جريدة الرؤية العمانية:
2024-07-12@08:19:06 GMT

طغيان قرارتنا العاطفية

تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT

طغيان قرارتنا العاطفية

 

د. صالح الفهدي

كثيرةٌ هي القرارات العاطفية التي نتَّخذها بصورة يومية، وعاليةٌ هي أثمانها!، هذا يعني أننا نخضع لمحفِّزاتٍ، ومثيراتٍ مختلفة ينتجُ عنها تسطيح التعاطي لاتخاذ القرارات التي يُفترضُ أنَّها تخضعُ للعقل الذي يتَّسمُ بالتروِّي والتَّمعن ودراسة جوانبها وأبعادها وعواقبها وغير ذلك من الأدوات التي تكفلُ لها الصواب والرُّشد.

 

من أخطر القرارات العاطفية التي تنتجُ عنها عواقب لها تداعيات سلبية على المجتمع عامَّة قرارات الطلاق التي تتزايد حالاتها، وربما نتفق بأنَّ أغلب هذه القرارات عاطفية ناتجة عن انفعال متهوِّر، وطيشٍ مُنفلت. تحكي إحدى النساء أنَّ زوجها كان على وشك تطليقها، لكنَّه شاهد أحد المشاهد الدرامية التي ضمَّنتها برنامجي التلفزيوني "قِيم" فسَكتَ عن الطلاق!، تضمَّن ذلك المشهد زوجًا منفعلًا يتَّصل بصديقه ليبلِّغه بأنَّه ينوي طلاق زوجته، فيهرع إليه صديقه ليسأله عدَّة أسئلة منطقية وموضوعية تتعلق إجاباتها بما يكون عليه الوضع بعد الطلاق، فلا يجدُ الزوج قدرة على الإجابة عنها لأنَّ قراره كان عاطفيًا، أمَّا بعد أن استيقظ عقله بعد إقصاءٍ وإعماءٍ ليجيب عن أسئلة صديقه فقد بدأ بالتراجع عن القرار!.

وحين ندرسُ هذه القرارات الخطيرة على مصير المجتمع نجدُ أنها ضحيَّة الانفلات العاطفي الذي يستشيطُ بالنفسِ فيشلَّ قدرة العقل على التفكير وإسماع صوتهِ لصاحبه!، ثم لنتمعن أيضًا في أغلب الخلافات العائلة وانقطاع الوشائجِ الأُسرية لنجد أن القرارات العاطفية وراء تلك الحالات بصورة ظاهرة وواسعة!.

في البيئات العملية تتحكم العاطفة في كثير من القرارات التي تتَّخذ خاصَّةً ضدَّ الأفراد والتي يدخلُ فيها عامل الشَّخصنة، حيث تدفع لحظات التهوُّر والطيش صاحب السلطة إلى إظهار أسوأ ما في نفسه ليتخذ قرارات طائشةٍ غير مدروسة نتيجةً لانفعاله ضدَّ فعلٍ من أحد مرؤوسيه ليصيبه بأثرٍ بالغٍ، ويصيبُ كذلك المؤسسة بكاملها..! يخبرني أحد رؤساء الأقسام في إحدى المؤسسات بأنَّ قرارًا اتُّخذ من قِبل مديره في فترةِ غيابهِ لإقالة أحد موظفيه لخطأ مهني بسيط، متجاهلا صاحب القرار ما قام به ذلك الموظف من أعمال متميِّزة، وجهودٍ موفقة، فلمَّا عادَ رئيس القسم وهو المسؤول المباشر عن الموظف من إجازته قال لمن اتخذ القرار ممتعظًا: ليس عندي مانع في إقالة موظفي ولكن لدي شرطان: الأول أن لا يعاني القسم من ضغوطات في أداء واجبات العمل جرَّاء فقدان الموظف، والثاني: أن يكون لديكم البديل المناسب لإحاله محل الموظف المُقال فور إقالته!، فلمَّا سمع المدير هذين الشرطين المنطقيين تراجع عن القرار العاطفي لإقالة الموظف بعد أن استيقظ العقل!!

