طغيان قرارتنا العاطفية
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
د. صالح الفهدي
كثيرةٌ هي القرارات العاطفية التي نتَّخذها بصورة يومية، وعاليةٌ هي أثمانها!، هذا يعني أننا نخضع لمحفِّزاتٍ، ومثيراتٍ مختلفة ينتجُ عنها تسطيح التعاطي لاتخاذ القرارات التي يُفترضُ أنَّها تخضعُ للعقل الذي يتَّسمُ بالتروِّي والتَّمعن ودراسة جوانبها وأبعادها وعواقبها وغير ذلك من الأدوات التي تكفلُ لها الصواب والرُّشد.
من أخطر القرارات العاطفية التي تنتجُ عنها عواقب لها تداعيات سلبية على المجتمع عامَّة قرارات الطلاق التي تتزايد حالاتها، وربما نتفق بأنَّ أغلب هذه القرارات عاطفية ناتجة عن انفعال متهوِّر، وطيشٍ مُنفلت. تحكي إحدى النساء أنَّ زوجها كان على وشك تطليقها، لكنَّه شاهد أحد المشاهد الدرامية التي ضمَّنتها برنامجي التلفزيوني "قِيم" فسَكتَ عن الطلاق!، تضمَّن ذلك المشهد زوجًا منفعلًا يتَّصل بصديقه ليبلِّغه بأنَّه ينوي طلاق زوجته، فيهرع إليه صديقه ليسأله عدَّة أسئلة منطقية وموضوعية تتعلق إجاباتها بما يكون عليه الوضع بعد الطلاق، فلا يجدُ الزوج قدرة على الإجابة عنها لأنَّ قراره كان عاطفيًا، أمَّا بعد أن استيقظ عقله بعد إقصاءٍ وإعماءٍ ليجيب عن أسئلة صديقه فقد بدأ بالتراجع عن القرار!.
وحين ندرسُ هذه القرارات الخطيرة على مصير المجتمع نجدُ أنها ضحيَّة الانفلات العاطفي الذي يستشيطُ بالنفسِ فيشلَّ قدرة العقل على التفكير وإسماع صوتهِ لصاحبه!، ثم لنتمعن أيضًا في أغلب الخلافات العائلة وانقطاع الوشائجِ الأُسرية لنجد أن القرارات العاطفية وراء تلك الحالات بصورة ظاهرة وواسعة!.
في البيئات العملية تتحكم العاطفة في كثير من القرارات التي تتَّخذ خاصَّةً ضدَّ الأفراد والتي يدخلُ فيها عامل الشَّخصنة، حيث تدفع لحظات التهوُّر والطيش صاحب السلطة إلى إظهار أسوأ ما في نفسه ليتخذ قرارات طائشةٍ غير مدروسة نتيجةً لانفعاله ضدَّ فعلٍ من أحد مرؤوسيه ليصيبه بأثرٍ بالغٍ، ويصيبُ كذلك المؤسسة بكاملها..! يخبرني أحد رؤساء الأقسام في إحدى المؤسسات بأنَّ قرارًا اتُّخذ من قِبل مديره في فترةِ غيابهِ لإقالة أحد موظفيه لخطأ مهني بسيط، متجاهلا صاحب القرار ما قام به ذلك الموظف من أعمال متميِّزة، وجهودٍ موفقة، فلمَّا عادَ رئيس القسم وهو المسؤول المباشر عن الموظف من إجازته قال لمن اتخذ القرار ممتعظًا: ليس عندي مانع في إقالة موظفي ولكن لدي شرطان: الأول أن لا يعاني القسم من ضغوطات في أداء واجبات العمل جرَّاء فقدان الموظف، والثاني: أن يكون لديكم البديل المناسب لإحاله محل الموظف المُقال فور إقالته!، فلمَّا سمع المدير هذين الشرطين المنطقيين تراجع عن القرار العاطفي لإقالة الموظف بعد أن استيقظ العقل!!
