ماذا لو أصبح بإمكاننا العيش لـ 200 عام !
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
ترجمة أيمن بن مصبح العويسي -
دخل مجال علاج الشيخوخة في سباق التجارة العالمية؛ بدءًا من الكتب المعنية بالأنظمة الغذائية مثل: الصيام المتقطع إلى الكريمات التجميلية لعلاج التجاعيد، حتى وصلت هذه الأنشطة إلى بناء قطاع تبلغ قيمته مليارات الدولارات مستندًا على وعودٍ بعودة الشباب وإطالة العمر، بيدَ أنَّ هذه الوعود تدفعنا لنتساءل عن مدى قربنا من الوصول إلى مرحلةٍ نستطيع فيها إطالة أعمارنا وإضافة سنوات من الحياة الصحية إلى حياتنا.
يجيب على هذا التساؤل الحائز على جائزة نوبل عالم الأحياء الجزيئية والرئيس السابق للجمعية الملكية البريطانية فينكي راماكريشنان.
قضى فينكي راماكريشنان 25 عامًا من حياته في مختبر البيولوجيا الجزيئية التابع لمجلس البحوث الطبية في كامبريدج بالمملكة المتحدة لدراسة الريبوسوم، وهو المكان الذي تصنع فيه خلايانا البروتينات باستخدام المعلومات المشفرة في جيناتنا.
في كتابه الذي نشره مؤخرًا «لماذا نموت: علم الشيخوخة الجديد والسعي نحو الخلود» يأخذنا راماكريشنان في رحلة يُسلط فيها الضوء على أحدث ما توصل إليه علم الأحياء حول شيخوخة الإنسان، ويتساءل عما إذا كان من الممكن إطالة أعمارنا في المستقبل القريب.
تحدث راماكريشنان لمجلة نيوساينتست عن الإنجازات الأخيرة المتحققة لمعرفة أسباب الشيخوخة، ومدى قربنا من ابتكار العلاجات القادرة على مواجهتها، والنتائج المحتملة حال نجاحنا في إيجاد هذا العلاج.
جراهام لوتون: ما الذي دفعك للانتقال من البحث في مجال ناجح كمجال صنع البروتين في الخلايا إلى تأليف كتابٍ حول الشيخوخة؟
فينكي راماكريشنان: هناك دافعان؛ أولهما أن عملية ترجمة الشفرة الوراثية إلى بروتينات تؤثر على جميع العمليات البيولوجية في أجسادنا تقريبًا، وتبين لنا دورها الأساسي في العديد من الجوانب المرتبطة بالشيخوخة، أما السبب الآخر فيكمن في قلقنا من الشيخوخة والموت منذ نشأتنا الأولى؛ إذ لم يكن هناك الكثير مما يمكننا فعله حيال الشيخوخة، ولكن بسبب التقدم الهائل في علم الأحياء على مدى العقود القليلة المنصرمة، بات لدينا الآن الأدوات والمعرفة اللازمة للبحث في أسباب الشيخوخة، وما نستطيع فعله لتخفيف أعراضها أو تأخيرها، وصاحب هذه الجهود نوعٌ من التهويل بين الباحثين. لذا اعتقدت أني في وضع مثالي لإلقاء نظرة فاحصة على ما يحدث باعتباري عالمًا في الأحياء الجزيئية وبمعرفتي بمجال الشيخوخة دون أن أكون جزءًا منه، فضلًا عن عدم وجود أية مصالح خاصة لدي أو شركات أديرها في هذا المجال؛ لأطرح التساؤل التالي: ما الأشياء الحقيقية التي نعرفها عن الشيخوخة وما الآفاق المستقبلية؟
هل تعتقد أننا ندرك تمام الإدراك الأسباب الرئيسة للشيخوخة؟
لم نصل إلى هذا المستوى من الإدراك بعد، فالشيخوخة تحدث على كافة المستويات، من المستوى الجزيئي إلى الخلوي إلى الأعضاء والجسم بأكمله، ولها أسباب متعددة ومترابطة ترابطًا كبيرًا، فسببٌ في أيٍ من هذه المستويات يمكن أن يؤثر على سبب آخر في مستوى أقل والعكس صحيح. وإذا ما ظهرت جوانب جديدة تمامًا حول الشيخوخة فلا أعتقد أن الباحثين سيستمرون في جدالهم حول هذه المواضيع الصغيرة.
