هكذا يولد الهلال .. وهكذا نراه!
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
يُعرف القمر بأنهُ جسـم كروي تابـع للأرض، يـدور في مـدار بيضاوي حولها، ويميـل مداره على محـور مدار الأرض بمقدار خمس درجات، ويكمل دورته الاقترانية كل شهر تقريبا. فعندمـا يكـون القمـر في نقطة المحـاق فإن جزأه المقابل للأرض يكون مظلما بشـكل تـام، ولكن ذلك لا يـدوم طويلا، لأن القمـر في حركـة دائمة في مداره بسرعة تساوي 3680 كم في الساعة، أي أنه يقطع كيلو مترا واحدا كل ثانية تقريبا، لذلك فعندما يتحرك القمر قليلا تختلف زاوية النـور الساقط عليه من الشمس فيطل القمر على هيئـة هـلال رفيع على أهل الأرض معلنا بدايـة الشـهر القمري الجديـد.
ثم لا يـلبث أن يـزداد أتسـاعا ونورانية، سـاعة بعـد سـاعة ويـوما بعـد يـوم، أي أن زاوية نور الشمس الساقطة على سطحه تزداد بمعدل 13.2 درجة يوميا، علما» بأن القمـر يتـأخر في موعـد شـروقه أو غروبه بمقـدار (52) دقيقة يوميـا.
قمرٌ واحد .. تواقيت متفاوتة
وفي الوقت الذي يستطيع فيه العلماء إنزال إنسان على سطح القمر أو إنزال مركبة فضائية على بعض كواكب المجموعة الشمسية، وحساب أوقات الخسوف والكسوف بدقة، وحساب أوقات المد والجزر التي تعتمد عليها الملاحة البحرية في العالم أجمع وبدقـة عالية جـدا، وحسـاب أوقات شروق وغروب الشمس والقمر، فأنهم يستطيعون وبلا أدنى شك حساب لحظة ولادة الهـلال وخروجه من نقطة الاقتران بين الأرض والشـمس بدقة عالية جدا أيضًا وبمقدار خطأ لا يتجاوز (1 /100000 ) جزء من الثانية.
ولادة الهلال هي حادثـة عالمية وليست محلية، كونه يولـد في اللحظة ذاتها على الأرض كلها، إلا أن توقيتات هـذه اللحظة تختلف من بلد إلى آخر حسب مواقع تلك البلدان على خطوط الطول والعرض الجغرافية، وتحسب هذه اللحظة من الناحيـة العلميـة الفلكية بدقـة بالاسـتعانة بالمعادلات الرياضية الفلكية ثم تحـول إلى توقيتـات الـدول المختـلفة المطلوبـة.
إن ظاهرة اختلاف المطالع هي أحد الأسباب التي قد تؤدي إلى اختلاف يوم الصيام أو الإفطار بين الدول الإسلامية أحيانًا، فتقوم بعض الدول بإتباع أخرى في الصيام أو الإفطار، بينما نجد بعض الدول الإسلامية الأخرى لا تأخذ بهذا المبدأ وتعتمد على رؤية الهلال في البلد نفسه.
وقد جرت العادة أن تشكل في الدول الإسلامية هيئات عليـا لإثبات رؤية الأهلة وفي هذه الهيئات يكون رجال الدين هم الغالبية فيها إضافة إلى وجـود فلكي واحـد أو أثنين في مثل هـذه الهيئات يستأنس بأفكارهم وحساباتهم الفلكية العلمية وآرائهم حول الهلال، إلا إن هذه الهيئات لا تأخـذ بهـذه الحسابات بصورة قطعيـة بل تستعين بها للتأكد من شهادات الشهود. ففي سلطنة عُمان تستأنس الجهات المختصة برؤية الأهلة بالحسابات الفلكية مع الاعتماد على لجان المراقبة والرؤية الشرعية بالعين المجردة المنتشرة بكل مناطق وولايات السلطنة وترد الشهادة في حالة كون علم الفلك يحدد استحالة رؤية الهلال (أي عندما يغرب الهلال قبل غروب الشمس أو مع غروب الشمس).