قراراتنا العاطفية في التسوُّق تصوِّرُ لنا أن ما نشتريه هو بداعي الحاجة بينما هو في الحقيقة بداعي الرغبة تحرِّكه محفِّزات الطرق الحديثة للتسويق التي تتلاعبُ بالعاطفة، وتخضع مشاعر الإنسان للتأثير الذي ينخدعُ، فيقع في الفخِّ على رغم تكراره! وتؤكِّد الدراسات الخاصة بالحملات الدعائية المعتمدة على المحتوى العاطفي أنها تحقق النسبة الأعلى للنجاح من الوسائل الأخرى.

في التعاملِ مع الناس يقعُ كثيرون ضحايا القرارات العاطفية بسبب انخداعهم بالناسِ في أخلاقهم المتصنَّعة، وأدبهم المظاهري، حتى في أعمال الخير نقعُ ضحايا القرارات العاطفية فنساعدُ أُناسًا يستدرُّون العواطف، ويستغلُّون الجانب الإنساني الرقيق فينا، يقول لي أحد العرب عن بني جنسه ممن يتسوَّلون النَّاس: إنهم يستغلُّون طيبة الناس هُنا!، وما قوله ذاك عن بني جنسه إلا لأنه يدرك الطرفان بينما نستسلم نحن لأكاذيبَ مفتراة، وقصص بعيدة عن الواقع، ومواقف نجد أنها محرجة لنا فلا نستطيع التملص منها إلا بالقرار العاطفي!

يقع أكثرنا ضحية القرارات العاطفية بسبب الحملات العاطفية التي تُبنى على محفزات نفسية عميقة تؤثر على النفس فتدفعها لاتخاذ القرار دون تفكير، بل أنها تخشى أن (تفكِّر) حتى لا يُعيق التفكير قرارها فتتراجع!!

أما الأسباب التي تقعُ وراء قراراتنا العاطفية من وجهةِ نظري فأراها:

أولًا: الميلُ الذي شابَ الأُمَّة عن الفعل الحقيقي الذي يجب التأسيس عليه، وهو الأمر الأوَّل الذي صدر لموجِّه وقدوة ونبي هذه الأُمة وهو "إِقرأ" ولم يكن فعل "بلِّغ" الذي أتى لاحقًا، فالقراءة هي رمزية الوعي الإنسان، وأداة فهمه، وتوسيع إدراكه، بحيث يُصبحُ مهيَّئًا، ملمَّا بالأسباب والتبعات للخطوة الأخرى وهي البلاغ، ولو أننا تعمَّقنا في القراءة لأعملنا عقولنا في اتخاذ القرارات العقلانية دون أن نترك العنان للعاطفة في إملاء قراراتنا المتهوِّرة التي تعقبها تبعات وخيمة كما ندم الفرزدقُ لطلاقه زوجته، وهو يقول:

نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا

غَدَت مِنّي مُطَلَّقَةٌ نَوارُ

وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها

كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِها الضِرارُ

ثانيًا: الطبيعة الإنسانية التي تناهت إلى مستوى السذاجة، فلم تضع حدودًا، ولم تحذر خاصَّة في تعاملاتها مع الآخرين تحرًّزًا من خديعتهم، واتقاءً لاستغلالهم، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصيامهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنة الليل، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة" وهذا ما يعني أن على الإنسان أن يكون واقعيًا في علاقته بالناسِ دون أن يسلِّم نفسه لأحكام متسرِّعةٍ عنهم لا بالمدحِ ولا بالذَّمِ.

ثالثًا: أنَّ التربية في البيوت لا تؤسس على ضرورة إعمالِ العقل، والتدبُّرِ في الأمور قبل الحكم عليها، أو اتخاذ القرارات بشأنها، وحين لا يكون الوالدانِ قدوة لأبنائهم للتمييز بين القرار العقلي والعاطفي فإِنَّ الأبناء سيشبُّون مذبذبين لا يقرُّ لهم قرار!.

رابعًا: التعليم لا يُهيِّاُ الدارسين لتعميق نظرتهم من أجلِ بناءِ القرارات السليمة، وما تستلزمه من أدوات نحو الوصول إلى القرار الناجع الذي يبرأ من انفعال العاطفة، وذلك من خلال طرح المواقف الحياتية، والتعرض للحالات المختلفة التي يُفترض القرار بشأنها، وكيفية تحييد العاطفة لاتخاذ القرار العقلاني.

