ماكرون وعقدة مسار الذاكرة.. الرئيس الأكثر تشييعا للشخصيات الوطنية في فرنسا
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
بات مؤكدا أن ينهي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عهدته الثانية بإنجاز لم يسبقه إليه أي رئيس فرنسي آخر على مدار الجمهورية الخامسة على الأقل، فهو ليس أصغر رئيس يدخل قصر الإليزيه فحسب، بل أكثرهم تكريما للرموز الوطنيين، وأكثرهم إحياء للذاكرة التاريخية والوطنية، حتى أصبحت هوايته المفضلة.
وفي انتقاد ساخر أطلقته الصحافة الفرنسية، فإن ماكرون يعد أكثر الرؤساء الفرنسيين تشييعا للشخصيات الوطنية في فرنسا إلى مثواهم الأخير.
ولا ينافس ما كرون في سياسته التي بدأ التسويق لها حتى قبل فوزه بالرئاسة، سوى الرئيس الراحل شارل ديغول. ولكن ماكرون يريد الذهاب أبعد من ذلك بإرساء مشروعه الخاص بشأن المصالحة مع التاريخ، رغم العقبات المفخخة، خاصة العلاقات بالمستعمرات السابقة.
لهذا يشكل "مسار الذاكرة" محطة محورية في العهدة الثانية للرئيس الفرنسي إلى جانب دورة الألعاب الأولمبية المقررة في صائفة 2024.
حفل رسمي لدخول ميساك وميليني مانوشيان إلى البانثيون في باريس في 21 فبراير 2024 (الفرنسية) مسار ماراثونيكانت الشارة الأولى لهذا المسار قد أعطيت بالفعل في 2020 تحت شعار "المقاومة كشكل من الصمود" بإحياء ذكرى تكريم جون مولان أحد رموز المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني، واختتم في 21 فبراير/شباط 2024 بتشييع رفات الشيوعي المقاوم من أصل أرمني، ميساك مانوشيان وزوجته ميليني إلى "بانثيون"، مقبرة عظماء الأمة أو معبد الجمهورية.
بحسب الرئاسة الفرنسية، أعدم ميساك مانوشيان في موقع "كليريير دي فوزي"، مع 21 آخرين من رفاقه في المقاومة في 21 فبراير/شباط 1944. ووفق الرواية الرسمية، قضى هناك ألف من المقاومين والرهائن من بينهم شيوعيون وأجانب ويهود، بعدما مروا ضمن مجموعات يتألف كل منها من 4 أشخاص أمام فرقة إعدام مكونة من 30 جنديا ألمانيا.
في الثامن من أبريل/نيسان 2024 انطلق الجزء الثاني من المسار بشعار "التحرير نهضة بلد" بتكريم الرئيس الفرنسي لمقاومي هضبة "غليير" بإقليم "سافوا العليا" جنوب شرق فرنسا، وهو الإقليم الذي يحتفظ بذكرى تجمع 465 مقاوما من الداخل الفرنسي ومن أجانب، قبل سحق حوالي ثلثيهم على يد الجيش الألماني ومليشيا نظام فيشي آواخر مارس/آذار من العام 1944.
بعدها توجه ماكرون لمنطقة إيزيو لإحياء ذكرى ترحيل 44 طفلا يهوديا من مدينة ليون في السادس من أبريل/نيسان 1944 من قبل الشرطة السرية الألمانية (ألغستابو) إلى معتقل "أوشفيتز" النازي ببولندا.
تضمن شهر أبريل/نيسان أيضا إحياء ماكرون لذكرى وحدة المقاومة في فيركور (جنوب شرق)، في مبادرة هي الأولى. ويضاف إلى تلك الفعاليات الاحتفاء بذكرى المقاومة بمدينة مارسيليا يوم الثامن من مايو/أيار الذي يمثل نهاية الحرب العالمية الثانية، تزامنا مع وصول الشعلة الأولمبية إلى المدينة.
تعزيزات أميركية تنزل إلى شواطئ نورماندي على الساحل الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية (أسوشيتد برس)وتستمر احتفالات الذكرى الـ80 لإنزال نورماندي لمدة 3 أيام، تبدأ في الخامس من يونيو/حزيران بتكريم المظليين في إقليم بروتانيا، قبل إحياء ذكرى الإنزال في اليوم التالي بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن عشية انتخابات البرلمان الأوروبي.
وفي العاشر من الشهر نفسه يشارك ماكرون في تكريم ضحايا الانتهاكات الألمانية في مدينتي "تول" و"أورادور سور غلان" جنوب غرب فرنسا.