آليات الرصد الفلكية
ويعتمد التقويم الهجري على الشهر القمري الاقتراني، حيث قال الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، والشهر الاقتراني عادة يحـدد بالمدة الزمنية التي يسـتغرقها القمر في دورانه حول الأرض من محاق إلى محاق آخـر، ومن المعروف أن مـدة الشـهر القمـري الاقتراني يكون في أقصـاه (29 يوم و19 سـاعة) وفي أدنـاه (29 يوم و5 سـاعات) ويكون معدلـه
(29 يوم و12 سـاعة و44 دقيقة و2.9 ثانية ). وعادة ما تحدد بداية الشهر الاقتراني برؤية الهلال الرفيع بعد خروجه من طور المحاق في الجهة الغربية بعد غروب الشمس في يوم المراقبة.
هناك عدة عوامل تتدخل في عملية رصد الأهلة لإعلان بداية الشهور الهجرية، ومن أهمها، العوامل الجغرافية الثابتة التي تعتمد على اختلاف خطوط الطول والعرض الجغرافية من بلد لآخر ومدى تأثيرها على مواقيت غروب الشمس والقمر في المواقع المختلفة مما يؤدي ذلك إلى سهولة رؤية الهلال في بلد وصعوبة رؤيته أو استحالة رؤيته في بلد آخر.
وهناك العوامل المناخية المتغيرة، كوجود الغيوم في السماء أو مقدار درجة احمرار الأفق وضوئه المتأثر بالجزيئات الغبارية العالقة في الجو والتي قد تسبب الانعكاس الانتشاري للضوء أو استطارته، إضافة إلى الرطوبة ودرجات الحرارة المختلفة التي تؤثر جميعها على مدى إمكانية رؤية الهلال الوليد في يوم المراقبة، وذلك إضافة إلى العوامل الفلكية الثابتة الأخرى كعمر الهلال ومدة مكثه فوق الأفق بعد غروب الشمس ومقدار ارتفاعه الزاوي فوق الأفـق ومقـدار بعده الزاوي عن الشمس، وشدة استضاءة الجزء المرئي من القمر، إضافة إلى معلومات أخرى كثيرة مثل شكل قوس الهلال (اتجاه فتحة قوس الهلال) وعمر الهلال ساعة غروب الشمس ومنطقة وجود الهلال في السماء على يمين أو يسار موقع غروب الشمس، وغيرها من الأمور الأخـرى التي يمكن حسـابها بدقة من خلال اسـتخدام المعادلات الفلكية العلمية ذات الدقة العالية.
هذه المعلومات الفلكية عن الهلال في يوم مراقبته تكون مفيدة جدا، لمساعدة المراقبين والراصدين في البحث عن الهلال وتحري رؤيته، كما أنها مفيدة للجان المتخصصة بإعلان ثبوت الرؤية الشرعية من خلال التحقق من شهادات الشهود ومدى مطابقة رؤيتهم لمواصفات الهلال الفلكية الدقيقة التي يقدمها علماء الفلك. حيث يمكن على سبيل المثال رد شهادة الشهود إذا كانت الحسابات الفلكية تؤكد عدم ولادة الهلال أو أن الهلال يغيب قبل غروب الشمس في يوم المراقبة (حالة الاستحالة) حيث يمكن حساب لحظة الولادة بدقة لا يتسرب إليها الشك على الإطلاق كما يمكن حساب مواصفات الهلال في يوم المراقبة أو في أي يوم آخر مطلوب.
وقد مكننا التطور التقني في هذا القطاع من استخدام أجهزة الرصد الفلكية، والتلسكوبات البصرية (التلسكوب الكاسر والتلسكوب العاكس والمنظار (الدربيل)) لرؤية الهلال الوليد بسهولة ويسر وبوضوح كامل في حالة توفر شروط الرؤية التي سنذكرها لاحقًا، فإذا كانت السماء صافية أمكن توجيه التلسكوبات البصرية إلى المكان المتوقع وجود الهلال فيه للتحقق من رؤيته بسهولة، أما إذا كان الجو غائما و«مغبرا» وغير مناسب لرؤيته بالتلسكوب البصري يمكن استخدام التلسكوبات الفلكية الراديوية وتوجيهها نحو منطقة وجود الهلال للتحسس به ورؤيته.
