موقع النيلين:
2025-03-16@22:53:05 GMT

حرب إبريل في السياق التاريخي السليم!

تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT


من السهل أن يمسك الشخص ورقة وقلم ويدون نقاطا حول المطلوب في النظام السياسي في دولة ما، أو أن تأتيه ورقة من دولة أو جهة أخرى للتنفيذ مع وعود وتمويل، ولكن تظل هنالك معادلات وقواعد فولاذية في الواقع لا يمكن تغييرها بالخطط والأوراق، والأولى هو دراسة تركيبة الدولة، وتحليل تاريخها، لأن الدول غير متشابهة وليس سهلا تنفيذ ذات الوصفات فيها.

من الضروري التحقق من تطورات السودان الراهنة بوضعها في السياق التاريخي، حتى نتعرف على تركيبة الدولة السودانية وما يمكن أن تنتجه (بناء على الموجود فعليا فيها وليس المطلوب والمرغوب منها) وأيضا حتى لا نقع في حبس الفترة الزمنية التي نعيشها وما يوجد فيها من توقعات الداخل ورهانات الخارج.

1- على أي أساس قامت السلطنة الزرقاء في السودان واستمرت لأكثر من 300 سنة حتى العام 1820؟ الجواب: كونفيدرالية، يحكمها مزيج صوفي إسلامي عشائري. ولكنها تفككت داخليا بصراعات قبلية وسلطوية داخل الأسر الحاكمة.

سلطنة دارفور كانت مشابهة لها في التراث، مع الفارق أنها كانت مركزية.
كلاهما وضع الأساس لمسار تشكيل الثقافة السودانية ولكن لم يتطور الأمر إلى آصرة قومية، نحن لا نزال في بدايات تشكيل الدولة السودانية.

2- على أي أساس اندلعت الثورة المهدية في الجزيرة أبا النيل الأبيض 1881 وطردت المستعمر و وحدت السودان في أربع سنوات فقط؟ الجواب: مذهب إسلامي جهادي تطور من النسخة الصوفية الموجودة. ولكنها عندما انحدرت الدولة في التسلط الجهوي سقطت. تركت الدولة المهدية -بالرغم من سوء أيامها الأخيرة- أثرا كبيرا ومن نماذجه العاصمة الوطنية والمحضن الثقافي أمدرمان، وكانت خطوة للأمام في صناعة الآصرة القومية السودانية، وظهر نوع جديد من الشعر والغناء وأنماط جديدة في التفكير والثقافة.

3- في فترة النضال من أجل الاستقلال، لماذا قامت الأحزاب السياسية السودانية على أساس طائفي إسلامي؟ بينما تشكلت الأحزاب في الجارة مصر وعدد من الدول في المنطقة على أساس التنوير والتحرير؟ الجواب: السودان دولة قيد التشكيل والتطوير، بينما توجد في مصر حينها دولة حديثة وآصرة قومية قديمة ومستقرة، والتوجه الاسلامي في السودان كان يشكل أساسا للوحدة الوطنية، ولذلك يوجد احتياج له، ليس بفعل فاعل خارجي، ولا صلة له بظهور نسخة الاسلام السياسي، كل له ظروف مختلفة تماما.

4- فشلت فكرة إلحاق السودان بالآصرة القومية المصرية لأن الاستعمار الانجليزي حكم السودان عشائريا (الادارة الأهلية) وأورث الحكم الوطني للأحزاب ثم الجيش، وأنجز الاستعمار تأسيس خدمة مدنية حديثة وتصميم المدن والمشاريع ولكن ظل المجتمع كما هو، في طريق البحث عن آصرة قومية، وهذا يختلف عن شمال الوادي.

التحدي الماثل في السودان، في سياق صناعة الآصرة القومية، هو الإقرار بأنه لا بد من البناء على (الرابط الموجود) وهو التوجه الاسلامي ثم إضافة عناصر عليه.

5- قامت الدولة الشيوعية المعادية للتوجه الاسلامي بنوعيه الحديث المنظم والتقليدي الطائفي في 1969 لمدة سنتين، ونشب داخلها صراع، وانتهت بمذبحة بيت الضيافة ثم بإعدامات قيادات الحزب الشيوعي. كانت تلك فترة سريعة وعاصفة، ولكنها أكدت فشل المشروع الخارجي وضرورة العودة للتركيبة الموجودة.