وتتضمن التكريمات إحياء ذكرى السياسي المقاوم ووزير الداخلية السابق جورج مانديل، الذي اغتاله ألغستابو في السابع من يوليو/تموز 1944، وبمرور 80 عاما على إنزال بروفانس منتصف أغسطس/آب وتحرير باريس في 25 من الشهر نفسه ثم ستراسبورغ (في الشرق) في 23 نوفمبر/تشرين الثاني.
ويمتد "مسار الذاكرة" إلى مرحلة ثالثة مطلع عام 2025 حيث من المقرر أن يحيي ماكرون ذكرى "الاعتراف بفرنسا في محفل الأمم"، وفق ما أعلن الإليزيه.
صورة الممثل الفرنسي الراحل جان بول بلموندو على شاشة عملاقة خلال حفل تكريم وطني بحضور ماكرون (الفرنسية) توسيع دائرة التكريمات
أحدث ماكرون مفهوما موسعا للتكريمات الوطنية التي لم تعد حكرا على العسكريين الذين قتلوا في سبيل الجمهورية، بل شمل أيضا فنانين مثل جون بول بلمندو والرسام بيير سولاج والكاتبة ماريس كوندي.
ويقول مدير المركز العربي للدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ للجزيرة نت إن "رد الاعتبار ورفع الظلم والتجاهل الذي تعرض له عديد الشخصيات يعد من الأعمال الوطنية والأخلاقية والحضارية، ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بارتياح كبير لمثل هذه التكريمات".
وفي تعليق على هذه السياسة، نقلت صحيفة "لوموند" عن مستشار للرئيس الفرنسي قوله إن "التاريخ لم يعد يكتب من المعارك، بل من خلال الصحفيين والفنانين والرياضيين وغيرهم".
ومن بين التبريرات التي تسوقها الدوائر المحيطة بالرئيس الفرنسي أن التكريمات تمثل أداة لتشكيل شيء مشترك داخل الأمة الفرنسية في مجابهة محاولات الانفصال وحل مشكل الهوية.
يبرز ذلك في موكب تشييع المقاوم الشيوعي ميساك مانوشيان والقاضية اليهودية سيمون فيل والمغنية من أصول أميركية جوزيف بيكر، إلى البانثيون. كما تبرز في إشادة ماكرون بالمشارب المتنوعة للمقاومين من "المدرسين والقرويين والوجهاء واليهود كما الكاثوليك والشيوعيين والاشتراكيين ومن مناصري ديغول والضباط الفرنسيين والأجانب الذين اتحدوا في مواجهة النازية".
ورغم محاولات تأكيد وحدة الأمة وإعلاء عنصر التنوع، فإن هذه السياسة لا تلقى الحماسة ذاتها لدى السياسيين والمحللين.
ولفت الشيخ للجزيرة نت إلى "أن الارتباط الشديد بالتاريخ والهوس بالبانثيون يستدعي تفسيرا، قد ينطوي من جهة على رغبة في تجاوز مشاكل الواقع وأداء الحكومة المتعثر، ومن جهة أخرى مجابهة المنغلقين على الهوية الفرنسية. فماكرون يرى أن الفرنسي أو الفرنسية هي حالة روح قبل أي شيء آخر".
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال حفل لإحياء الذكرى الـ80 لمعركة غليير 7 أبريل 2024 (رويترز) إستراتيجية "الريمورا"لم يتأخر المتحفظون في توجيه نقدهم إلى "مسار الذاكرة"، فقد كتب المحلل السياسي نيكولا بافيريز بصحيفة "لوبوان" منتقدا نهج ماكرون في "استغلال الذاكرة وتحويلها لتصبح سياسة"، مشبها مقاربة الرئيس بإستراتيجية "سمكة الريمورا" التي تتطفل على الحيتان الكبيرة، مضيفا "هو يلجأ إلى ظل الشخصيات المعروفة في محاولة لإثبات وجوده".
ولم تستبعد صحيفة "لوفيغارو" في تحليل لها، وجود رابط وثيق بين الأجندتين التذكارية والسياسية، لمجيء الانتخابات البرلمانية مباشرة بعد ذكرى النورماندي التي ستشهد إلقاء كلمة لماكرون في اجتماع لم يحدد بعد ولكنه يشير إلى عودة الحرب إلى أوروبا وهي من المحاور الأساسية التي يركز عليها المعسكر الرئاسي في الحملة الانتخابية.
ولم يتردد ماكرون في توجيه رسائل سياسية مبطنة مستفيدا من "مسار الذاكرة"، ومذكرا في أكثر من مرة بشعار المقاومين "العيش بحرية أو الموت"، في تلميح إلى الغزو الروسي لأوكرانيا. وقال صراحة في خطاباته "لا بد من أن تتوقف هذه الحرب".