إن أقل عمر للهلال (من لحظة الاقتران) تمت رؤيته بالعين المجردة هو (14 ساعة) وباستخدام الأجهزة كالمناظير والتلسكوبات كان (12 ساعة)، إلا أن عمر الهلال لوحده لا يمكن اعتماده كمعيار للرؤية لأن العوامل الأخرى مثل ارتفاع الهلال عن الأفق، وبعد الهلال الزاوي عن الشمس وغيرها، لها دور فاعل في إمكانية الرؤية أيضًا، علما بأن عمر الهلال هو المدة الزمنية بين حدوث الاقتران وغروب الشمس في يوم المراقبة.
د. صبيح الساعدي خبير فلكي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی یوم المراقبة رؤیة الهلال غروب الشمس الهلال فی إضافة إلى الشمس فی
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن أن يؤثر تغير المناخ على نسبة مادة الزرنيخ السامة في الأرز؟
يُعد الأرز غذاء أساسياً لأكثر من نصف سكان العالم، ويستهلكه يوميا عدد أكبر من الناس مقارنة بالقمح أو الذرة.
لذا، أعرب العلماء عن قلقهم بعد أن اكتشفوا حديثا أنه مع ارتفاع انبعاثات الكربون واستمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض، سترتفع مستويات مادة الزرنيخ في الأرز أيضاً.
ولطالما عُرف أن وجود مادة الزرنيخ في الأرز يمثل مشكلة، إذ تحتوي جميع أنواع الأرز تقريبا على مادة الزرنيخ. ويمكن أن تتراكم هذه المادة الكيميائية الضارة، الموجودة طبيعيا، في تربة حقول الأرز، وتتسرب إلى حبوب الأرز المزروعة هناك. لكن كميات مادة الزرنيخ الموجودة في حبوب الأرز يمكن أن تتفاوت بشكل كبير، من أقل بكثير من الحدود الموصى بها من قبل الهيئات الصحية والتنظيمية إلى أضعافها.
ومع ذلك، فإن استهلاك كميات قليلة من مادة الزرنيخ غير العضوي، حتى من خلال الطعام أو مياه الشرب، يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بالسرطان ومجموعة من المشاكل الصحية الأخرى، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري.
ويعمل الباحثون حول العالم على إيجاد طرق لخفض مستويات مادة الزرنيخ في الأرز، وفي الوقت نفسه، تُوجد طرق لطهي الأرز تُمكّن من استخلاص بعض من هذا العنصر الضار من حبيبات الأرز.
لكن دراسة جديدة حول تراكم عنصر الزرنيخ غير العضوي وجدت أنه قد يُصبح مشكلة أكبر بسبب تغير المناخ. إذ زرع الباحثون 28 سلالة مختلفة من الأرز غير المقشور في أربعة مواقع مختلفة بالصين في ظروف تجريبية على مدى عشر سنوات.
ووجدوا أن مستويات مادة الزرنيخ في الأرز تزداد مع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي وارتفاع درجات الحرارة. ثم وضع علماء الأوبئة نموذجا لكيفية تأثير مستويات الزرنيخ هذه، في ظل مستويات استهلاك الأرز الحالية، على صحة الناس. وقدّروا أن الزيادات المقابلة في مستويات مادة الزرنيخ في الأرز قد تُسهم في حوالي 19.3 مليون حالة إصابة بالسرطان إضافية في الصين وحدها.
يقول لويس زيسكا، الأستاذ المشارك في علوم الصحة البيئية بجامعة كولومبيا في نيويورك، والمشارك في تأليف الدراسة: “أثبتت دراسات كثيرة جدًا أن عنصر الزرنيخ غير العضوي مادة مسرطنة، وله آثار ضارة على صحة الرئة، وصحة القلب والأوعية الدموية وقائمة طويلة جدا من أعضاء جسم الإنسان”.