هل لدينا الفهم الكافي إذن للقيام بالتدخل المناسب؟
نعم، أعتقد أن هذا السؤال في محله؛ فالفكرة هي أن الخلية لا تريد هدر الكثير من الموارد لمنع الشيخوخة لأن ذلك يكلفها الكثير، ولا يستحق الأمر كل هذا العناء إذا كان مصير الإنسان الموت نتيجة الجوع أو أن يهلك بسبب حيوان مفترس. وبالنظر إلى متوسط العمر المتوقع فقد تضاعف على مدى السنوات الـ150 الماضية، وهذا يعني أن أجسادنا استطاعت مواجهة الأمراض المرتبطة بالشيخوخة التي لم يستطع سوى عدد قليل من البشر مواجهتها سابقًا، وحين نفهم الأساس البيولوجي لهذه العملية نستطيع بعدها القيام بالتدخل المناسب.
ما الآفاق الواعدة لمواجهة الشيخوخة من وجهة نظرك ؟
أصبح تجديد الخلايا الجذعية وإعادة برمجة الخلايا من المجالات المثيرة للاهتمام في وقتنا الراهن؛ إذ أصبحت الخلايا الجذعية والطب التجديدي من المجالات الواعدة، ويتجه بعض العلماء إلى البحث في سبل مواجهة الشيخوخة باستخدام الخلايا الجذعية والطب التجديدي، وتكمن فكرة هذه الأبحاث في إعادة برمجة الخلايا بحيث يمكنك عكسها وإعادتها إلى مرحلة مبكرة حتى تكون قادرة على التجدد؛ لكن هذه الجهود ما زالت في بداياتها الأولى.
أصاب البشر قلق الشيخوخة والموت منذ بداياتنا الأولى، فما هي الأساليب الأخرى التي يمكن اتباعها لمواجهة هذا القلق؟
هنالك إجماعٌ على أن تلف الحمض النووي سببٌ جوهري من أسباب الشيخوخة، ولكن الجهود تركزت حتى الآن على إصلاح الحمض النووي والعلاجات المرتبطة به والموجهة في الغالب لمعالجة السرطان، ولا تستهدف علاج الشيخوخة، بَيْدَ أنَّ هناك باحثين يعكفون على دراسة فقدان التيلوميرات وهي عبارة عن أطراف شرائط الحمض النووي في أجسادنا، فعندما تبدأ عملية تكرار الحمض النووي أثناء انقسام الخلايا تبدأ معها أجسادنا بفقدان أطراف شرائط الحمض النووي. وإذا استمرت عملية فقدان أطراف شرائط الحمض النووي فستصل إلى جزء الكروموسوم الذي يعمل على ترميز المعلومات المهمة، حيث يوجد إنزيم التيلوميراز الذي يضيف تسلسلات التيلومير أثناء عمليات التكرار، ولكننا وجدنا أن أنزيمات التيلوميراز تتوقف في معظم خلايانا، باستثناء بعض الخلايا التي تبقى لفترة طويلة جدًا مثل الخلايا الجذعية. لذا فإن العديد من خلايانا مثل خلايا الجلد وخلايا الشعر تفقد أنزيم التيلوميراز، وبالتالي فإن السؤال يتمثل في إمكانية إعادة تنشيط أنزيم التيلوميراز وتجديد هذه الأنسجة؛ الأمر الذي دفع بعض الباحثين لدراسة هذا الأمر وقد خرجوا بنتائج أولية واعدة، وما أود قوله أن إعادة تنشيط التيلوميراز قد يساعد على الأرجح في علاج الأمراض التي سببها فقدان التيلوميرات، وحينها يمكن أن نعرف تأثيرها على الشيخوخة.