التكريمات التي شملت الأرمن والشيوعيين والمقاتلين الأجانب تأتي مناقضة للسياسة الحكومية على أرض الواقع (الفرنسية)ويقول الأكاديمي جان جاريج إن ماكرون يسعى باعتماده على "مسار الذاكرة" الانتهازي لإضفاء الشرعية لنفسه وسد العجز. لكن الأمر من جانب آخر قد يمثل "اعترافا بالهشاشة"، مثلما وصف ذلك الخبير والمستشار بمؤسسة جان جوريس، ماتيو سوكيار الذي يرى أن "الإغراق في التكريم يقلل من قيمته ويرهق الرأي العام".
ومن الانتقادات التي وجهت لماكرون أن التكريمات التي شملت الأرمن والشيوعيين والمقاتلين الأجانب تأتي مناقضة للسياسة الحكومية على أرض الواقع، وتحديدا من خلال تشديدها لسياسات الهجرة والتجنيس للأجانب الذي يعملون لسنوات طويلة في فرنسا ويسهمون في إنعاش الحركة الاقتصادية.
كما لا يعكس "مسار الذاكرة" القدر نفسه لرغبة المعسكر الرئاسي في المصالحة التاريخية تجاه ملفات حساسة ترتبط بمقاتلي المستعمرات الذين شاركوا في تحرير فرنسا، ولا الجرأة نفسها في كشف تواطؤ حكومة فيشي مع الألمان والحديث بوضوح عن السجل الفرنسي المظلم في تلك المستعمرات.
ماذا عن المستعمرات؟منذ توليه الرئاسة أطلق الرئيس الفرنسي 3 مشاريع للذاكرة، هي الحرب الأهلية في رواندا واستعمار الكاميرون وحرب الجزائر.
وقال المؤرخ الفرنسي باسكال بلانشار في هذا الصدد "قبل ماكرون كان هناك حوالي 10 سنوات من الفراغ في الذاكرة. لم يبادر سلفاه بوضع أي مشروع تذكاري قوي"، مضيفا "المسألة الاستعمارية هي جيله وإذا لم يفعل شيئا في هذه القضية، فسيكون قد فشل وهو يعرف ذلك. أمامه 3 سنوات لإحضار الرماة السنغاليين إلى البانثيون"، في إشارة إلى الفوج السنغالي الذي شارك في حروب فرنسا في الحربين العالميتين وفي المستعمرات.
معركة فردان خلال الحرب العالمية الأولى تمثل نقطة سوداء في تعاطي باريس مع سجلها الحربي (مواقع التواصل)ورغم مبادرة ماكرون مشاركة نظيره المالي في موكب تكريم "القوة السوداء" بمدينة ريمز في ولايته الأولى عام 2018، فإن الخطوات لا تزال محتشمة بحق مئات الآلاف من مقاتلي المستعمرات الذين شاركوا في حروب لا تعنيهم.
وتمثل معركة "فردان" الشهيرة شمال شرقي فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى نقطة سوداء في تعاطي باريس مع سجلها الحربي. فلا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد جنود المستعمرات الأفارقة، لكن مصادر تاريخية تقدر الأعداد بأكثر من نصف مليون واجهوا جيشا ألمانيا قويا، وكان لهم دور محوري في تجنيب فرنسا الانهيار في أطول معركة شهدتها الحرب امتدت لأكثر من 300 يوم.
ويقول أستاذ التاريخ السياسي المعاصر بجامعة منوبة في تونس خالد عبيد، للجزيرة نت "إن الحديث عن الذاكرة في فرنسا غالبا ما اقترن بالجدل والتجاذبات السياسية، خاصة ما يرتبط بمستعمراتها السابقة. وهذا الملف ظل معضلة دائما، لهذا كان التعامل معه يتسم بالحذر الشديد ويخضع في الغالب لطبيعة العلاقات بين باريس ومستعمراتها السابقة".
عقبة الجزائررغم التركيز المكثف على الذاكرة فإن مسار المصالحة الذي أُطلق بشأن ملف الجزائر المعقد، عبر "لجنة الذاكرة المشتركة" بين الجزائر وباريس في أغسطس/آب 2022، لم يصل إلى مستوى الاعتذار الرسمي عن حقبة الاستعمار.
كانت اللجنة التي تضم مؤرخين من الجانبين والمكلفة بالبحث في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر من عام 1832 وحتى العام 1962، قد عقدت 3 اجتماعات سمحت في أفضل إنجازاتها بتسهيلات أكبر للوصول إلى الأرشيف الفرنسي السري المرتبط بالجزائر، ولكنها لم تفض إلى اختراق فعلي في مجال المصالحة والإقرار بالمسؤولية.
