نفحة من كتاب: الجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
آخر تحديث: 17 أبريل 2024 - 2:51 م لمؤلّفه اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس بقلم: صفوة فاهم كامل سعدْتُ جداً عندما أهداني أستاذي وزميلي وصديقي اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس مؤلّفهُ الحادي والعشرين وآخر إنجازاته البحثية المتميّزة، فور صدورہ من المطبعة وقبل توزيعه في المكتبات، الموسوم (الجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948… سِفْر خالد وتاريخ مجيد)، أحدث منشورات دار الأكاديميون للنشر والتوزيع في عمّان لعام 2024.
يُعَدُّ اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس في الوقت الحالي عميد الجيش العراقي إن لم نقل شيخهم النجيب، فهو من مواليد بغداد عام 1937، خريج الكلية العسكرية/ دورة ٣٣ عام ١٩٥٧، والأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية (Sandhurst) عام ١٩٥٧، وكلية الأركان العراقية عام ١٩٦٦، وكلية الحرب الفرنسية العليا عام ١٩٧٧. وذو شخصية عسكرية رياضية علمية رصينة وصاحب مؤلفات ودراسات وبحوث مفيدة أغنت المكتبتين العسكرية والمدنية، وما زال يملك في جعبته الكثير من الأفكار والطروحات قيد البحث والتأليف.
وأَكاد أجزم -وهذه قناعتي- أنَّ كتاب اللواء خمَّاس هذا والذي استغرقَ إعداده ثلاث سنوات متواصلة هو قمَّةُ هرم كتبهِ وأنجحها، فقد وضعَ فيه عصارة جهدہِ الفكري والبحثي ناهلاً من خبرته الطويلة وثقافته العالية واطلاعه على الكثير من الكتب العسكرية العربية والأجنبية التي ترجم عدداً منها، ليبرز للعالم العربي والجيل الحالي -بكلِّ وضوح- الدور الحقيقي للجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948 التي سمِّيت (يوم النكبة) أو (عام النكبة) بينما أَسماها العدو (حرب الاستقلال). وإن كان كتابه قبل الأخير الصادر عام 2021 تحت عنوان (دور العراق في حرب عام 1967 … تاريخ وذكريات) لا يقل أهميةً عنه.
وتزامن صدور الكتاب ونحن على أعتاب الذكرى السادسة والسبعين لتلك النكبة المشؤومة وما زال الشعب الفلسطيني المرزوء يمرُّ بظروف قاسية وحزينة، حيث أوجاع الحياة تُثقِل عليه بكل مآسيها في قِطاع غزَّة وبقية الأراضي المحتلة في زمن بات الجيش العراقي -للأسف- بعيداً عن دوره الحقيقي في مجابهة الكيان الصهيوني الغاصب متخلِّياً (مؤقَّتاً) عن قضيته الأساسية وهدفه الأسمى في تحرير كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر، وهو المعوَّل عليه بين الجيوش العربيبة وأهلٌ لها باقتدار…
جيشُ العراق ولم أزل بك مؤمناً
وبأنَّك الأمل المرجَّى والمنـى الكتاب يقع في 684 صفحة من القطع الكبير وبأحرف متوسطة، وأول ما يَلفت نظر القارئ تصميمُ غلافه الذي وضِعتْ عليه خريطة صمَّاء للعراق وبلاد الشام بخلفية خضراء ليخرج من بغداد العروبة سهمٌ ذهبي باتجاه فلسطين الحبيبة وتحديداً القدس فأعطى للكتاب معنىً لامعاً آخر مكمِّلاً لعنوانه الفخم والواضح.