هناك طريقة أخرى تتمثل في استخدام أدوية لمكافحة الشيخوخة تُسمى بـ«السينوليتيكس» مرتبطة بعملية تلف الحمض النووي، فماذا يمكن أن تخبرنا عن هذه الأدوية؟
حين يكون لديك تلف في الحمض النووي أو فقدان شديد للتيلوميرات تتجه خلايا أجسادنا إلى حلين لمواجهة هذا التلف أو الفقدان؛ أولهما يُعرف بالانتحار الخلوي وهي ظاهرة تسمى بموت الخلايا المبرمج. أما الحل الآخر هو دخول هذه الخلايا في حالة «الشيخوخة» بحيث تتوقف عن الانقسام ويقل نشاطها المعتاد، ولكن اتضح أن هذه الخلايا الهَرِمة لا تبقى هادئة في مكانها بل تفرز جزيئات التهابية، مما يحفز جهاز المناعة على مواجهة هذه الالتهابات، الأمر الذي يعني أنه كلما تراكمت الخلايا الهرمة، زادت معها الالتهابات في أجسادنا، لكن قتل هذه الخلايا الهرمة على وجه التحديد قد يؤدي إلى تخفيف العديد من أعراض الشيخوخة الناتجة عن الالتهاب، وتسمى هذه الأدوية بالسينوليتيكس، ويبدو أنها تشي بمستقبلٍ واعد.
كيف يرتبط مجال تخصصك في تخليق البروتين بالشيخوخة؟
عندما تصنع أجسادنا البروتينات، فإنها عادةً ما تنكمش لتصل إلى شكلها الطبيعي وتؤدي وظيفتها، ولكن مع تقدم الإنسان في العمر قد تتوسع هذه البروتينات؛ مما يؤدي إلى بروز الأحماض الأمينية الداخلية التي تكون لزجة نوعًا ما، ولذلك تميل هذه البروتينات إلى التجمع، مما قد يؤدي إلى الإضرار بالخلية، وحينها تحاول الخلية التعامل مع البروتينات المتوسعة، فتتجه إلى إيقاف عملية تخليق البروتين، فالأمر أشبه بوجود ازدحام مروري ولتحد من تفاقم الأمر تمنع المركبات الجديدة من الدخول، وهذا ما يفعله البروتين المسمى بالبروتين المستهدف بالراباميسين (TOR)، فعندما يكون هناك ضغط على الخلايا، يعمل البروتين المستهدف بالراباميسين على إيقاف تخليق البروتين، ويبدو أن هذا الأمر يؤثر على الشيخوخة لأنه يعمل أيضًا على تفعيل مسارات لتحلل البروتين وإعادة تدويره، وتعمل هذه المسارات الأيضية على إبطاء الشيخوخة بشكل غير مباشر، مما يقدم لنا تفسيرًا بيولوجيًا للتجربة العلمية مع الحيوانات، بحيث لو قللنا كمية السعرات الحرارية التي تأكلها هذه الحيوانات بالحد الذي ينجيها من الموت، فإنها ستعيش مدة أطول، لكننا في الوقت الراهن لا نميل إلى الحد من كمية السعرات الحرارية التي نتناولها، حتى الفئران لا تحب هذا التقييد، ففور رفع هذه القيود عنها ستشرع في التهام الطعام بشراهة، لذا نميل إلى تفضيل تناول حبة دواء بذات الفعالية عوضًا عن الدخول في حمية غذائية على أمل التملص من الحميات الغذائية القاسية واختيار الطريق الأسهل، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فما زال الوصول إليها بعيد المنال.