وتطالب الجزائر باستكمال تسليم رفات وجماجم المقاومين الجزائريين الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال الفرنسي والحقائق كاملة عن الإخفاء القسري للعديد من الجزائريين وإثارة ملف استخدام الجيش الفرنسي لأسلحة محرمة ضد المقاومة الجزائرية والتجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، والمطالبة باستعادة مقتنيات وممتلكات تعود لأعيان وقادة الثورات والمقاومين وفي مقدمتها ممتلكات الأمير عبد القادر.
وتتحجج باريس بغياب قوانين لديها تسمح بإعادة تلك الممتلكات التي تصنفها في خانة الهدايا. بينما أمكن في جانب آخر إحراز تقدم رمزي في فبراير/شباط 2024 يسمح باسترجاع مليوني وثيقة، إضافة إلى كل الأرشيف المرتبط بالفترة العثمانية ما قبل 1832، وفق ما أعلنه الجانب الجزائري.
وعلاوة على عقبات التاريخ، بما في ذلك ملف "الحركيين" الذين حاربوا في صفوف فرنسا ضد بلادهم، تصطدم جهود المصالحة بتوتر يظهر بشكل متكرر بين الدولتين بسبب انتقادات تصدر عن سياسيين فرنسيين ومن أعضاء بحزب ماكرون، بشأن أوضاع حقوق الإنسان في الجزائر وهو ما يثير غضب السلطات الجزائرية.
ورغم الخطوات المعلنة من باريس بشأن "مسار الذاكرة"، فإن الخبير خالد عبيد لا يتوقع في حديثه مع الجزيرة نت، اعتذارا فرنسيا كاملا في نهاية المطاف عن جرائم الاستعمار.
ويضيف في تحليله "صحيح كانت هناك محاولات محدودة من الرئيس ماكرون لكن من غير المتوقع الذهاب إلى الحد الأقصى في ذلك. السبب الأول يعود إلى نفوذ اللوبيات في الداخل الفرنسي. والأمر الثاني أن الاعتراف بفظاعات الاستعمار قد يهدد بنسف صورة فرنسا التي يجري تسويقها عالميا كحاملة لواء الحريات وحقوق الإنسان".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الرئیس الفرنسی الحرب العالمیة إحیاء ذکرى ماکرون فی فی فرنسا
إقرأ أيضاً:
هل يقع التغيير بالثورة في اليوم العاقب لها: الثورة الفرنسية مثالاً (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
هذه مذكرات عن الثورة الفرنسية أخذتها من "أوربا الثورية 1780-1850" (2000) كتاب زميلي السابق في شعبة التاريخ بجامعة ميسوري جونثان سبيبربر. جلست إلى الكتاب في أعقاب ثورة ديسمبر حين سقمت نفسي أحاديث مطلوقة عن الثورة السودانية اشترطت أن تنهض الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد اسقاط النظام مباشرة وإلا صارت "انتفاضة" في أحسن الأحوال أو هرجاً وضلالاً. وعرفت أن أياً من مشيعي تلك الخزعبلة لم "يشق" بطن كتاب عن ثورة ليعرف أن الثورة هي تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. وبس. أما التغيير فلا يأتي لحزته لأنه مما تختلف الآراء فيه وسبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. ولا أعرف إن كان من يذيع هذا الضلال وقف عند الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها ليرى أنها اختلفت حول التغيير اختلافاً محلياً وأوربياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية اللتين هما المعنى الذي كان من وراء الثورة تحققا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يتشهى بعضنا. ويكفي أن جرى استرداد الملكية لفرنسا ثلاث مرات ولم تتوطد الجمهورية إلا في ثمانينات القرن التاسع عشر. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية لأول مرة.
نحن، وذكرى ثورة ديسمبر على الأبواب، قبايل "تجديد البكا" على الثورة في تاريخنا. وهو بكاء كاليتم لانقطاعه عن تاريخ الثورات المقارن ويريد لثورة السودان أن تغير ما بنا في لمح البصر: short and sweet
أردت عرض هذه المذكرات عن الثورة الفرنسية حتى لا نخدع عن حقائقنا وثوراتنا بثمن جهالة بخس. وعينت الصفحة من الكتاب أمام تلخيصي لما فيها. وربما صادفت القارئ متاعب هنا وهناك لأن هذه المذكرات مما أردت منه أن أعرف عن الثورة الفرنسية لا أن أنشرها كما أفعل الآن.
