في نفسه سوء يلقيه على الحلقة الأضعف والأقل قدرة على رد الإساءة في السلسلة.
فبعد أكثر من قرن ونصف من إغراق المنطقة العربية في الاستعمار بموجاته الثلاث التي بدأت فعليا في 1830م في الجزائر، وسيطرة القوى الاستعمارية على ما يقارب 85% من العالم العربي -كما يذكر جمال حمدان- إضافة للحروب والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقبل هذا كله المشكلات الفكرية، التي لا يقوم موضع بشري في أي مكان وأي زمان إلا بإصلاح ونهوض الفكر ابتداءً، ثم بعد الحرب العالمية الثانية وانسحاب القوى الاستعمارية الكبرى من المنطقة وإبقاء تركة مَرَضية في العالم العربي تُسمى «إسرائيل»، غريبة عنه في كل شيء، ولا تشبهه في أي شيء، جمعت أسوأ صفات الإمبريالية مجتمعة، فأصبحت أكثر انحلالا ولا إنسانية منها، ومن ثم فهي خارجة عن السياق التاريخي البشري الطبيعي، وعلى الرغم من أن هذه التركة محكوم عليها «قبلا وبحتمية التاريخ بأنه قد وُلد ليموت» كما يقول جمال حمدان في كتابه استراتيجية الاستعمار والتحرير، فإن استمرارية وجودها لا يزال يمثل مرَضا في الصدر العربي -بالمعنى الحقيقي والمجازي- ولا يقوم من علته هذه إلا بزوالها، وأخيرا محاولات القيام بأعمال الاستعمار التفكيكية بالوكالة، وليراجع من شاء كتاب «لعبة الأمم» لمايلز كوبلاند للاستزادة، وربما راجع بعده رد محمد حسنين هيكل عليه للمقارنة ومحاولة البحث عن حقائق الأمور.
بعد هذا الإغراق والإرهاق كله، واستمراره حتى اليوم، مع تعقيد الوسائل وخفائها، ومحاولات التحكم في الخيال العربي العام -مما يُناقش في مسائل الخيال السياسي وليس هذا موضعه- وتوجيهه لأقطاب مختلفة، يُصبح أول من يُلام هم، ويُترك الذي تسبب وما زال في كل هذه المآسي في المرتبة الثانية أو الثالثة؛ لأن الشماعة الأقرب في هذه السلسلة التي من مكوناتها القوى العالمية الكبرى والسيطرة الحضارية الغربية -المتهالكة- هم العرب؛ ولأن تعليق الاتهام على شيء ما -حتى لو كان الذات- يقلل من تأنيب الضمير وصوته العالي المزعج.
إن العالم العربي، كما يقول جمال حمدان -مرة أخرى- «هو المنطقة الوحيدة في العالم خارج أوروبا التي تعد ندا كفؤا لها، ومنافسا خطيرا ليس فقط تاريخيا وحضاريا ولكن أيضا سياسيا وحربيا ومن حيث القوة»، لذا فإن هؤلاء المتَّهَمين هم أحفاد أولئك البُناة، وهؤلاء الذين صدّقوا رواية عدوهم وخياله وقبلوا بهما دون أن يشعروا، فظنوا في أنفسهم الضعف -وحاشاهم- هم أبناء أولئك، فلا انفكاك بين الماضي والحاضر إلا بقدر ما نريد أن ننفصل عنه، ونصدق في أنفسنا ما ليس فينا، ومتى صدقنا روايتنا وآثرنا لغتنا واتصل بعضنا ببعض، عرفنا مكامن نفوسنا مما لا نراه حاضرا الآن أمامنا!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الاحتلال لا يثق في عملائه
نعترف بأننا أخطأنا حينما اعتقدنا أنّ الاحتلال الصهيوني سيسارع إلى تلبية طلب الولايات المتحدة الأمريكية، السّماح لها بتزويد الأمن الفلسطيني بمعدّات عسكرية متطوّرة للقضاء على المقاومة في جنين؛ فهاهي إذاعة جيش الاحتلال تفاجئنا بخبر رفض حكومة نتنياهو منح بندقية واحدة لشرطة دايتون الفلسطينية، بالرغم من أنّ المهمة القذرة التي تقوم بها في جنين تصبّ في مصلحة الكيان بالدرجة الأولى!
وبقدر ما فاجأنا هذا الخبر الغريب، فقد أثلج صدورنا أيضا؛ لأنّه أكّد مرة أخرى أنّ ما تقوم به السلطة الفلسطينية من مطاردات مستمرّة ومخزية للمقاومة، بهدف نيل رضا الاحتلال، هو مجرّد جهود عبثية لن تحقّق بها هذا الهدف المقيت، وفي الوقت ذاته ستزيد من عزلتها الداخلية وسخط شعبها عليها، كحال ذلك الابن الذي سرق مال أبيه ليقدّمه للّصوص، فلا اللصوص قدّروا “عمله”، ولا والده صفح عنه.