ويضيف: “هناك مقياسان لتغير المناخ – زيادة ثاني أكسيد الكربون وارتفاع درجات الحرارة – يُؤديان إلى ارتفاع كميات مادة الزرنيخ بشكل أكبر”.
وتفترض أسوأ التوقعات ارتفاع درجات الحرارة بمقدار درجتين مئويتين، وزيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 200 جزء إضافي في المليون بين عامي 2025 و2050. لكنها تُقدم لمحة عمّا قد يحدث لمحاصيل الأرز في المستقبل إذا لم تُخفَّض انبعاثات الكربون.
وعلى الرغم من تركيز،الباحثين على مواقع في الصين لإجراء تجاربهم، إلا أنهم قالوا إن هذه التأثيرات من المرجح أن تظهر في الأرز المزروع في مناطق تشمل أوروبا والولايات المتحدة أيضا، إذ أن وجود عنصر الزرنيخ غير العضوي شائع في الأرز المزروع حول العالم.
يقول زيسكا: “لسنا أول من درس تأثير ثاني أكسيد الكربون، ولسنا أول من درس درجة الحرارة – لكننا أول من جمعهما معا في الميدان. وهذا ما أذهلنا”.
بالطبع، للدراسة حدود، باستثناء المقاييس المختارة للسيناريو المتوقع عام ٢٠٥٠. أولا، افترضت الدراسة أن الناس سيستمرون في استهلاك نفس كمية الأرز للفرد في عام ٢٠٥٠ التي كانوا يتناولونها في عام ٢٠٢١، على الرغم من أن استهلاك الأرز يميل إلى الانخفاض مع ازدياد ثراء الدول. من ناحية أخرى، افترضت الدراسة أيضا أن الناس سيستمرون في تناول الأرز الأبيض أكثر بكثير من الأرز البني، كما يفعلون الآن. ونظرا لطريقة معالجته، يحتوي الأرز الأبيض على كمية أقل من الزرنيخ غير العضوي مقارنة بالأرز البني، لذا فإن أي تغيير في هذا الاتجاه قد يزيد من سوء الأرقام.
ومع ذلك، يقول أندرو ميهارج، الأستاذ في كلية العلوم البيولوجية بجامعة كوينز في مدينة بلفاست في أيرلندا الشمالية، والباحث المخضرم في الأرز وعنصر الزرنيخ، والذي لم يشارك في الدراسة: “هذه الدراسة من أكثر الدراسات شمولا التي أُجريت على الإطلاق حول هذا الموضوع. إنها أقوى من أي دراسة أجريت في أي وقت مضى”.
عرف البشر منذ مئات السنين أن عنصر الزرنيخ مادة سامة. ونتيجة لطبيعته عديمة اللون والطعم والرائحة، كان الزرنيخ وسيلة مفضلة للقضاء على الأعداء في بلاط روما القديمة وأوروبا في العصور الوسطى. لكن جرعاته المفردة بكميات ضئيلة لا تسبب التسمم.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، اكتشف العلماء أنه حتى الكميات الأقل من مادة الزرنيخ يمكن أن تسبب آثارا صحية عند استهلاكها بشكل مستمر على مدار العمر.
وينطبق هذا بشكل خاص على مادة الزرنيخ غير العضوي – وهو المصطلح المستخدم للزرنيخ الذي لا يحتوي على ذرات كربون – والذي يلتصق بسهولة أكبر بالجزيئات الحيوية في جسم الإنسان، مما قد يسبب أضرارا. وبينما يوجد الزرنيخ غير العضوي بشكل طبيعي في الصخور والتربة، إلا أنه قد يكون ناتجا ثانويا لأنشطة مثل التعدين وحرق الفحم وغيرها من العمليات الصناعية.
وهذا يعني أن عنصر الزرنيخ غير العضوي منتشر بشكل خاص في المياه الجوفية في عدد من المناطق، بما في ذلك أمريكا الجنوبية وأجزاء من جنوب ووسط آسيا. لكن الناس في أماكن أخرى معرضون للخطر أيضا، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يشرب أكثر من 7 في المئة من مالكي الآبار الخاصة، أي حوالي 2.1 مليون شخص، مستويات خطيرة من مادة الزرنيخ غير العضوي. وفي جميع أنحاء العالم، يشرب حوالي 140 مليون شخص مياها تحتوي على مستويات من الزرنيخ أعلى مما توصي بها منظمة الصحة العالمية.