ص 51 الثورة الفرنسية لعام 1789 واحدة من الحوادث الكونية التي أعادت تشكيل تاريخ أوربا وما سواها في العالم بأسره. مثّلها على اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الجديد أو الثورة الصناعية.
ص 60 "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (26 أغسطس 1789). أنهى النظام الإقطاعي وألغى الامتيازات التي اتصلت به ليؤسس لأمة من مواطنين متساويين.
61-64 خلا من مواطنة المرأة والعبيد الأفارقة في الجزر المحكومة بواسطة فرنسا. حقوق الذكر الأبيض. وترك الإعلان أمر المواطنة والملكية، ودين المواطن كاثوليكي وبروتستانتي، ومنزلة الملكية والكنيسة من غير ذكر. ولكن تلك المسائل صارت في مركز الأحداث لاحقاً بعد تكوين الحرس الثوري، وصدور الصحف، ونشأة الأندية السياسية (اليعاقبة من اسم مبناهم الذي كان لطائفة اليعاقبه)، وبروز الثورة المضادة بهجرة أخ الملك وأفراد من النبلاء إلى المانيا على الحدود من فرنسا للعمل على استعادة أوضاع فرنسا لما قبل الثورة.
65ببداية 1791 انقسم الفرنسيون بين من يريدون للثورة أن تطرد وبين من يريدون لها أن ترتد إلى ما قبل 1789 (65 نشوء نظام المحاكم الوطنية بديلاً للماكم الملكية والاقطاعية). 66 (صارت المواطنة قرينة بالملكية مرتبطة بالسوق الحر لا كما اكتنفتها امتيازات الإقطاع سابقاً. وبهذا صار المواطن هو تملك قدراً منها ليستحق التصويت. فحرمت نصف أو ثلثي السكان من التصويت بمقتضى هذا الاقتصار. وللترشيح يستوجب أن يكون للمرشح قدراً أعلى من الملكية عن المصوت). 66 التفريق هنا بين مواطن نشط له التصويت والترشيح ومواطن سلبي محفوظ الحقوق بغير مشاركة في التشريع لها.
67 أكثر إصلاحات الجمعية التأسيسية ودستورها لسنة 1791 مرت بغير اعتراض، بل بترحيب: الملك رأس الجهاز التنفيذي 77 ودستوري في مواجهة مجلسي تشريع. فرنسا صارت في 1791 ملكية دستورية. وهكذا استوعب الإصلاح الملكية والكنيسة في هذا الطور.
عانت فرنسا بعد الثورة ضائقة اقتصادية بالنظر إلى تقلص إيراداتها من الضرائب التي توقف الفلاحون عن دفعها لأن امتناعهم من مكاسب الثورة. الحكومة تعيد تسمية الضرائب بما تستعيد به السحر التعاطفي: "المساهمة الوطنية".
68 واضطرها ذلك لمصادرة ممتلكات الكنيسة وبيعها وإصدار سندات بمقتضاها. وسبق للحكومة أن منعت الكنيسة من تحصيل "أتاواتها" التقليدية. فأفلست الكنيسة واضطرت الحكومة لدفع مرتبات القسس.
68 من هناك جرى اصلاح للكنيسة شمل تنظيمها وأهم جوانبه انتخاب القساوسة وأن يقسم القساوسة الولاء للأمة كغيرهم من موظفي الدولة.
شقاق ممن رأوا في ذلك تدنيساً لكنيسة الرب. وافقهم البابا الذي وجه ألا يقسم قسيس بالولاء للأمة.
69 شق روحي ل95 في المائة من المسيحيين الكاثوليك من سكان فرنسأ. انقسم القساوسة إلى نصفين بين من قبل بالقسم للدولة وبين من رفض. الدولة تستبدل العصاة بغيرهم. صراع. مساندو العصاة يسندونهم وعنفوا ضد من اقسموا للدولة. والنساء كثير بين الداعمين للقسس العصاة. ومن الجهة الأخرى الثوريون مثل اليعاقبة وصموا من لم يقسم للأمة بالمضاد للثورة الرجعي، وعبأوا الحرس الوطني للدفاع عن قسس الدولة والعدوان على غيرهم. انتقل الصراع إلى سائر فرنسا في 1791. وكان هذا الصراع حول الكنيسة بذرة الثورة المضادة. وطرأ للجمعية أن المقاومة الشرسة لتوطين الكنيسة لابد أن من ورائها قوى متآمرة شريرة مما حفزهم لمضاعفة الجهد لتنفيذ الخطة. وكانت الملكية جناحاً لتلك الثورة أيضاً. كن الملك مضطرباً بين العمل مع الجمعية التي جعلته ملكاً دستورياً أو يقاومها.