بل بعد سقوط النميري والذي أعلن الشريعة الاسلامية في 1983، جاءت الديموقراطية وكان برنامج حزب الأمة هو (الصحوة الاسلامية) و نشر الحزب الاتحادي في الانتخابات كتاب (الجمهورية الاسلامية) ثم بعدهم في الحجم (الجبهة الاسلامية القومية).

6- قامت الانقاذ في 1989 على توجه إسلامي جهادي لعشر سنين، ثم إسلامي براغماتي لما بعدها، ولكن اعترت الانقاذ ردة جهوية (ارجع لسلسلة مقالاتي في 2012 هل المؤتمر الوطني حزب فاشل؟) بدأت مراكز القوي و (الشلليات) تحارب بعضها وأفضى هذا إلى عمالة وارتزاق وحكم فرد وسقطت الانقاذ مثل سنار والمهدية والأحزاب الطائفية، ولكن استمرارها لفترة طويلة 30 عاما يؤكد أن الاصرار على الاعتماد على التركيبة الموجودة في السودان يعزز فرص الصمود.

7- جاء التغيير في 2019 مؤسسا على مبدأ (سقوط التجربة الاسلامية يعني سقوط التوجه الاسلامي) وبالتالي كان يجب أن يدين السودان لسيطرة البديل التحرري التنويري المقبول خارجيا (قحت). لكنها كانت فترة مضطربة لتناقض مكونات البديل داخليا، وتضارب الاستقطاب الخارجي، و وصل الأمر لصناعة قوة استعمارية استيطانية بدعم من دول اختطفت جزءا من البديل، وكان رأسمالها الدولي هو رفض التوجه الاسلامي في السودان، لكن الحقيقة أنها ترغب في تشكيل الدولة السودانية لتكون تابعة لها ومنفصلة عن محيطها وبالذات مصر في توافق كامل مع الأهداف الاسرائيلية، وكان هذا أسوأ مشروع استعماري يمر على السودان.
الخلاصات:

أولا: التوجه الاسلامي في السودان عامل تأسيس وصمود مهم جدا، وذلك لعدم وجود آصرة قومية مستقرة، إذ يعتبر (الرابط البديل) لتتشكل حوله عناصر الوحدة الوطنية، تماما مثل المذهب البروتستانتي في تأسيس المستعمرات الأمريكية إلى حين الاستقلال من بريطانيا وصناعة الدستور، ومثل الكالفينية التي قامت عليها أول جمهورية في أوربا في هولندا.
ثانيا: ثبت أن أخطر أدوات تقويض مسيرة تشكيل الدولة السودانية هي الجهويات والمشاريع الخارجية وحكم الفرد وليس التوجه الاسلامي.

ثالثا: الحديث عن تشكيل الدولة السودانية الحديثة ليس منقصة في حق السودان، ولا يناقض وجود مجتمعات سودانية (غالبها) يتميز بسمعة دولية في الأمانة الاخلاق والتكافل، ولذلك تأسيس الدولة لا يعني البداية من الصفر الاجتماعي، ولا يعني عدم وجود للوطن، بل هو الوعاء الذي يشمل هذا المجتمعات السودانية المترابطة.

رابعا: باعادة النظر للحرب في السودان نجد أنها تطور في ذات السياق، لأنها أكدت فشل (مشروع جهوي – خارجي) كبير جدا، ورغم أن الثمن باهظ، ولكن النتيجة ستكون لصالح تشكيل الدولة السودانية الحديثة بناء على المكونات الداخلية وعلى رأسها (التوجه الاسلامي) فهو ليس صناعة تنظيمية، أو سلاح مؤقت ضد المليشيا، بل هو عامل ملازم في كل العهود إلى حين إكتمال الآصرة القومية على الوجه المطلوب.

مكي المغربي

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

الموت بالوكالة: كيف صار الشعب السوداني رهينةً لسلطتين قاتلتين؟

في البدء، كان الحلم هشًّا، يتنازعه الواقع والممكن، بين دولة لا يحكمها العقل وجيوش يحكمها الرعب. لم يكن السودان يومًا استثناءً في سياق التراجيديا التاريخية التي صنعتها الجيوشُ العربية منذ أن تحولت من مؤسساتٍ وظيفية إلى كياناتٍ فوق الدولة، تمارس السلطة دون مساءلة، وتحكم دون أن تُحاكم.