ذكرت في كذا موضعٍ من كتابك أنك تميل إلى الانتقال بالفكرة من مستواها النظري البحت إلى تطبيقها على الناس، هلّا وضحت هذا الأمر؟
قد يستغرق الانتقال من النتيجة المبدئية إلى تطبيقها على أرض الواقع حوالي 10 إلى 20 عامًا في المجالات الأخرى في أفضل الأحوال، لكن مشكلةً ذات أبعاد متعددة وغير محددة مثل الشيخوخة قد تحتاج إلى سنوات أطول؛ لذا سنبدو متفائلين إن قلنا أن حلها سيأتي غدًا. وقد رأينا أن مجال علاج الشيخوخة قد تعرض لتشويه كبير بسبب المبالغ الضخمة التي تصل إلى مليارات الدولارات من الأموال الخاصة التي تأتي في أغلبها من الأثرياء مالكي الشركات التقنية؛ فمعظمهم في منتصف العمر ولديهم أموالٌ يستطيعون بها شراء أي شيء على هذا الكوكب عدا إرجاع شبابهم.
إذا استطاع العلم الوصول إلى علاجٍ للشيخوخة، فهل ترى أن الناس سيقبلون عليه؟
لنتصور أن شخصًا يأتي إليك بحبة دواء ويقول لك أنها ستعزز من صحتك لعشر سنوات قادمة، فمن ذا الذي سيرفضها؟ أعتقد أنه يتعين علينا أن نستعد لمستقبلٍ كهذا، لكني أراه بعيد المنال حتى الآن، ومع هذا أجد نفسي متفائلًا بإنجازات قد تحدث وتساعدنا على تجاوز هذه العقبات، عندها يمكن أن نعيش جميعًا لمدة أطول قليلاً، لكني لا أعتقد أن هذا سيحدث في حياتي أو حتى في حياة شخصٍ وُلد يوم لقائنا هذا.
كيف سيكون الحال إذا استطعنا أن نعيش لسنين أطول؟
أرى أننا إذا استطعنا العيش لسنين أطول وتكاثرنا بنفس المعدل، فسيبدأ عدد السكان في الانفجار، وهذا سيؤدي بنا إلى أن نصبح مجتمعات راكدة، وقد يقول قائل: «بات لدي 200 عام أعيشها، وهذا يعني أني سأنتقل بين خمس وظائف مختلفة خلال هذه السنين». وما هذه إلى محض أمانٍ، لأن مرحلة الإبداع تبلغ أوجها في شبابنا، فالاكتشافات العلمية الكبرى، وحتى الأعمال الأدبية العظيمة تحدث في سنِّ الشباب.
لماذا ترى هذا الأمر؟
أعتقد أنه في شبابنا نرى الحياة بنظرةٍ منفتحة ونبدي استعدادًا لتبادل مختلف الأفكار والرؤى، وهذا يؤدي بنا إلى الإبداع الذي يذهب عنَّا كلما تقدمنا في العمر، لذا فالأمر لا يتعلق بصحتنا فقط، فأنا بصحة جيدة نوعًا ما، ولكن لا أعتقد أن لديَّ الإبداع ذاته حينما كنت في سنِّ الأربعين، وهذه مشكلة حقيقية، خاصة إذا نظرنا إلى الجوانب الاجتماعية مثل الحقوق المدنية أو حقوق المرأة أو غيرها من الحقوق، فغالبًا ما يقود الشباب التغييرات الاجتماعية، أما كبار السن فقد يقول قائلٍ أنهم ليسوا على نفس القدر من الذكاء ربما، لكنهم يتميزون بحكمتهم، لكني أشكُّ في صحة هذا الأمر، ففي كثير من الأحيان يميل كبار السن إلى اتخاذ قراراتهم بناءً على نزعة محافظة تميل إلى الماضي، وهذه النزعة ليست ضربًا من الحكمة دائمًا. فنحن نعيش اليوم سنين أطول مما كان عليه من سبقونا قبل 150 عامًا من الآن؛ فهل نحن اليوم أكثر إبداعًا أو إنتاجًا من موزارت أو بيتهوفن أو تشارلز داروين أو إسحاق نيوتن؟ لا أعتقد ذلك؛ لذا فهناك قضايا أهمَّ من إبطاء الشيخوخة ينبغي التركيز عليها.