اللواء علاء الدين حسين مكّي خمَّاس أهدى مؤلَّفه وجُهده إلى كل من ناضل ودافع وقاتل واستشهد من أجل الحفاظ على عروبة فلسطين وكذلك إلى الشباب الناهض وإلى الجيش العراقي. ونظراً لكثرة وقائع تلك الحرب وما قبلها ومشاركة جيوش عربية عدَّة فيه فقد ارتأى تبويب الكتاب وتقسيمه إلى 26 فصلاً، بدأها بقرار تقسيم فلسطين عام 1947 والأسباب المؤدِّية له ومشروع التقسيم والكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا مع حيثيات القرار وتداعياته العربية مروراً بمعارك الجيش العراقي الذي كان في حينها من أكبر الجيوش العربية المشاركة عدداً، لتنتهي الحرب باتفاقية هدنة وُقِّعت بين (إسرائيل) ودول المواجهة العربية ولم يوقِّعها العراق، إلى نهاية فصول الكتاب بانتهاء الحرب وتسليم الجيش العراقي مواقعه وعودته تباعاً إلى ثكناته في العراق واستقبالهِ عند مدخل مدينة بغداد، وكان على رأس مستقبليه في حينها والدہ أمير اللواء حسين مكّي خمَّاس -رحمه الله- مدير الحركات العسكرية.
في بداية الكتاب تطرَّق الكاتب إلى قوات الجيش الإسرائيلي وأسماء التنظيمات المسلَّحة التي فاجأت العرب إذ كانت تربو على ستين ألف محارب من ذوي خبرات قتالية عالية، لا كما اعتقدوا أنَّها مجرد عصابات مسلّحة، لتتحوّل بين ليلة وضحاها إلى ما بات يعرف بـ (جيش الدفاع الإسرائيلي) تحديداً يوم 15 مايس 1948، يوم انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان قيام (دولة إسرائيل) وما تلاہ من تمدّد هذا الكيان تدريجياً واجتياحه مدناً وقرى فلسطينية أخرى، علماً أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يملك أي قوة جوية أو طائرات حربية مقاتلة لحظة بدء الحرب.
كان العدو قد بدأ تطبيق خططته المبيَّتة سلفاً للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي تؤمِّن دولته المزعومة قبل تاريخ انتهاء الانتداب البريطاني وتسارعت وتيرة الأحداث والاستعدادات فبدأت باغتيال القائد الفلسطيني حسن سلامة ورفاقه ثمَّ الاستيلاء على قرية القسطل واحتلالها وفيها استشهد القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني وتوالى بعدها احتلاله مدن وبلدات دير ياسين وطبرية وحيفا وصفد ويافا وبيسان على التوالي. وفي الساعة الواحدة من صباح يوم 15 مايس 1948، اجتازت الجيوش العربية النظامية الحدود الدولية لفلسطين تنفيذاً لقرار الجامعة العربية وكان في مقدمتها الجيش العراقي الذي كان قد تحشَّد على الضفة الشرقية لنهر الأردن.
أما أهم المعارك التي اشتبك فيها الجيش العراقي مع العدو خلال فترة الحرب وذكر المؤلف مُجرياتها في صفحات الكتاب فهي على التوالي: معركة كيشر، ومعركة جنين الأولى والثانية، ومعارك جبهة كفر قاسم، ومعارك النقب الأولى، ومعارك تل حنيفش وبورين طول كرم، وكان آخرها معركة رامات هاكوفتش، حيث أُعلن بعدها وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من حداثة تشكيل الجيش العراقي وخبرته المتواضعة في القتال آنذاك، إذ كان قد مرَّ على تأسيسه سبعة وعشرون عاماً فقط، زجَّ العراق في هذه الحرب ثلثي جيشه ممَّا يدلُّ على جدِّيته في الالتزام بواجبه القومي تجاه فلسطين، فشارك بقوة آلية وجحفل لواء مشاة وسرب طائرات، وتجمَّعت هذه القوات في مدينة المفَرق الأردنية ومطارها، ثمَّ أُرسلت قوات أخرى لتعزيز الموقف مؤلَّفة من أربعة جحافل ألوية مشاة وفوج آخر وفوجين من قوات الشرطة السيارة. وقد أبرز المؤلَّف تشكيلات هذه القوات والقوات المتجحفلة معها بشكل مفصَّل وكذلك باقي قطعات الجيوش المشاركة الأردنية والسورية واللبنانية والسعودية.