لكن في هذا البلد، كان للعسكر وجوهٌ كثيرة، كلٌّ منها أكثر فتكًا من الآخر، حتى أصبح المواطن السوداني، ذاك الكائن المعذَّب، رهينَ طاحونةٍ تدور برؤوسٍ متشابكة، إحداها الجيش الذي خنق الدولة منذ 1956، والأخرى مليشيا خرجت من رحم التوحش وصارت قوة تنازع الطاغية ذاته على سلطانه، في مشهد عبثي تتداخل فيه الأدوار بين الجلاد والضحية، حتى بات الوطن كله رهينةً بين المطرقة والسندان.

بدأت السردية القاتلة منذ أن استيقظ السودان المستقل على حقيقة أنه لم يُخلق ليحكم نفسه، بل ليكون حقلَ تجاربٍ لأوهام الضباطِ الذين قرأوا نصفَ كتبِ القوميةِ العربية، وظنوا أن الشعب صفحةٌ بيضاءُ قابلةٌ لإعادة التشكيل وفق أوامرِ القيادةِ العامة.
الفريق عبود، أول الطغاة، جاء كظلالٍ ممتدة لجيوشِ ما بعد الاستعمار، حيث لم يكن الاستقلالُ سوى قناعٍ رثٍ لاستعمارٍ داخلي أكثر فجاجة. ثم تلاهُ نُميري، العائد من شطحاتِ البعثِ الماركسي إلى خرافاتِ الهوسِ الديني، في مسيرةٍ عكست هشاشةَ السرديات التي حاول العسكرُ تسويقها، والتي انتهت إلى أن الشعب ليس سوى متغيرٍ ثانوي في معادلة الحكم.

لكن اللعبةَ الأكثر فجاجةً كانت في 1989، حين اختُزلت الدولةُ في معادلةٍ وحيدة: الإسلاميون والجيشُ كيانٌ واحد، والحربُ على المواطنِ أصبحت معركةَ استئصالٍ مفتوحة.
هنا، بدأ الجيش في التحول إلى عصبةٍ متآمرة، حيث لم يعد مجردَ قوةٍ تحكم باسم الدولة، بل صار جهازًا أيديولوجيًا يعمل لتصفية أي مشروعٍ خارج ثنائية “الطاغية المخلص” و”العدو الوجودي”. كانت الإنقاذُ لحظةَ التحامِ القمعِ المقدسِ مع السلاحِ الدنيوي، حيث أصبح الوطنُ مجردَ ساحةٍ تُعادُ هندستها وفق أوهامِ البقاءِ الأبدي.

في تلك اللحظة، وُلدت المليشيات.

وجيف الخطى الأولى ظهرت في دارفور، حيث اختُزلت الدولةُ في معسكراتِ الموت، وتحولت الجيوشُ النظاميةُ إلى أشباحٍ تراقبُ المذابح من بعيد. ومن رماد الجنجويد، خرجت قوات الدعم السريع، كظلٍّ كثيفٍ لنظامٍ أفرط في صناعة الوحوش، حتى كادَ يُبتلع بها.
حميدتي، بائع الإبل الذي صعد من ثقافة الغزو البدائي، أصبح رجل الدولة بامتياز، في استعارةٍ فظةٍ لصعود العوامِ المسلحين في الإمبراطورياتِ الآفلة. هنا، لم يكن الصراعُ مجردَ لعبةِ سلطة، بل كان إعادةَ توزيعٍ للقوةِ خارج أطرها التقليدية، حيث أصبح الموتُ رأسمالًا قابلًا للمساومة، وصارت الحربُ استثمارًا مفتوحًا، بمدخلاتِ الذهبِ ومخرجاتِ الخراب.

حين انفجرت الحرب في 15 أبريل 2023، لم تكن سوى لحظةٍ حتمية في سياقٍ بدأ منذ أن تخلّى الجيشُ عن كونهِ مؤسسةً وطنية، وأصبح مجردَ أداةٍ لصناعةِ الطغاة. لكنها كانت أيضًا إعلانًا لانهيارِ النموذجِ نفسه، حيث لم يعد بالإمكان إخفاءُ هشاشةِ الدولةِ خلفَ أستارِ البيروقراطيةِ العسكرية. الجيشُ الذي كان يُراد له أن يكون درعَ الدولة، أصبح شبحًا يتآكل من داخله، والدعمُ السريع، الذي أُنشئ كأداةِ قمع، أصبح دولةً صغيرة داخل الدولة، حتى خرجت الأمور عن نطاق السيطرة.