ما القضايا التي يجب أن نركز عليها برأيك؟
كوني نشأت في الهند، أرى أن هذا الهوس بالعيش لسنين أطول مشكلة تناقشها دول العالم الأول، وأعتقد أن هناك الكثير من المشاكل الأهم، كالأمراض المعدية، والأمراض المزمنة، وسوء التغذية، والأمن الغذائي، وتغير المناخ، وهذه كلها مشاكل أكثر أهمية من أن نفكر بالعيش لـ20 عاما أخرى، وأرى أن علينا أن نفكر بالعيش بصحة جيدة لأطول فترة ممكنة بدل من التفكير في إطالة أعمارنا، وعلينا أن نتقبل فكرة الموت كونها جزء من نظام هذا الكون، إنه أمر صعب للغاية، وأعتقد أن أجسادنا تطورت لتجنب الموت، ومن الصعب قبول هذا الأمر بسهولة كون الموت يتعارض مع غريزتنا الطبيعية.
خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخلایا الجذعیة الحمض النووی هذا الأمر أعتقد أن لا أعتقد یمکن أن أن هذا
إقرأ أيضاً:
«عطر» ترامب وشرعية «الشرع»!
طوال 14 عامًا ظلت الأجواء السورية مرآة كثيفة للدخان.. اختلط رماد المدن برائحة البارود ودويّ مدافع التنظيمات الإرهابية، بتداعيات الغارات الجوية الإسرائيلية. أصبح للبلاد رائحة خاصة لا تُشترى ولا تُباع. تآمر، إرهاب، دماء، وخذلان. سنوات طويلة، تشبعت أنوف شعبها الشقيق وذاكرته برائحة حرب بدأت ناعمة، وانتهت غاشمة.
سنوات كئيبة، ظل العالم يرى في سوريا مشهدًا مأساويًا. يتابعها من نشرات الأخبار.. تغرقه ستوديوهات التحليل الموجّهة في مزاعم مصنوعة في دهاليز أجهزة استخبارات. عواصم دعم الإرهاب وجماعاته نجحت في فرض سطوتها على الرواية المعلنة. أصبح الجناة ينعمون بمعظم التغطية، ويعتّمون في المقابل على خطاب الضحية.
سوريا، تعصف بها تحديات تهدد تاريخها وهويتها الوطنية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تواصل التلاعب بشعارات العدالة، الأمن، والشرعية. من محافظة «درعا» جنوب غرب البلاد، بدأت عملية اختطاف الدولة. زعزعة الاستقرار كان تمويهًا على فتح الجبهة الشمالية. دخلت ميليشيات، أسلحة، ووسائل الدعم اللوجستية.
المشهد المأساوي كان مُجهّزًا بعناية. تنسيق على أعلى مستوى بين أعداء سوريا: إسرائيل، جماعة الإخوان، ودول عربية- إسلامية. استغلوا شرارة «درعا» في تكثيف الهجمات الغاشمة بطريقة همجية، حتى اقتلعوا البلاد عنوة من الجسد العربي. المخطط يعرف طريقه جيدًا. كان يحتاج فقط إلى شرارة تفجر الفوضى، وتزعزع الانتماءات الوطنية!
بعد 14 عامًا، لم تعد الكاميرات تصوّر الدخان والدمار وروائح الجثث. أصبحت تركز الآن على اللقطات الناعمة. مشهد لافت جدًا. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعطّر، أحمد الشرع.. نعم، من كانت تتهمه واشنطن بقيادة العمليات الإرهابية. يتبادلان الابتسامات أمام وسائل الإعلام. العطر الفاخر «Victory 45-47» ينهمر على كتف «الجولاني» ووزير خارجيته أسعد الشيباني، مصحوبًا بنظرة حانية!
«عطر» ترامب، رائحته للوهلة الأولى، تبدو ممزوجة بالهيل والفوجير. تعطي شعورًا بالانتعاش والحيوية.. محاولة لتوظيف السياسة في تلطيف صورة الحرب الصاخبة. رائحته الأساسية، زهرة إبرة الراعي، تضيف لمسة هادئة ورقيقة، تمثل القوة الناعمة التي تسعى واشنطن لتسويقها بعد سنوات العنف. أما أثره الطويل على الجلد، الأخشاب والعنبر الأثقل والأطول بقاءً، فتعزز الشعور بأن النفوذ الأمريكي حاضرًا في كل تفاصيل المشهد.حضور تختصره زجاجة عطر فاخر.