وإذا كان اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس قد استذكر بشكل مُسهب دور الجيش العراقي في هذه الحرب، وهو الإنجاز التاريخي الذي يتشرّف أبناؤه به إلى اليوم ويشار له بالبَنان عراقياً وعربياً، فإنَّه افرد صفحات كثيرة عن دور القائد الميداني المقدَّم عمر علي بطل معركة جَنين في هذه الحرب الذي ما زال اسمه محطَّ فخر واعتزاز لكل فلسطيني بينما يتوجَّس منه الصهاينة، مستعيناً بمعلومات تاريخه قيّمة ومهمّة من مصدر حي وقريب، من ابنه المقدَّم الطيار بارز عمر علي، ليعزَّز من عديد مصادر كتابه الثريّة ويُتحفه بمعلومات غير مطروقة سابقاً فضلاً عن مصادر إسرائيلية كَتبتْ عنه ومذكِّرات قادة ضبَّاط شاركوا فعلياً في هذه الحرب.
لقد أمست معركة جَنين الأولى والثانية صفحة فخر واعتزاز وملحمة خالدة سطَّرها الجيش العراقي وعلامة بارزة في سفر تاريخه، دون الانتقاص من المعارك الأخرى، وما المقابر الثلاث الماثلة للعيان إلى اليوم والتي تضمُّ تحت ثراها رفات شهداء الجيش العراقي في مدن جَنين ونابلس الفلسطينيتين والمفرق الأردنية إلَّا شواهد حيَّة على تضحيات أبنائه، وهو الجيش العربي الوحيد الذي يملك مقابر لشهدائه خارج أرضه كانت دماء أجسادهم الطاهرة قد روت أرض فلسطين.
عزَّز المؤلِّف كتابه بكثير من الصور الجوية والخرائط العسكرية التي استعان بها لإيضاح الأماكن والمواقع والنقاط وسير المعارك للقارئ وخرائط أخرى خطَّطها بنفسه وأشَّرَ عليه بيدہ نتيجة خبرته الطويلة التي اكتسبها من اشتراكه في معارك الجيش العراقي واقتدارہ كمدرِّس في الكلية العسكرية وكلية الأركان ومن ثمَّ رئاسته جامعةَ البكر للدراسات العسكرية العليا، وطرَّز صفحات الكتاب أيضاً بصور تاريخية لرجال كانت لهم أدوار بطولية في الحرب وصور أخرى لمواقع وثكنات عسكرية مع أسمائها وتفاصيلها وأسلحة وطائرات ومعدَّات استخدمت في الحرب، وبعض هذه الصور تنشر لأول مرة ممَّا زاد من جمال الكتاب ومن قيمته التوثيقية والتاريخية.
أما أبرز القادة الميدانيين وآمري الألوية الذين شاركوا بشكل مباشر في هذه الحرب هم: اللواء الركن إسماعيل صفوت، أمير اللواء الركن نور الدين محمود، والزعيم طاهر الزبيدي، والعقيد الركن نجيب الربيعي والعقيد الركن صالح زكي توفيق، والعقيد الركن مزهر الشاوي، والزعيم ياسين حسن، والعقيد الركن محمد رفيق عارف، وعشرات الضباط وبضعة آلاف من الجنود الأشاوس ممن كانوا تحت إمرتهم -رحمهم الله جميعاً.
أنهى الكاتب صفحات كتابه بخاتمة طويلة عبَّر فيها عن رؤيته لتلك الحرب بعد خمس وسبعين سنة على انتهائها وعن أسباب فشلها، بدءاً من بداية الحركة الصهيونية والموقف العربي وأدائه السياسي والاستراتيجي والأداء العسكري لكل من القوات العربية والصهيونية علاوة على أهم الدروس البليغة المستنبطة من هذه الحرب. ودوَّن في السطور الأخيرة من هذه الخاتمة آخر رسالة تسلَّمها من زميله وصديقه الفريق الركن محمد عبد القادر الداغستاني -رحمه الله- قبل وفاته بيوم واحد، بيَّنَ فيها رأيه في الكتاب ووجهة نظره في الوضع العربي وفي (إسرائيل).