قراراتنا العاطفية في التسوُّق تصوِّرُ لنا أن ما نشتريه هو بداعي الحاجة بينما هو في الحقيقة بداعي الرغبة تحرِّكه محفِّزات الطرق الحديثة للتسويق التي تتلاعبُ بالعاطفة، وتخضع مشاعر الإنسان للتأثير الذي ينخدعُ، فيقع في الفخِّ على رغم تكراره! وتؤكِّد الدراسات الخاصة بالحملات الدعائية المعتمدة على المحتوى العاطفي أنها تحقق النسبة الأعلى للنجاح من الوسائل الأخرى.
في التعاملِ مع الناس يقعُ كثيرون ضحايا القرارات العاطفية بسبب انخداعهم بالناسِ في أخلاقهم المتصنَّعة، وأدبهم المظاهري، حتى في أعمال الخير نقعُ ضحايا القرارات العاطفية فنساعدُ أُناسًا يستدرُّون العواطف، ويستغلُّون الجانب الإنساني الرقيق فينا، يقول لي أحد العرب عن بني جنسه ممن يتسوَّلون النَّاس: إنهم يستغلُّون طيبة الناس هُنا!، وما قوله ذاك عن بني جنسه إلا لأنه يدرك الطرفان بينما نستسلم نحن لأكاذيبَ مفتراة، وقصص بعيدة عن الواقع، ومواقف نجد أنها محرجة لنا فلا نستطيع التملص منها إلا بالقرار العاطفي!
يقع أكثرنا ضحية القرارات العاطفية بسبب الحملات العاطفية التي تُبنى على محفزات نفسية عميقة تؤثر على النفس فتدفعها لاتخاذ القرار دون تفكير، بل أنها تخشى أن (تفكِّر) حتى لا يُعيق التفكير قرارها فتتراجع!!
أما الأسباب التي تقعُ وراء قراراتنا العاطفية من وجهةِ نظري فأراها:
أولًا: الميلُ الذي شابَ الأُمَّة عن الفعل الحقيقي الذي يجب التأسيس عليه، وهو الأمر الأوَّل الذي صدر لموجِّه وقدوة ونبي هذه الأُمة وهو "إِقرأ" ولم يكن فعل "بلِّغ" الذي أتى لاحقًا، فالقراءة هي رمزية الوعي الإنسان، وأداة فهمه، وتوسيع إدراكه، بحيث يُصبحُ مهيَّئًا، ملمَّا بالأسباب والتبعات للخطوة الأخرى وهي البلاغ، ولو أننا تعمَّقنا في القراءة لأعملنا عقولنا في اتخاذ القرارات العقلانية دون أن نترك العنان للعاطفة في إملاء قراراتنا المتهوِّرة التي تعقبها تبعات وخيمة كما ندم الفرزدقُ لطلاقه زوجته، وهو يقول:
نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا
غَدَت مِنّي مُطَلَّقَةٌ نَوارُ
وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها
كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِها الضِرارُ
ثانيًا: الطبيعة الإنسانية التي تناهت إلى مستوى السذاجة، فلم تضع حدودًا، ولم تحذر خاصَّة في تعاملاتها مع الآخرين تحرًّزًا من خديعتهم، واتقاءً لاستغلالهم، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصيامهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنة الليل، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة" وهذا ما يعني أن على الإنسان أن يكون واقعيًا في علاقته بالناسِ دون أن يسلِّم نفسه لأحكام متسرِّعةٍ عنهم لا بالمدحِ ولا بالذَّمِ.
ثالثًا: أنَّ التربية في البيوت لا تؤسس على ضرورة إعمالِ العقل، والتدبُّرِ في الأمور قبل الحكم عليها، أو اتخاذ القرارات بشأنها، وحين لا يكون الوالدانِ قدوة لأبنائهم للتمييز بين القرار العقلي والعاطفي فإِنَّ الأبناء سيشبُّون مذبذبين لا يقرُّ لهم قرار!.