رسالة غير مباشرة تقول إن الرأسمالية بلغت حدها الأقصى عندما جعلت «النصر» رائحة تُباع بـ250 دولارًا، وأن السياسة الدولية باتت تميل إلى الاحتفاء بالعلامات التجارية أكثر من احتفائها بالتحالفات. ترامب، لم يقدّم عطرًا، بل قدّم درسًا جديدًا في مفهوم القوة، انتقال من دعم الحرية عبر إلقاء القنابل إلى إطلاق بخاخات «القوة الناعمة» الأمريكية.
«عطر» ترامب (Victory 45-47) يتمحور حول الفوز والقوة والنجاح. الرقمان 45 و47 يشيران إلى ولايتَي ترامب الأولى والثانية، ويحوّلان التاريخ السياسي إلى ماركة عطرية. الماضي السياسي يتحول إلى مادة للتسويق، والأحداث الجدية تتحول إلى رموز قابلة للاستهلاك. العطر أصبح إعلانًا إيديولوجيًا يختصر استراتيجيات السيطرة الأمريكية بمنطق بسيط وواضح.
تجسدت المفارقة الرمزية للعقد الماضي في مشهد الفيديو القصير. المقطع، أثقل من أي بيان سياسي أو تقرير استخباراتي. لقطة بصرية جمعت بين القوة الرمزية والسياسة الدعائية. الولايات المتحدة لا تكتفي بتغيير الأنظمة السياسية، بل تعدّل حتى رائحتها الرمزية. السياسة تتحول إلى منتج، على طريقة السلع الفاخرة.
لكن بين رماد الحرب ورائحة العطر فرق شاسع.. تحولات مثيرة للجدل. مشاهد لايزال يسقط في فخها من يراهنون على أن الذئاب تخلّت عن توحشها لحماية الأغنام. من يتماهون إيجابًا مع مشهد البيت الأبيض لا يضعون أي اعتبارات أخلاقية. يتجاهلون أن الحرب التي بدأت في سوريا لـ«مكافحة الإرهاب» انتهت بمشهد تسويقي يحاول دمغها بـ«الشرعية».
المشهد يجعل «العطر» استمرارًا طبيعيًا لـ«الدخان». ما كان مقصورًا على غرف العمليات الأمنية والعسكرية أصبح يُدار رسميًا في القاعات الرئيسية. ما كان يُبرَّر بالمصالح الاستراتيجية أصبح يُسوَّق بمنطق «النجاح والفوز». يغرق العطر أحمد الشرع. الرجل، لم يتغير كثيرًا بقدر ما تغيّر السياق من حوله. ميدان الحرب أصبح منصّة احتفاء، فصار حليف الحلفاء.
عام 2013، كان اسم «أبو محمد الجولاني» مدرجًا (مع غيره) على لوائح الإرهاب الأمريكية. اختلفت أساليب الترميز في زمن الحرب على الإرهاب. منذ أحداث سبتمبر 2001، أصبح الترويج دراميًا كالأجواء الدولية نفسها. واشنطن أرفقت الإعلان عن تعقّبه بمكافأة مالية سخية. 10 ملايين دولار ليست رقمًا هينًا في منطقة الثروة التي تعصف بها أزمات اقتصادية!
المكافآت الأمريكية للإرشاد عن المطلوبين تبدو كأنها طُعم. من يدلي بمعلومات تقود إليهم قد يدفع حياته ثمنًا لكشف أدواتهم أو حتى الاقتراب من نطاقها الجغرافي. ليست تشجيعًا صرفًا كما يعتقد البعض. من وجهة نظري، إعلان ضمني بأن النظام العالمي، كما صاغته واشنطن، قادر على تحويل الخطر إلى سلعة قابلة للتسويق، وأدوات تلتزم بدورها المرسوم في اللعبة.