إذا كنت ترغب في خفض مستوى الزرنيخ في الأرز، فهناك بعض الخطوات التي يمكنك اتخاذها.
أولا، تحتوي بعض أنواع الأرز على نسبة زرنيخ غير عضوي أعلى من غيرها. ويحتوي الأرز الأبيض على نسبة زرنيخ غير عضوي أقل من الأرز البني، ولكنه أقل قيمة غذائية. كما يحتوي الأرز البسمتي على نسبة زرنيخ غير عضوي أقل من الأنواع الأخرى. ويحتوي الأرز من مناطق معينة، بما في ذلك شرق أفريقيا، على نسبة زرنيخ أقل من الأرز من مناطق أخرى، بما في ذلك أجزاء من الولايات المتحدة وأوروبا وجنوب شرق آسيا.
واكتشف باحثون في جامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة مؤخرا طريقة لطهي الأرز يمكنها إزالة 50 في المئة من الزرنيخ في الأرز البني و74 في المئة منه من الأرز الأبيض. وينصح الباحثون بغلي الأرز أولا في ماء مغلي مسبقا لمدة خمس دقائق قبل تصفيته. ثم يُضاف الماء العذب ويُطهى على نار هادئة لامتصاص كل الماء.
وتوصي وكالة معايير الغذاء في المملكة المتحدة بشطف الأرز قبل الطهي ثم غليه في ستة أجزاء من الماء مقابل جزء واحد من الأرز قبل تصفيته وشطفه مرة أخرى.
وإلى جانب مياه الشرب، يُعد الأرز المصدر الرئيسي للتعرض الغذائي للزرنيخ في جميع أنحاء العالم. ففي المناطق التي تميل إلى وجود القليل من الزرنيخ في مياهها الجوفية، مثل أوروبا، يُعد الأرز المصدر الأكبر للتعرض الغذائي للزرنيخ غير العضوي.
وتكمن المشكلة في كيفية زراعة حوالي 75 في المئة من إمدادات الأرز العالمية، كما يقول زيسكا، في حقول الأرز المروية.
وبطبيعته يميل الأرز المزروع في التربة إلى الاختناق في وجود الأعشاب الضارة. لكن الأرز يمكن أن ينمو في الماء، بينما لا تستطيع الأعشاب الضارة ذلك. ويضيف زيسكا: “هذا يمنح الأرز ميزة كبيرة على الأعشاب الضارة، فلا داعي للرش، ولا للحرث”.
لكن هناك جانبا سلبيا، وهو أن التربة، بسبب غمرها بالمياه، لا تحتوي على أكسجين. وفي هذه الظروف، تلجأ البكتيريا اللاهوائية في التربة إلى الزرنيخ كبديل للأكسجين لاستقبال الإلكترونات أثناء تنفسها. وتُسهّل هذه البكتيريا التفاعلات مع المعادن الأخرى في التربة، وهو ما يجعل الزرنيخ أكثر المعادن المتوفرة حيويا ويسهل ذلك على نباتات الأرز امتصاصه عبر جذورها.
يقول زيسكا: “عندما تُغيّر التربة بجعلها أقل احتواء على الأكسجين، يُصبح عنصر الزرنيخ فعالا”. ويُغيّر هذا ميكروبيوم التربة بطريقة تجعل البكتيريا المُحبّة للزرنيخ أكثر تكاثرا.
وهذا ما يتوقعه هو وزملاؤه الباحثون. إذ يتوقعون أن الأمر سيزداد سوءا مع ارتفاع درجة الحرارة ومستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
يقول زيسكا: “هذه البكتيريا المتواجدة في التربة تحصل على المزيد من الكربون، وتزداد دفئا ونشاطا”. إنك تُحسّن من سعادة البكتيريا الصغيرة بدرجات حرارة دافئة، لكنك أيضا تُعطيها المزيد من الكربون، فتُصاب بالجنون.