تظاهرة أكتوبر 1791 ضد الملك في فرسايل في سياق أزمة خبز نسبها عامة باريس لتآمرات العائلة الحاكمة. فحمت الحكومة الملك من عامة باريس وصار مديناً لها سياسياً. وضاق بذلك وقرر الهروب إلى الخارج بعد أن ترك بياناً منه أوقف توطين الكنيسة (أي جعلها وطنية فرنسية لا عالمية) وإلغاء قرارات الجمعية التأسيسية. وحاول الهرب في 20 يونيو 1791. ولكن ألقى عليه القبض. نشأت قناعة أن النظام الجديد لا يمكن له التعايش مع الملوكية والكنيسة. انقسام في الجمعية بين من أرادوا الاستمرار في الملكية برغم كل شيء ومن هم ضد ذلك وعلى رأسهم نادي الكوردلر المتطرف بأكثر من اليعاقية. تظاهرة لنزع الملك. تصدى لها الحرس الوطني. مذبحة شمب دي مار. صراع بين ا والجذريين في نادي اليعاقبة بباريس. ال يستقلون بناد فيوللانت. اليعاقبة بقيادة روبسبير يتحولون من ملكيين إلى جمهوريين. تمحورت السياسة في آخر 17991 حول محاور: 1-الردة عن الثورة في مواقع المهاجرين والملكيين حول المسألة الدينية.، 2، ومن اكتفى بما تم إنجازه بما فيها إصلاح الكنيسة وبقاء الملك، 3-من أرادوا مواصلة الثورة نحو الجمهورية الديمقراطية مثل اليعقوبيين ومناصريهم. واحتدت الخصومة بحيث صار أمر تطبيق دستور 1791 مشكوكاً فيه.
عوامل للاسقطاب السياسي والثورة التي ساقت إلى حرب أهلية
72 اكتنفت الثورة أزمة مالية لم تخرجها منها حتى السندات المالية بضمان أرض الكنيسة المصادرة. فلم يقبل الفرنسيون في المناطق المناصرة للقسس المنشقين على شراء الأرض، بل قابلوا من حاول ذلك بالاحتجاج والشنق سحلاً. وفرضت الحكومة تداول السندات التي اشتراها أهل المال من الناس بثمن بخس أدى إلى تدهور سعر العملة. فامتنع المزارعون من بيع محصولاتهم بالثمن البخس. فنقص المعروض من الطعام في الأسواق. وأدى هذا إلى نشأة فئة اجتماعية سياسية في المدينة عرفت ب"سانس-كولتس". وهي من العاملين بأيديهم من الحرفيين وصغار التجار وسيطة بين البرجوازية والعمال: برجوازية صغيرة. فهم يعملون بأيديهم ويؤجرون من يعملون بأيديهم. وظهرت سطوتهم في سقوط الباستيل 1789 وحصار فرسايل في أكتوبر 1791. ولما كانت الحكومة قد عادت إلى باريس أعطى هذا السانس قوة للضغط زائدة.
ص 17-72. ومن تلك العوامل تورط فرنسا في حرب أوربية. فإلغاء النظم الإقطاعية أخاف أوربا. وقوى من هذه الحرب عامل للسياسة الداخلية هو المهاجرون الفرنسيون ممن كونوا فرقهم المسلحة على حدود فرنسا الشرقية. العناصر الأكثر جذرية في الجمعية التأسيسية (1791) طالبت بشن الحرب على المانيا لإيوائها المهاجرين لكسر ظهر عناصر الثورة المضادة. ومتى انتصروا في الحرب كان سبباً لترويع المعارضة الداخلية وإخراسها علاوة على نشر مبادئ الثورة الفرنسية في الخارج. وافق الملك على الحرب برغم أن بعض أسرته من بين "الثورة المضادة". وعارض روبيسبير زعيم اليعاقبة الحرب لأنها مشقة غير مأمونة العواقب. بدأت الحرب في 1792 وما لبث أن بدأ عوار الحرب للحكومة. فتناصرت قوى أوربا مع قوى الثورة المضادة. وكان متى احتلت الجيوش الأوربية موضعاً فرنسياً استعادت فيه النظم التي ألغتها الثورة. وصارت الحرب، التي اختلفت دوافع القوى الأوربية لدخولها، تعرف بحرب بين الثورة والثورة المضادة، الثورة والاستعادة. حرب لم تقع للإنسانية من قبل.