لا شيء يعبر عن هذه اللحظة أكثر من أصواتِ الخرطومِ المنكوبة، حيث تحوّلت المدينة إلى أطلالٍ تتردد فيها أصداءُ الأسئلة التي لم تجد إجابة: من يحكمُ السودان؟ هل هو الجيشُ الذي صار ظلًّا لنفسه؟ أم المليشياتُ التي خرجت من رحمِ الفوضى وأصبحت القوةَ الوحيدةَ القادرةَ على فرضِ معادلاتها؟ أم أن البلادَ محكومةٌ بمنطقِ الحربِ الدائمة، حيث الدولةُ مجردُ مرحلةٍ عابرة بين معركتين؟

إذا كان ماركس قد تحدث عن “الدولة كأداةٍ للقمع الطبقي”، فإن السودان يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا، حيث الدولةُ لم تعد موجودةً أصلًا، والقمعُ أصبح مُوزّعًا بين عدةِ أقطابٍ، كلٌّ منها يحاولُ أن يؤسسَ روايتهُ الخاصة.
الأمر ليس صراعًا بين سلطةٍ وشعب، بل بين عدةِ سلطاتٍ، كلٌّ منها ترى في الشعب مادةً خامًا لإعادةِ التشكيل.

هذا ما يُفسرُ لماذا تحولت المليشياتُ إلى كياناتٍ اقتصاديةٍ ضخمة، ولماذا أصبح الجيشُ نفسه طرفًا في تجارةِ الحرب، حيث لا أحد يرغبُ في إنهاءِ النزاع، لأن النزاع ذاتهُ أصبح مصدرَ الشرعيةِ الوحيد.

لكن المأساةَ الحقيقية ليست في القتلةِ فحسب، بل في الذين ما زالوا يبحثون عن تبريرٍ أخلاقي لهذه الفوضى. هنا، تأتي السردياتُ التي تحاولُ اختزالَ الأمرِ في “حربٍ بين معسكرين”، وكأن هناك حقًا معسكرًا يمثلُ الشعب. الحقيقةُ أن الشعبَ السوداني، الذي ظلَّ لعقودٍ محاصرًا بين الطغاةِ والجلادين، لم يعد طرفًا في المعادلة. لقد صار مادةً للفرجةِ في مسرحيةٍ دمويةٍ تُعيد إنتاج نفسها بوجوهٍ مختلفة، لكنها تحتفظُ بالحبكةِ ذاتها: الوهمُ، القمع، ثم السقوط.

عبد الخالق محجوب، الذي قُتل لأنه رفض أن يرى في الجيشِ حليفًا، كان يُدركُ أن العسكرَ لا يصنعون الثورات، بل يُجهضونها. غرامشي، الذي تحدث عن “الهيمنة” كأداةٍ لصياغةِ الوعي، كان ليجدَ في السودانِ نموذجًا فريدًا لهيمنةٍ لم تُصنع عبر الأفكار، بل عبر الرصاص. وبين هذا وذاك، يظل المواطنُ السوداني، الذي اعتاد أن يكون مشروعَ شهيد، في انتظارِ أن يسألهُ أحدهم: متى تُريدُ أن تكونَ مواطنًا كاملَ الحقوق؟

لكن لا أحد يسألُ هذا السؤال، لأن في السودان، كما في كل الدول التي سقطت في قبضةِ العسكر، السؤالُ الوحيدُ الذي يُسمعُ دائمًا هو: لمن السلطة؟ وما دامت الإجابةُ تأتي بالسلاح، فإن المواطنَ لن يكونَ سوى صدىً للأقدامِ التي تجوبُ الخرطوم، بحثًا عن غنيمةٍ جديدة.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • الدستور الاسلامي لماذا؟
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • ملتقى القضايا المعاصرة: الأزهر يسلك سبل التفكير السليم .. وأمامه تعطلت مناهج الملحدين
  • مجمع الفقه الاسلامي يحدد زكاة الفطر للعام 1446
  • الحكومة السودانية تسمى ملحقين إعلاميين بمصر وإثيوبيا
  • المهددات المحلية والاقليمية والدولية لسيطرة آل دقلو على السودان (2/1)
  • الاعيسر يبحث مع اليونسكو التعاون في استعادة وترميم الآثار السودانية
  • مراجعات (مناوي)، هل السودان الجديد مكتوب؟
  • الموت بالوكالة: كيف صار الشعب السوداني رهينةً لسلطتين قاتلتين؟
  • مسجد الجمعة بالمدينة المنورة.. مَعّلمٌ إسلاميّ مُرتبط بالسيرة النبوية