ووجد زيسكا وفريقه أن هذا التأثير ظهر على حوالي 90 في المئة من أنواع الأرز الثمانية والعشرين المختلفة التي زرعوها خلال دراستهم التي استمرت عشر سنوات.
وما يُقلق خبراء الصحة العامة هو أنه كلما زادت الأبحاث المُجراة على عنصر الزرنيخ غير العضوي، كلما ازداد تأثيره على البشر. في يناير/كانون الثاني 2025، حدّثت إدارة حماية البيئة الأمريكية تقييمها لـ “العوامل المسببة للسرطان” في مادة الزرنيخ غير العضوي، مع مراعاة جميع الأبحاث الجديدة حول الزرنيخ والأمراض، وقد وجد تقييمهم الأخير أن “الزرنيخ مادة مسرطنة أقوى بكثير مما كنا نعتقد سابقا”، بحسب كيف ناخمان، أستاذ الصحة والهندسة البيئية في كلية جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة والمؤلف المشارك في دراسة الأرز والزرنيخ. وعلى وجه الخصوص، هناك الآن أدلة قوية على أن مادة الزرنيخ لا تزيد فقط من خطر الإصابة بسرطان الجلد، بل أيضا بسرطان الرئة والمثانة.
وإلى جانب السرطان، يزيد الزرنيخ غير العضوي من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري. وعند تناوله من قبل النساء الحوامل، يزيد أيضا من احتمالية وفيات الأجنة أو الرضع، كما يزيد من خطر ولادة الطفل بوزن منخفض – ما قد يكون له آثار صحية على مدى الحياة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية – أو آثار عصبية إدراكية على النمو.
وبالنسبة للأفراد، تكون المخاطر طفيفة. فعلى سبيل المثال، وجدت أحدث مراجعة لوكالة حماية البيئة أن استهلاك 0.13 ميكروغرام لكل كيلوغرام من وزن الجسم من مادة الزرنيخ غير العضوي يوميا – أو 7.8 ميكروغرام لشخص يزن 60 كيلوغراما – من شأنه أن يزيد من خطر الإصابة بسرطان المثانة بنسبة 3 في المئة ومرض السكري بنحو 1 في المئة.
لكن في مختلف المجتمعات، وخاصة تلك التي تستهلك كميات كبيرة من الأرز، يمكن أن تتراكم هذه المخاطر الصغيرة. وإذا صحّت تنبؤات زيسكا وزملائه، فقد يؤثر ذلك بشكل كبير على انتشار الأمراض في المجتمعات التي تعتمد على الأرز كمصدر أساسي للغذاء خلال العقود القادمة.
على سبيل المثال، إذا استهلك كل شخص 0.13 ميكروغرام لكل كيلوغرام من وزن الجسم من الزرنيخ غير العضوي يوميا، فإن وكالة حماية البيئة الأمريكية تحسب أنه – مقارنة بعدم استهلاك الزرنيخ غير العضوي – يُصاب ثمانية أشخاص إضافيين من كل 10,000 شخص بسرطان المثانة، و10 من كل 10,000 شخص بسرطان الرئة، و110 من كل 10,000 شخص بمرض الشريان التاجي للقلب، و129 من كل 10,000 شخص بمرض السكري.
وتتفاوت كمية الزرنيخ غير العضوي في الأرز تفاوتا كبيرا. لكن إحدى الدراسات وجدت أن متوسط الكمية العالمية هو 66 ميكروغرام لكل كيلوغرام من الأرز. وقد حدد الاتحاد الأوروبي حدا أقصى للزرنيخ غير العضوي في الأرز في عام 2023 عند 200 ميكروغرام لكل كيلوغرام من الأرز.
إذا، إلى جانب خفض الانبعاثات والحفاظ على أدنى مستوى ممكن لارتفاع درجات الحرارة، ما العمل؟
يقول ناخمان: “لا يمكننا القول بأنه يجب التخلي عن الأرز، فهذا غير ممكن. فإلى جانب كونه تقليدا غذائيا هاما، يُعد الأرز مهما للفقراء، إذ يحصل بعضهم على ما يصل إلى نصف سعراتهم الحرارية اليومية من الأرز وحده. لكننا بحاجة إلى تغيير النهج”.