رابعًا: التعليم لا يُهيِّاُ الدارسين لتعميق نظرتهم من أجلِ بناءِ القرارات السليمة، وما تستلزمه من أدوات نحو الوصول إلى القرار الناجع الذي يبرأ من انفعال العاطفة، وذلك من خلال طرح المواقف الحياتية، والتعرض للحالات المختلفة التي يُفترض القرار بشأنها، وكيفية تحييد العاطفة لاتخاذ القرار العقلاني.
خامسًا: تأثير طبع الشخصنة في بيئات العمل، وسيادتها على العقل في اتخاذ القرارات المتعلقة بالعاملين فيها، وهو ما يعني سوء الإدارة، واستخدام السلطة لغير صالح المؤسسة.
سادسًا: ضعف فاعلية القيم الدينية في واقعنا، والإزدواجية التي نعيشها بين المعلومة والتطبيق، على سبيل المثال ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة وإنما من يمسك نفسه عند الغضب" وهو ما يعني ليس القوي من يكون قراره عاطفيًا، وإنما من يكون قراره عقلانيًا يتحكم في ردَّة فعله. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحلم، والأناة" وهو ما يعني امتلاك أدوات القرار العقلاني: الحلم والأناة.
أمَّا معالجة ذلك فتكمنُ في ثنايا الأسباب ذاتها التي ذكرتها، حيث يتوجَّبُ (التفكير) في كلِّ سبب من الأسباب، ثم استنباط الكيفية التي يمكن بها تأسيس القرارات العقلانية، وتخيف تأثير العاطفة علينا في اتخاذنا للقرارات.
إنَّ القرارات -العاطفية أو العقلانية- مؤشرات على مستوى النضجَّ والرُّشدَ التي يتمتَّعُ بها إنسان فإذا أردنا تقييم نضجه ورشده فلنتمعن في القرارات التي يصدرها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل صيام أول رجب يكون يومًا أم ثلاثة أم 7 أيام؟.. كثيرون لا يعرفون
لعل ما يطرح السؤال عن هل صيام أول رجب يكون يوما أم ثلاثة أم 7 أيام ؟ هو ارتباطه ببركتي شهر رجب وفضله العظيم باعتباره أحد الأشهر الحُرم ، التي يتضاعف فيها الأجر والثواب لكل عمل صالح، كما أنه يحمل أولى نسمات شهر رمضان الفضيل، إلا أنه ما يطرح سؤال هل صيام أول رجب يكون يوما أم ثلاثة أم 7 أيام؟، كذلك هو ثواب الصيام الجزيل ، الذي يجزي عنه الله تعالى بذاته ولم يحدد أجر الصيام وهو ما فيه دلالة على عظم ثوابه، ومن ثم يبحث العقلاء عن هل صيام أول رجب يكون يوما أم ثلاثة أم 7 أيام؟ سعيًا في نيل ثوابه كاملاً، خاصة ونحن نقف على أعتاب شهر رجب 2025 م فنشهد أولى لياليه وتفصلنا عن أول أيامه ساعات قليلة ؟، لذا يظل السؤال عن هل صيام أول رجب يكون يومًا أم ثلاثة أم 7 أيام مطروحًا ممن يرجون الفرج والنجاة ، ويسعون لإدراك فضل شهر رجب من خلال صيام أول رجب لنيل جزيل الفضل والثواب .
دعاء الليلة الأولى في رجب 2025 .. ردّده للفجر فأبواب السماء مفتوحةهل صيام أول رجب يكون يومًا أم ثلاثةقالت دار الإفتاء المصرية ، عن صيام أول رجب ، أن الصوم في شهر رجب سواء في أوله أو في أي يوم فيه، جائز ولا حرج فيه لعموم الأدلة الواردة في استحباب التنفل بالصوم، و لم يرد ما يدل على منع الصوم في رجب سواء يوم أو ثلاثة أو حتى سبعة أيام.