وبعد أن تنوَّرنا بصفحات هذا الكتاب التاريخي المهم وخرجنا بهذه السطور المتواضعة وقدَّمناها للقارئ الكريم، التمس منه قراءة صفحات الكتاب كاملةً للاطلاع على تفاصيل صفحات الحرب في ساحة العمليات ودقائقها الشائكة وخباياها الصعبة، كي يكون أكثر تعمّقاً في استيعاب الأحداث التي رافقت الحرب، بخاصة العسكريون المتقاعدون من الجيل السابق وضباط الجيش الحالي وعُشّاق التاريخ. وأجد من الضروري جداً أن يوضع هذا الكتاب على رفوف مكتبات مؤسساتنا وأكاديمياتنا العسكرية والمدنية والمكتبات العامة ليكون مصدراً جديداً للباحثين والمؤرخين ونبراساً للأجيال القادمة.
دعاؤنا إلى الباري عزَّ وجل أن يحفظ اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس (أبا حسين) وعائلته الكريمة وأن يمدَّ في صحتهِ وعمرہِ ويستمر بإتحافنا بالمزيد من المؤلفات التاريخية المتميّزة التي يتشوَّق القارئ لقراءتها والاستمتاع بمعلوماتها.
ونختم هذه السطور بأبيات من قصيدة عصماء كتبها أحد الضباط الذين اشتركوا في معركة جَنين وهو اللواء الركن محمود شيت خطاب الموصلي -رحمه الله- بتاريخ 26/4/1949، وألقاها بعد مراسم دفن شهداء الجيش العراقي وصدور أوامر بالانسحاب، حينما ألقى نظرة الوداع الأخيرة وبكى… فقال مخاطبًا الجماهير الفلسطينية المحتشدة لوداعهم:
هـذي قبـور الخـالـديـن فقد قَضَوا
شُهداءَ حتـى أنقذوا الأوطانا قـد جـالـدوا الأعداءَ حتـى استُشهدوا
ماتـوا بساحـاتِ الوغى شُجعانـا مـاتـوا دفـاعًا عـن حياضٍ دُنِّسَتْ
بأحطِّ خلقِ الله فـي دنيانا أجنـيـنُ إنَّكِ قـد شهدتِ جهادنا
وعـلـمتِ كـيف تسـاقطتْ قتلانا إنَّ الخلـودَ لـمـن يـمـوت مجاهدًا
لـيس الخلـود لمن يعيش جبانا
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: الجیش العراقی فی فی هذه الحرب فلسطین عام معرکة ج فی حرب
إقرأ أيضاً:
سلطة الهامش في كتاب «الوحشيات» لأبي تمّام
إنّ المُطّلع على كتاب الوحشيات، وهو كتابٌ اختار أشعاره الشاعر العباسي أبو تمّام وعُرِفَ بالحماسة الصغرى، يجد أنه كتاب أدبي ضمَّ أشعارًا انتقاها أبو تمّام فـي الحماسة والمراثي والأدب والنسيب والهجاء والسماحة والأضياف والصفات والمشيب والمُلَح ومذمة النساء، ولقد سمّاه أبو تمّام بالوحشيات كما أشار المحقق لأنّ المختارات الواردة فـي الكتاب هي «أوابد وشوارد لا تُعرف عامة وأغلبها للمُقلّين من الشعراء أو المغمورين منهم». (ص٦)
ومع ذلك فهذا الكتاب لم يحظَ بشهرةِ ديوان الحماسة لأبي تمّام، وإنّ القارئ يُدركُ حقًا أنّ المختارات لم تَشِعْ كثيرًا فـي الأدب القديم، وقد وجد محققو الكتاب جهدًا ليس يسيرًا فـي تخريج الأشعار ونسبتها إلى أصحابها، أو فـي تداخل الأبيات الشعرية من شاعر إلى آخر، أو تصحيف فـي اسم شاعر أو فـي بيت شعري.
وما دام الحديث عن محققي الكتاب فإن الناظر فـي الكتاب فـي طبعته الرابعة الصادرة عن دار المعارف بالقاهرة عام ٢٠٢١م، بتعليق وتحقيق عبدالعزيز الميمني الراجكوتي يجد أن فـي هوامش الكتاب وتعليقاته سلطة تضاهي سلطة المتن أو تقاربه، ولا يمكن لقارئ الكتاب وهو يقرأ كل مقطوعة شعرية إلا ويُتبعها بقراءة الهامش لما يجد فـي نفسه أي معلومة تربط الاثنين معًا.