74 بدا للجذريين في باريس أن دروس الحرب تلك أن يعنفوا. فالوسطيون حاربوا بغير نفس بل انضم بعض قادتهم للعدو. وكان يراسل الأعداء وهو القائد العام لجيشهم. وكان جورج دانتون، من الجهة الأخرى، من نادي كوديلر متحمساً للحرب: الجراءة والجراءة أكثر والجراءة ما يزال هي التي ستنقذ فرنسا". وبدأ الجذريون في الإعداد لانتفاضة جمعوا لها الحرس الوطني من سائر فرنسا (20 ألف) في مظاهرة في 10 أغسطس 1792. سارت للقصر الملكي وهزمت حرسه وقتلت أكثرهم. وأعلنت أن فرنسا جمهورية.
75 وفرضوا إرادتهم على الجمعية التأسيسية بحل نفسها وإجراء انتخابات جدية لجمعية تضع دستوراً للبلاد الجمهورية. وحدث ذلك واجتمع البرلمان في سبتمبر 1792.
75 تواصلت الحرب واقترب البروسيون (بروسيا) من باريس. واستقل السناس بأنفسهم عن الأندية. وأخذوا يستأصلون السجناء السياسيين من النبلاء والقسس المنشقة في ما عرف ب"السبتمبريين". وهي لعنة دم لاحقت الجذريين. وأمض ارتفاع الأسعار السناس أيضاً. وكا مقترحهم لاحتوائها هو تحديد الأسعار وإن لم يسلم الفلاحون نتاجهم صادرته الدولة.
وبذلك التصعيد صارت الجمعية التأسيسية ساحة مرة أخرى لمن أراد اطراد الثورة ومن رغبوا عن ذلك. منشأ اليمين واليسار خلال هذه الخصومة. صار جذريو الجمعية السابقة، قُرُيندنز، في صدام مع اليعاقبة الذين رغبوا في التحالف مع السانس ممن طلبوا تحديد الأسعار. وهو تعد على الملكية لم يقبله القريندز. واشد خلافهم كان حول مصير الملك المخلوع. لم يمانع كثير من النواب من تقديم الملك للمحاكمة بتهمة الخيانة. ودفع الملك عن نفسه بأن دستور 1791 جعله مبرأ من مثل هذه المحاكمة. أما دفاع أنصاره المهجرون فكان أن الثورة هي الخيانة. ونشب الخلاف حول العقوبة. فأراد القريندز، متاثرين بعقيدة الملك لمعصوم، تفادي قتله باي صورة بالدعوة لسجنه أو لنفيه وغيرها.
ص 77 وأراد القريندز بذلك ألا يقطعوا شعرة معاوية مع أوربا الملكية. وهي الشعرة التي أراد اليعاقبة قطعها. صوتت الجمعية لقتله بأغلبية قليلة بعد جلسة متصلة دامت 36 ساعة. وقتل في 21 يناير 1793 على المقصلة شهيداً مسيحياً باركه البابا في نزال قوى الشر. وكان السانس يغنون المارسليز. واحتدم الصراع بين الجماعتين. أراد القريندز إغلاق أندية اليعاقبة وغيرهم ووقف صحفهم. فجنح اليعاقبة على السانس فآزروهم باقتحام الجمعية في يونيو 1793 والمطالبة بنزع القريندز من عضويتها. فاستجاب اليعاقبة مسرورين.
وصار بوسع من تبقى من الأعضاء المضي قدماً في مواصلة الثورة. فقرروا التجنيد الاجباري وتنفير قوة الأمة كلها رجالا ونساء شيباً وشباباً للنصر في الحرب من اجل الجمهورية.
87 واتبعوا إجراءات عنيفة ضد الثورة المضادة كجماعة عملاء لقوة أجنبية. تكونت لجان الرصد لأعداء الثورة لفرز من معها ومن ضدها. انتزاع شهادات الولاء للثورة. وصار أهل الحظوة القديمة موضع ريبة. محاكم خاصة لمحاكمة الخونة. وتمت مصادرة ممتلكات المهاجرين المعادين. ونشأت لجنة السلامة العامة تتوج إجراءات العنف ضد الخصوم. وكافأوا السانس بتحديد الأسعار ومصادرة منتوج الفلاحين الممتنعين عن البيع. وكان هذا بخلاف عقيدتهم في السوق الحر. كان روبسبير من وراء لجنة السلامة. جعلت أندية اليعاقبة نفسها حكومة من وراء الحكومة الرسمية في التربص بالأعداء. وكلما أوغلت اللجنة في العنف كلما خلقت طائفة من الأعداء لها. ففي مدن الجنوب انتصر المعتدلون على المتطرفين. وساءهم طرد القريندز المعتدلين من الجمعية في باريس فقاموا بعصيان سموا أنفسهم فيه الفدراليين. وكانوا مع الثورة رغم عدائهم للجمعية يريدون لفرنسا أن تحتفظ بنظمها الباكرة للثورة من المصالح والدوائر الذاتية لا المركزة التي جرت لاحقاً على يد اليعاقبة. كانت وراء ثورتهم عوامل: 1-الدين لأن سكان غرب فرنسا أكثرهم تديناً، وهم ضد القانون المدني للقساوسة. وصارت تحرشات وصدامات طوال عامي 1791 و1792. وكان أهل غرب فرنسا ضد التجنيد الاجباري أيضاً لأن العمل بالجيش ليس له أصل فيهم. جاء لقيادة سخط غرب فرنسا على الجمعية قساوسة متمردون ونبلاء.