وأوضحت “ الإفتاء” في مسألة هل صيام أول رجب يكون يوما أم ثلاثة أيام؟ ، أنه ممَّا ورد في فضل الصوم في شهر رجب بخصوصه حديث أبي قلابة رضي الله عنه قال: «فِي الْجَنَّةِ قَصْرٌ لِصُوَّامِ رَجَبٍ» رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، ثم قال: [قَالَ أَحْمَدُ: وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي قِلَابَةَ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، فَمِثْلُهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ بَلَاغٍ عَمَّنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ].
وأضافت أن فضل شهر رجب ثابت، بغض النظر عن درجة الأحاديث الواردة فى فضائله، سواء كانت صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة، وذلك لكون شهر رجب أحد الأشهر الحرم، التي عظمها الله تعالى في قوله: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).
وأشارت إلى أن الصيام يطلق على الإمساك، قال الله تعالى:﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ من الآية 26 من سورة مريم، والمقصود به: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
ونبهت إلى أن الصيام قسمان: (صيام فرض، وصيام تطوع)، منوهة بأن صيام الفرض: يشمل صوم رمضان، وصوم الكفارات، وصوم النذر.، أما صيام التطوع : أي السُّنَّة، وهو ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه.
وأفادت بأنه قد رغَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صيام التطوع والذي يشتمل على الآتي:
1- صيام ستة أيام من شوال؛ لحديث عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر». رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
2- صوم عشر ذي الحجة، وصوم يوم عرفة لغير الحاج.
3- صيام أكثر شعبان؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم أكثر شعبان، قالت عائشة: «ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا صيام شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان». رواه البخاري ومسلم.
4- صوم الأشهر الحرم وهم: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، رجب، وصيام رجب ليس له فضل زائد على غيره من الشهور، إلا أنه من الأشهر الحرم.
5- صوم يومي الإثنين والخميس؛ لحديث عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان أكثر ما يصوم: الإثنين والخميس... » إلخ. رواه أحمد بسند صحيح.
6- صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي: الثالث عشر، الرابع عشر، الخامس عشر؛ للحديث: قال أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة، أربع عشرة، خمس عشرة، وقال: هي كصوم الدهر».
7- صيام يوم وفطر يوم: لحديث عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الصيام إلى الله صيام داود: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا».
وتابعت: وبناء على ما ذكر وفي واقعة السؤال: فإن صوم التطوع جائز شرعًا في جميع أوقات العام ما عدا الأيام المنهي عن صومها وهي: أيام العيدين، وأيام التشريق، وهي الأيام التي تلي عيد النحر، والنهي عن صوم يوم الجمعة منفردا، والنهي عن إفراد يوم السبت بالصيام، والنهي عن صوم يوم الشك، والنهي عن صوم الدهر –أي: يحرم صوم السنة كلها- والنهي عن صيام المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه، والنهي عن وصال الصوم.
واستطردت: ويكون صوم السائل تطوعًا في شهر رجب -دون قيامه بصوم التطوع قبلها- جائزا شرعًا ولا غبار عليه، ويحصل له الثواب على قدر ما صام، ولا يشترط في ذلك أن يكون قد صام تطوعًا خلال أيام السنة، والقول بذلك غير صحيح شرعًا.
موعد صيام أول رجب 2025حددت دار الإفتاء المصرية ، موعد صيام أول رجب 2025 م ، مع غروب شمس أمس الثلاثاء الموافق 29 من جمادي الآخرة 1446هـ، و31 من ديسمبر 2024م، وذلك من خلال استطلاع رؤية هلال شهر رجب 1446 وهو الشهر السابع من شهور العام الهجري، وأحد الأشهر الحرم والتي يستحب فيها الإكثار من العمل الصالح والطاعات، بواسطة لجانها الشرعية المنتشرة في جمهورية مصر العربية.
وقد ثبتت رؤية هلال شهر رجب 1446 هجرية، لتبدأ غرة شهر رجب 2025 م اليوم الأربعاء الموافق الأول من يناير 2025 م، حيث يحين موعد صيام أول رجب 2025 م .