وبهذا الرفض، أثبت الاحتلال أنّه لا يثق في السّلطة الفلسطينية في الضّفة الغربية، كما أنّه لا يريد أن يسند لها أيّ دور في غزة بعد نهاية الحرب، برغم كلّ ما قدّمته له من “خدمات أمنية” منذ اتّفاق أوسلو 1993 إلى اليوم، في إطار ما يسمّى “التنسيق الأمني” بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وجيش الاحتلال، والذي أسفر طيلة 31 سنة، عن تحجيم المقاومة في الضّفة بسبب مطاردة عناصرها، واغتيال المئات منهم، أو القبض عليهم وإلقائهم في سجون السلطة، أو التبليغ عنهم للاحتلال لاغتيالهم أو اعتقالهم… وما يحدث منذ أزيد من شهر في جنين هو جزء من هذه المطاردات المستمرّة للمقاومة خدمة للاحتلال، ومع ذلك، فقد وجّه الاحتلال صفعة قوية لهذه السّلطة برفض تزويدها بالسّلاح، تأكيدا لعدم ثقته بها ورفضه إسناد أيّ دور لها في المستقبل!
ويذكّرنا هذا بما قام به الكيان الصهيوني منذ أواخر 2020 إلى الآن مع الإمارات العربية المتحدة؛ إذ هرولت الإمارات وطبّعت علاقاتها معه مقابل “شروط”، ومنها تجميد ضمّ الضّفة الغربيّة، والحصول على طائرات “آف 35” الأمريكية، لكنّ الاحتلال أشهر الضوء الأحمر في وجه “حليفه” الجديد، ومنع إلى حدّ الساعة حصوله على هذه الطائرات المتطوّرة، كما أنّه يستعدّ لرفع التجميد عن ضمّ الضفة والشروع في السنة الجديدة في ضمّها فعليّا كما صرّح نتنياهو وأكثر من وزير صهيوني، وبذلك تكون الإمارات قد انبطحت مجّانا.
أمّا الكيان الصهيوني، فسيبقى ينظر إليها بعيون الرّيبة ولا يثق فيها، ولو بالغت في تطبيع علاقاتها معه، وتآمرت معه ضدّ المقاومة في غزّة، وروّجت لبدعة “الديانة الإبراهيمية” المزعومة لإضفاء غطاء ديني زائف على هذه الخيانة المدوّية للقضية الفلسطينية.
العرب هم العرب بالنسبة للصهاينة، والمسلمون هم المسلمون، لا فرق بينهم، ولا ثقة فيهم، ولا في أنظمتهم التي يمكن أن تنهار في ظرف أيام إذا أحجمت جيوشهم عن نصرتها، كما حصل لزيد العابدين، ومبارك، والقذافي، والبشير، والأسد… فهي أنظمة هشّة تستقوي بأمريكا والغرب للبقاء في الحكم، ولا تكترث بإرادة شعوبها، لذلك قد تسقط في أيّ وقت وتصل أسلحتها إلى معارضة معادية للاحتلال، ومن الخطأ أن يسمح ببيع أسلحة أمريكية وغربية متطوّرة لها.
وعندما يقول القادة الجدد في سوريا، إن نظامهم لا يهدّد الكيان، ولن يسمح بانطلاق رصاصة واحدة صوبه من الأراضي السورية، ويلمّح الجولاني إلى أنّ الكيان سيكون بأمان لمدة 50 سنة قادمة، ويردّ وزير الاتصالات الصهيوني شلومو كرعي مقتبسا مقولات دينية “مستقبل أبواب القدس التي تنير دربنا هو أن تصل حتى أبواب دمشق”، وعندما يحرس الأردن حدود الاحتلال عقودا طويلة ويردّ الوزير سموتريتش برفع خريطة لكيانه تبتلع هذا البلد برمّته… حينما يحدث ذلك كلّه، فإنّ هذا يعني باختصار أنّ الاحتلال لا يثق في العرب ولو طبّعوا ووقّعوا معه معاهدات “سلام”، أو انبطحوا، أو حتى انخرطوا في حرب ضدّ المقاومة…
لا شيء من ذلك يحول دون التوسّع على حساب بلدانهم في السّنوات القادمة، لاسيّما إذا استطاع العدوّ سحق المقاومة في غزة والضّفة وتهجير الشعب الفلسطيني وحسم الصراع لصالحه بالقوة، حينذاك سيبدأ تنفيذ مشروع “إسرائيل الكبرى”، ولن تحمي أحدا معاهدة أو اتفاق سلام، أو انبطاح وخنوع وتحويل جيوش إلى حرس حدود للاحتلال، الجميع سيّان في نظر العدوّ الذي لا يثق في أحد من العرب، عملاء صريحين كانوا أو مهادنين أذلّاء، وصدق اللهُ القائل: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتبّع ملّتهم”.
الشروق الجزائرية