خامسًا: تأثير طبع الشخصنة في بيئات العمل، وسيادتها على العقل في اتخاذ القرارات المتعلقة بالعاملين فيها، وهو ما يعني سوء الإدارة، واستخدام السلطة لغير صالح المؤسسة.  

سادسًا: ضعف فاعلية القيم الدينية في واقعنا، والإزدواجية التي نعيشها بين المعلومة والتطبيق، على سبيل المثال ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة وإنما من يمسك نفسه عند الغضب" وهو ما يعني ليس القوي من يكون قراره عاطفيًا، وإنما من يكون قراره عقلانيًا يتحكم في ردَّة فعله. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحلم، والأناة" وهو ما يعني امتلاك أدوات القرار العقلاني: الحلم والأناة.

أمَّا معالجة ذلك فتكمنُ في ثنايا الأسباب ذاتها التي ذكرتها، حيث يتوجَّبُ (التفكير) في كلِّ سبب من الأسباب، ثم استنباط الكيفية التي يمكن بها تأسيس القرارات العقلانية، وتخيف تأثير العاطفة علينا في اتخاذنا للقرارات.  

إنَّ القرارات -العاطفية أو العقلانية- مؤشرات على مستوى النضجَّ والرُّشدَ التي يتمتَّعُ بها إنسان فإذا أردنا تقييم نضجه ورشده فلنتمعن في القرارات التي يصدرها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

من يكون طارق بن زياد؟.. البطل الغامض الذي لازالت قصته تحير العالم

يصف المؤرخون الأوروبيون طارق بن زياد بأنه شخصية غامضة وصلت إلى "هسبانيا" بجيش صغير وتركت وراءها إرثا هاما. إنه القائد العسكري الذي أسهم في فتح شبه جزيرة أيبيريا في وقت قياسي.

طارق بن زياد كان نزل الجبل الذي حمل اسمه فيما بعد بجيش صغير يقدر بين 7000 إلى 10000 مقاتل معظمهم من الأمازيغ، "البربر" في مايو عام 711. كان هذا الجيش بمثابة قوة استطلاع رئيسة وصلت إلى المنطقة بعد قوة استطلاع أولى صغيرة قادها طريف بن مالك.

كان موسى بن نصير واليا على إفريقيا في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، فيما كان طارق قائدا عسكريا تحت إمرة ابن نصير.

تلك القوة الصغيرة التي قادها طارق بن زياد في الحملة على شبه جزيرة أيبيريا تمكنت خلال فترة قصيرة من السيطرة على شمال إسبانيا وكان ذلك في 9 يوليو عام 711.

كانت شبه جزيرة أيبيريا والتي كانت تسمى وقتها "هسبانيا" تحت سيطرة القوط الغربيين. كان هؤلاء قوة احتلال استعبدت السكان المحليين ومارست ضدهم كل أنواع الظلم والاضطهاد، فيما كان السكان ينظرون إلى القوط على أنهم برابرة.

ملك القوط رودريك أو "لذريق" بحسب النصوص العربية، كان يعاني من نزاع في الأسرة الحاكمة فضلا عن كراهية السكان المحليين. شقيقان له كانا يتحينان الفرص لانتزاع التاج منه.

علاوة على ذلك كانت سبتة في الضفة الإفريقية المقابلة للمضيق، تحت حكم الكونت يوليان. هذا الحاكم استنجد بالمسلمين سادة شمال إفريقيا وقتها للانتقام من الملك رودريك، لأنه "سلب عفاف ابنته"!

الكونت يوليان أمن لقوات الفتح الإسلامي ممرا آمنا إلى الضفة الأخرى وساعدهم على العبور إلى هناك بالسفن والمؤن.  

المسلمون ما إن دخلوا شمال إفريقيا حتى أولوا اهتماما خاصا ببناء أسطول بحري حربي. لهذا الغرض افتتحوا حوضا لبناء السفن في تونس على يد قائد الفتوحات في شمال إفريقيا، حسن بن النعمان.