لقد قام الكتاب فـي أساسه على تعليق وتخريج عبدالعزيز الميمني لكن الأستاذ محمود شاكر كان قد اشتغل قبل ذلك على الكتاب، وبعد علمه باشتغال الميمني عليه ترك الكتاب له، وبعد مدة التقى الاثنان وتحدثا عن الكتاب فكان أن اقترح الميمني على شاكر إضافة تعليقاته فـي الهامش، فصار الهامش يضجُّ بتعليقات الاثنين، وهي تعليقات قيّمة لا شك وتخريجات أفادت القارئ كثيرًا وصوّبت على المتن أيضا.
ثم كان أن شارك الاثنان فـي التعليقات كلٌّ من السيد محمد يوسف وأحمد الراتب النفاخ، وراجع كل ذلك الدكتور ناصر الدين الأسد، وعليه فإنك تجد إشارات وتعليقات فـي الهوامش تحمل اسم كل واحد من المحققين؛ لذا أخذ الهامش أهمية عالية فـي سياق التخريج ولعل ذلك يحيلنا إلى عبارة للكاتب عبدالسلام بنعبد العالي حين يقول فـي مقالة بعنوان (الهامش والمركز): «بين الهامش والمركز ليست هناك علاقات مكانية، ولا حتى منطقية، فالهامش لا يقابل المركز، وإنّما يخترقه. نحن أمام علاقات قوة وتسلط، وليس أمام علاقة هدنة وسلم. وحتى فـي ما يتعلق بالمكتوب وما يحيط به من حواش، فإن الهوامش غالبا ما تتدخل فـي المتن، لتحدّ من إطلاقيته، وتُنَسّب معانيه، وتُوقف عموميتها. فالهامش فـي آخر صفحة الكتاب هو فـي الغالب، حدّ من تدفق معنى النصّ، وربط بظروفه وملابساته، وإفصاح عن نوايا الكاتب ومراميه. وبذلك، فهو يتدخل فـي تحديد معاني المتن، ويعيّن حدودها». (المجلة 22 يناير 2024)
إن فـي تعاقب أقوال المحققين تصحيحًا لما جاء فـي المتن، وتعليقًا وتوضيحًا وزيادة يلحظها القارئ، عدا أن المحققين كانوا يضعون تعليقاتهم على بعضهم، نجد الميمني مثلًا فـي المقدمة (ص6) يقول عن كتاب الوحشيات: «ولا أرى أحدًا يكون تنبه له غير المأسوف عليه الأستاذ أحمد بن الأمين الشنقيطي قبل اليوم بـ٣٤ عامًا...». فـيرد عليه محمود شاكر معلقًا فـي الهامش: «لم يقف عليه الشنقيطي بلا ريب، وحاشيته على الأمالي منقولة بنصها من كلام فـي شرح شواهد الألفـية بهامش الخزانة...».
نجد مثل ذلك فـي غير موضع، نجد مثلًا فـي المقدمتين اللتين تصدرتا الكتاب، إذ يقول الميمني: «وأما الوحشيات هذا، فإني لا أعرف أحدًا يكون عرفه غير التبريزي فـي مقدمة شرح الحماسة ولعله لم يقف عليه لترجمته له بقوله: (وهي قصائد طوال)، وإنما هو ديوان مقاطيع كما ترى». (ص5) فـيعلق محمود شاكر: «أما كتاب الوحشيات، فقد ذكر أستاذي الميمني فـي مقدمته أنه لا يعرف أحدًا يكون عرفه غير التبريزي فـي مقدمة شرح الحماسة، ولكني وجدت القاضي الباقلاني قد ذكره فـي كتابه: «إعجاز القرآن»... وذكره العيني فـي شرح شواهد الألفـية... وقد وقفت على ذكر الوحشيات فـي غير هذين الكتابين، ولكني فقدت الأوراق التي كنت علقت فـيها بعض حواشيّ الأخرى على الوحشيات فأرجو أن يستدركها من يقف عليها ...». (ص10)