شهر رجبيعد شهر رجب هو الشهْر السّابع في التقويم الهجري٬ ولأنّهُ من الأشهرُ الحُرم فهو شهرٌ كريم وعظيم عند الله٬ وهو أحد الشهور الأربعة التي خصّها اللهُ تعالى بالذّكر٬ ونهى عن الظُّلم فيها تشريفاً لها٬ ويتركُ فيه العَرب القتال إحتراماً وتعظيماً لهُ٬ وقد ذكر اللهُ في كتابِهِ العزيز: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ))[التوبة:36]٬ أمّا الأشهر الحُرم التّي ذُكرت في الآية فهي مُحرَّم٬ وذي الحجَّة٬ وذي القعدة.
و سُمِّيت الأشهُر الحُرم بهذا الاسم لأنّ الله سُبحانهُ وتعالى منع فيها القِتال إلّا أن يبدأ العدو٬ ولتحريم انتهاك المحارِم فيها أشدّ من غيرِهِ من الأشهر.
يُطلقُ على شهر رجب أحياناً اسم "مضر" نسبةً إلى قبيلة مضر؛ حيثُ كانت هذه القبيلة تُبقي وقتَهُ كما هو دون تغيير ولا تبديل مع الأشهر الأخرى على عكس القبائل الأُخرى من العرب الذين كانوا يغيِّرون في أوقات الأشهُر بما يتناسب مع حالات الحرب أو السّلم عندهم٬ كما اقتضت حكمةُ الله أن فضَّل بعض الأيام٬ والشهور٬ واللّيالي على بعض، و يُسمّى أيضاً رجب بالأصم لأنَّه لا يُنادى فيه إلى القتال، ولا يُسمع فيهِ صوت السِّلاح.
أهمية شهر رجبحدثتْ فيهِ حادثةُ الإسراءِ والمعراج٬ كما أمَر الله بتحويل قبلةِ المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المُشرفة في مُنتصف شهر رجب في السّنة الثانية للهجرة كما ورد عن ابنِ عبّاس٬ ومعنى كلمة رجب الرُّجوب أي التّعظيم.
وقد جاء به أمر للرسولِ عليهِ الصّلاةُ والسّلام بالصّيام بهِ دون تخصيص حين جاءَهُ رجُلٌ من أهِله وقد عذَّب نفسَه بالصيام فطَلب الرسول عليهِ الصّلاةُ والسّلام منه أن يصوم شهر رمضان ويوماً من كلِّ شهر٬ ثم قال لهُ الرّجُل زدني٬ فطلب منه أن يصوم يومين٬ فقال الرَّجُل زدني٬ ثم قال : صُم ثلاثة أيام٬ ثمَّ قال زدني فقال : صُم من الحُرُم؛ هذا هو كل ما ورد في شهر رجب، ولم يخصه النبي بصيامٍ أو قيام أو باحتفال بليلة السابع والعشرين منهُ في حادثة الإسراء والمِعراج؛ حيثُ لم يثبُت عن النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلّم أيٌّ من ذلك٬ ولا عن الصّحابة رُضوانُ اللهِ عليهم٬ والأولى أن يكون الصِّيامُ في شعبان كما ثبَتَ عن الرّسولِ صلى الله عليه وسلم.
فضل شهر رجبيعتبر شهر رجب من الأشهر الهجرية المحرمة التي سميت بذلك بسبب تحريم القتال فيها إلا أن يبادر العدو إليه، كما أنَّ انتهاك المحارم في هذا الشهر أشدّ من غيره من شهور السنة، لذلك نهانا الله تعالى عن الظلم وارتكاب المعاصي في هذا الشهر الفضيل، قال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )، والحق والصواب أنَّ شهر رجب ليس له فضيلة أو خصوصية على غيره من الشهور باستثناء أنَّه من الأشهر الحرم، كما أنَّ الروايات التي تفيد بنزول آية الإسراء والمعراج فيه لا تبرر وإن صحّت ابتداع عبادات معينة في هذا الشهر كما يفعل بعض الناس، وذلك أنَّ مثل هذه الأفعال لم تكن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام أو عهد الخلفاء الراشدين أو التابعين.