ويُجري الباحثون أيضا تجارب لمعرفة ما إذا كانت عمليات إدارة المياه بشكل مختلف قادرة على خفض مستويات مادة الزرنيخ. إحدى هذه العمليات: غمر حقول الأرز جزئيا، ثم تجفيفها، ثم غمرها مرة أخرى بدلا من إغراق الحقل باستمرار بالمياه – ويبدو أنها تُقلل من كمية الزرنيخ غير العضوي. “لكن هذه الطريقة تزيد من كمية مادة الكادميوم فحسب”، كما يقول ميهارج . ويُنظر إلى الكادميوم على أنه تهديد أكبر. إذ يُمكن أن يُسبب الكادميوم سرطانات الثدي والرئة والبروستاتا والبنكرياس والكلى، بالإضافة إلى أمراض الكبد والكلى.
ويُوجد اهتمام أيضا بمحاولة استنباط أصناف من الأرز تمتص كميات أقل من الزرنيخ غير العضوي، لكن هذا لم يُحقق نجاحا يُذكر بعد، وفقا للباحثين.
ونظرا لأن بعض أنواع الأرز تُراكم كميات أقل من الزرنيخ غير العضوي، فهناك اهتمام باستكشاف زراعتها. وقد يكون هناك حل آخر وهو إضافة الكبريت، الذي يُمكنه امتصاص الإلكترونات مثل الزرنيخ، إلى الماء. ويُمكن أيضا تغيير ميكروبيوم الحقول بإضافة أنواع مُعينة من الأسمدة – وقد وُجد أن أحد التركيبات التي تُقلل من محتوى الزرنيخ هو مزيج من الزعتر الجبلي وروث الطيور. ولكن هناك حاجة إلى مزيد من البحث حول أيٍّ من هذه الأساليب أنجع.
وهناك حل يتمثل في استخدام نهج آخر في زراعة الأرز في ظروف تعتمد على مياه الأمطار، أو حيث تكون كلٌّ من التربة ومياه الري تحتوي على مستويات مُنخفضة من الزرنيخ. وقد وُجد أن الأرز المُنتَج في شرق أفريقيا، والذي يُغذّى عادةً بمياه الأمطار بدلا من الريّ، يحتوي على نسبة منخفضة جدا من الزرنيخ غير العضوي، كما هو الحال مع الأرز في إندونيسيا. كما وُجِد أن الأرز المُزروع في الولايات المتحدة، وأمريكا الوسطى والجنوبية، وجنوب شرق آسيا، وأوروبا، وأستراليا، يحتوي على كميات أعلى من الزرنيخ.
ويقول الباحثون إنه من الضروري أيضا تحسين رصد وتنظيم حالات التعرض للزرنيخ في الطعام. ويقول ميهارج “لقد تهاون واضعو السياسات في هذا الشأن لعقود”.
حاليا، لا تُنظّم إدارة الغذاء والدواء الأمريكية مستويات الزرنيخ في الأرز، لكنها وضعت حدا أقصى قدره 0.1 ملغم/كغم من الأرز المُخصّص لاستهلاك الأطفال. وفي عام 2023، وضع الاتحاد الأوروبي حدودا جديدة للزرنيخ غير العضوي في الأرز عند 0.2 ملغم/كغم من الأرز، بينما اقترحت الصين تطبيق حدود مماثلة. لكن هذه التوصيات لا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن بعض المجتمعات تستهلك الأرز أكثر بكثير من غيرها.
يقول زيسكا: “هناك طرق لتقليل كمية مادة الزرنيخ غير العضوي، لكن ذلك يتطلب تغييرا جذريا في إدارة زراعة الأرز حاليا. إنه أمرٌ يحتاج إلى اهتمام بالغ، لأنه يؤثر على عدد كبير من الأفراد حول العالم”.
أماندا روجيري – بي بي سي عربي
إنضم لقناة النيلين على واتساب