السفن التي بنيت في تونس كانت ضمن الأسطول الذي استخدمه طارق بن زيادة في العبور إلى الأندلس، علاوة على القوارب التي وفرها الكونت يوليان.

بعد مرور ثلاثة أشهر من عبور طارق بن زياد بقواته المضيق، استعد للمعركة الفاصلة مع الملك رودريك باستقدام تعزيزات تقدر بخمسة آلاف مقاتل.

واجه جيش الفتح الإسلامي قوات القوط الغربيين في معركة استمرت ثمانية أيام وانتهت بانتصار مشهود وبمقتل ملك القوط، وأصبحت الطريق بعدها سالكة إلى جميع أرجاء شبه جزيرة أيبيريا، وسقطت قرطبة وملقة وكذلك طليطلة عاصمة القوط.

حين سمع موسى بن نصير والي إفريقيا بسقوط ممدن الأندلس تباعا أمام قوات طارق بن زياد، سارع إلى اللحاق به بجيش تعداده 18 ألف شخص، وتمكن من فتح مدينة "شذونة" ثم "قرمونة" وكامل إشبيلية.

يقال إن ابن نصير وبخ طارق بن زياد بشدة على اندفاعه وتوغله في الأندلس وأنه سجنه لمخالفته أوامره. بعض المؤرخين يعتقدون أن موسى بن نصير رأى في طارق بن زياد منافسا ينازعه على شرف فتح الأندلس.

الرواية تشير إلى أن طارق بن زياد تمكن من الاتصال بالخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك من سجنه، وأن الخليفة أمر بإطلاق سراحه.

موسى بن نصير وطارق بن زياد اجتمعا من جديد بعدها وأكملا معا فتح شبه جزيرة أيبيريا التي تضم الآن إسبانيا والبرتغال.

بقيت إسبانيا من عام 711 إلى 1492، لأكثر من 750 عاما تحت الحكم الإسلامي، وعاشت فترة طويلة من الازدهار الحضاري والاستقرار، وكانت بمثابة منارة أشعت على أوروبا.

دخل طارق بن زياد الذي يوصف بـ"القائد العسكري الغامض"، التاريخ من دون مقدمات، وأصبح اسمه على الخرائط بجميع اللغات.

تحول الرجل إلى أسطورة كبيرة في أكثر من جانب، ودار جدل طويل حول أصل طارق بن زياد. هل هو من الأمازيغ أم العرب أم الفرس. الجدل لا يزال دائرا على الرغم من ترجيح احتمال أنه كان أمازيغيا.

المؤرخ البريطاني توماس ووكر أرنولد "1864 – 1830" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" يقول عن فتح الأندلس: "لا نسمع شيئا عن التحول القسري أو أي شيء مثل الاضطهاد في الأيام الأولى للفتح العربي. ربما كان موقفهم المتسامح تجاه الدين المسيحي إلى حد كبير هو الذي سهل اكتسابهم السريع للبلاد".

 

 

مقالات مشابهة

  • دراسة تؤكد .. تطبيقات الإنترنت تفسد العلاقة العاطفية
  • ياسر إدريس: سنصدر قرارنا بشأن موقف شهد سعيد في الأولمبياد يوم الأحد المقبل
  • وقف أحمد شوبير.. الباز: الشركة المتحدة تضحي بالعوائد لصالح المعايير المهنية والأخلاقية
  • إغلاق المحال التجارية مساء في مصر.. خراب بيوت أم حل لأزمة الكهرباء؟
  • من يكون طارق بن زياد؟.. البطل الغامض الذي لازالت قصته تحير العالم
  • مسيحيو الموصل للسوداني:أنقذ المحافظة من طغيان وفساد الميليشيات وأحزابها
  • رسالة قصيرة في بريد أماني الطويل
  • بينها يخص الكهرباء.. السومرية تنشر القرارات الكاملة لجلسة مجلس الوزراء
  • السومرية تنشر القرارات الكاملة لجلسة مجلس الوزراء
  • مدبولي: تشكيل مجموعات وزارية لكل ملف لضمان تنفيذ القرارات بشكل فوري