81 وكونوا في مكان ما "الجيش الملكي والكاثوليكي" وساروا لباريس لإسقاط الجمعية. جماعة أخرى نهضت بحرب عصابات. وكلاهما متصل بالمهاجرين آملين بتدخل بريطانيا. وجسد ذلك الصراع صدام الدين وثقافة عهد الأنوار المناوئة له. وكان صراعاً اتسم بالوحشية. ذبح الثوار أنصار النظام الحاكم في باريس ذبح الشياه وشيعوهم بالترانيم الدينية. ولما تلقى أنصار الحكومة عوناً قتلوا كل سجنائهم.
ص 80
عهد الرعب 1893 إلى 1794
أدى رعب الحكومة إلى ضحايا بلغوا 35 ألف موتاً بالسجن أو بواسطة المقصلة. أكثرهم كان من جنوب فرنسا الذين حملوا السلاح ضد الحكومة. ولا يشمل هذا من قتلوا في غرب فرنسا الذين ربما كانوا خمسة اضعاف ذلك العدد. ولكنهم ماتوا في قتال مباشر بين أطراف الحرب بين الحكومة والمنشقين عليها.
81 وما يجعل ارقام أولئك الضحايا قابضاً للنفس ليس أننا لم نشهد ضحايا أكثر منه في عصرنا ولكن لأنه وقع في محاولة لبناء فرنسا جديدة على بينة "جمهورية الفضيلة" في عبارة لروبيسبير. خلال الحرب الأهلية والخارجية عكف اليعاقبة على تدبيج نظام جديد لفرنسا استمر في صوره المتطرفة لسنة واحدة:
1-ثقافة جديدة لفرنسا تحل مكان الثقافة القديمة شملت تغيير التقويم. جعلوا الثاني والعشرين من سبتمبر 1792 بدء للتقويم الجديد الذي حل التقويم المسيحي. جعلوا الأسبوع 10 أيام تنتهي بيوم عطلة ليس هو الأحد. وسموا الشهور تسميات جديدة. مثلاً شهر الحرارة Thermidor وهو ذروة الصيف. وgerminal وهو من بعض مايو ويونيو وهو شهر نمو المحاصيل. ولم يقبل بالتقويم أحد للخبطته الأعياد الدينية واختزاله أيام العطلة. اقتصر التقويم على الاستعمال الرسمي حتى جرى إلغاؤه في 1806.
2-إصلاح الموازيين والمكاييل وضبط معاييرها. كانت المقاييس قبل الثورة مقاسة على جسد الملك. فالقدم في الواقع هو طول قدم الملك. جاؤوا بمقياس المتر مستفاداً من تراكيب الطبيعة. وجرى قبول هذه "البدعة".
3-إعادة تسمية الشوارع التي أطلقت على ملوك. استبدالها بأسماء لأبطال الأغاريق والرومان. وسمى اليعاقبة أولادهم بروتس وحتى فرانكلن (ألأمريكي) احتساباً للجمهورية. ويخاطب الواحد الآخر يا"مواطن" كسراً لنظام الألقاب.
وكان القصد هدم الكاثوليكية. زادوا بالاعتداء على الكنائس وتدنيس رموزها. ولم يسلم حتى القساوسة المطاوعين من التضييق فأضطر 18 ألف منهم لنزع الرداء الكنسي وقبلوا بمدنيتهم وأول مظاهرها الزواج مما كان محرماً عليهم.
واحتار الجذريون في ما يحلونه محل المسيحية. فأقترح البعض الإلحاد أو حكم العقل. فسموا كاتدرائية نوتردام بمعبد العقل. ثم انتهوا إلى نسخة هادئة من الدين الجديد هي ال"deist". وهي عقيدة تؤمن بوجود الرب. ولكنه تلاشي حين حرك الكون وشغله. وانقطعت صلته بالكون والخلائق. وصار مصير الدين الجديد مصير التقويم: النفور منه. ولكن ثبت اليعاقبة مبدأ المواطنة أما السوية القانون فشملوا بها كل الذكور دون النساء. ونواصل.
ibrahima@missouri.edu