يأخذ الهامش سلطة كبرى فـي الكتاب متمثلة فـي التصحيح والتعليق والتوضيح والاستدراك على ما فات المتن، وهو ما يقدّم للقارئ أن هناك إشكالية فـي المتن متمثلة فـي التوثيق والنسبة وهو ما دفع محمود شاكر إلى القول بأنّ أبا تمام كثير الخلط فـي الشعر فـي نسبته إلى الشعراء (ص237)، أو إشارته إلى أنّ أبا تمام جازف فـي إيراد مقطوعة أبي عداس النمري فـي المراثي (ص141). وقال الميمني فـي موضع آخر: «فقد خلط أبو تمام». (ص173) يظهر لنا تصحيح الهامش للمتن فـي مواضع عدة فـي الكتاب وهذا يحيلنا على أن أبا تمام جمع المقطوعات الشعرية التي تداولها الناس -مع الإشارة إلى أنها شوارد ولم تبلغ شهرة وهي إنما قالها المُقلون فـي الشعر- وقد أخطأ فـي نسبتها أو أنه نقلها عن آخرين نقلًا دون تثبت؛ لذا تظهر لنا مقطوعات تنسب إلى أكثر من شاعر، أو أنه نسبها لشاعر وهي لشاعر آخر؛ لذا أوضح الميمني فـي مقدمة الكتاب أنّ «كلمة (قال) على رؤوس المقاطيع، لا تدل على أنها للشاعر المذكور، على ما هي العادة، بل على أنها لمجهول، بلى! تدلُّ على ذلك حينما يزيد عليها كلمة (أيضا)». (ص8) وهذا كثير قد وقع فـيه أبو تمام، ولعل إشارة الميمني فـي هامش الصفحة 33 تعقيبًا على قول أبي تمام فـي المقطوعة 43 «وقال أيضا» فكان تعليقه بـ: «لا معنى لقوله (أيضا) ههنا، والأبيات لسليمان بن عياش اللص فـي معجم البلدان».
لقد قدّم الهامش ثقافة معرفـية فـي جمع النصوص من مصادرها الأدبية، والتفريق بين أسماء الشعراء دون غيرهم، فضلًا عن تقديم رؤية نقدية للمحقق؛ إذ لا يقتصر دور الهامش على التخريج والنسبة والتصحيح، بل إننا نلمس دور الناقد الأديب، نقرأ تعليق محمود شاكر على المقطوعة رقم 38 المنسوبة لعُبيد بن أيوب قائلًا: «وهي من أجود الشعر وأرصنه». (ص30) كما نجد فـي الهامش تعليقات فـي التصويب للمحققين بعضهم البعض، يقول محمود شاكر عن بيت عبدالله بن جعدة:
وأشدَّ مِرَّته على الأعداءِ ذا شيَعٍ وحِدَّه
«هكذا فـي الأصل: «ذا شيع»، فأرجو أن يكون صوابها على هذا الرسم: «ذا سبع». و«السبع» الذعر... أو يكون صوابها على غير الرسم مصحّفًا (ذا شجع)...»، ثم يعقّب الميمني قائلًا: «ثم ادكرت بعد أمةٍ أنّ الصواب ولله الحمد «ذا شيعٍ وحِدّه» لا غير». (ص149)
إن اشتغال الهامش استدراكًا على المتن جعل له سلطة توثيقية ومعرفـية بالمقاطع وألفاظها، ولعلني هنا أشير إلى المقطع رقم 356 بالصفحة 216 الذي أظهر الهامش جرأة فـي رصد دلالات المقطع بخلاف ما واره المتن، لقد أخفى أبو تمام فـي المقطع بعض الكلمات النابية مشيرًا إليها بـ(...) لكن الهامش عمل على كتابتها فـي الهامش مقدمًا وضوحًا كبيرًا فـي نقل الأبيات كما هي.
لا يمكن لي وأنا أقرأ الكتاب إلا أن أقول: إن الهامش فـي حد ذاته -إضافة إلى أنه شكّل سلطة أدبية ولغوية- فإنه أيضا قدّم إشارات معرفـية مهمة عملت على إكمال المتن، ومساعدته فـي النهوض وتشكّله للقارئ فـي صورة صحيحة، هنا نجد تعاضد الهامش والمتن فـي إبراز الصورة الصحيحة التي كان ينشدها أبو تمام، ولعل ما فات أبو تمام استدركته هوامش المحققين بعد قرون طويلة من البحث والتنقيب فـي مصادر التراث العربي.