مكافأة توحي بأن الجولاني «تهديد»، وليست أحد مبرّرات الحرب العالمية على الإرهاب في سوريا والعراق. اسم شهير يبرّر التدخلات العسكرية والعمليات السرية. تظهر مفارقة عجيبة عندما نقارن تلك المرحلة بصورته الحالية. لم يعد «الجولاني» أمير ميليشيا مطلوبًا دوليًا، أصبح «الشرع» في معادلة سياسية!
براعة الأمريكيين (وشركاؤهم الإقليميون) في إعادة التدوير لم تعد مشوّقة، ربما فقدوا الشغف بحكم تكرار السيناريو طوال الـ65 عامًا الماضية. التحوّل الحاصل في ملف «الجولاني» لا يقتصر على الاسم أو الصورة، بل حوّلوه، مؤقتًا، إلى رمز للاستقرار. خلخلة الشرعية الوطنية أصبحت لعبة مسلّية في الساحة الدولية.
تتكفّل الصور، والفيديوهات، واللقاءات الرسمية، والمناسبات الدبلوماسية بطباعة غلاف جديد لـ«القيم، والمفاهيم، والمفردات» في زمن الصراعات العابرة للحدود والولاءات. تكاد السخرية تستلقي أرضًا من الضحك الهستيري وهم يحوّلون «الأعداء» إلى «شركاء». قوائم الإرهاب تصبح «قوائم تعاقدات» جديدة، ولا عزاء للإرادة الشعبية.
المفارقة تتجاوز الإقليمية إلى العالمية. من يراقبون التحول، يجدون أنفسهم أمام لعبة بصرية ورواية معقدة تتجنب المباشرة وتجنح نحو الرمزية. المطارد السابق (بالأدلة الرسمية الأمريكية) يصبح جزءًا من «الواقع الجديد» بذات الأدوات الأمريكية الرسمية. عملية تشبه تحويل المواد الخام الخطرة إلى منتجات مصقولة يتم ترويجها وسط المستهلكين بدعم الميديا الغربية.
ليست سخرية سياسية، لكنها مثال صارخ على قدرة قوى المصالح الدولية على تحويل باطلهم إلى حق. الإرهاب لم يختفِ. فقط، تم تعقيمه وتسويقه. ما كان يومًا تهديدًا أمنيًا صار اليوم مشروعًا سياسيًا وعنوان كبير لما يوصف في روايتهم بـ«الشرعية». تآكل التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش». لم يعد من مفردات المرحلة التالية.
في عام 2014، تم الإعلان عن ولادة التحالف. وتحديدًا في 7 أغسطس من العام نفسه كانت البداية. حينها أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، شرارة الحرب ضد التنظيم عبر خطاب تلفزيوني. 40 دولة وميزانية غير محدودة شكّلت جسم التحالف. كان استعراضًا عسكريًا على المسرح الإقليمي.
الهدف المعلن كان تعزيز الأمن العالمي وإرساء الاستقرار في العراق وسورية، لكن ما إن بدأت العمليات حتى ظهرت المفارقة الأولى، أقرب إلى سخرية القدر منها إلى دروس الدبلوماسية. على الأرض، تسببت مهام التحالف في فوضى منظمة، حاولت كل دولة فرض سياستها الخاصة، وكل جنرال عسكري كان له تفسير مختلف لمفهوم «الاستقرار».
تنظيم «داعش»، الذي كان مصدر «رعب إعلامي»، أصبح مكونًا غير مباشر في ديمومة أنشطة التحالف. بدت الحرب تمهيدًا لإنتاج نسخة محسّنة من تنظيم «القاعدة». الآن، بعد 14 عامًا تكاد السخرية تتجسد.40 دولة تحارب الإرهاب، ودولة واحدة فقط (الولايات المتحدة) تعرف كيف تعيد تغليفه وتحويله إلى مادة سياسية قابلة للبيع الداخلي والخارجي.
المقارنة بين التحالف العسكري وعطر «Victory 45-47»، استعارة للواقع السياسي. التحالف استخدم القوة والقنابل والطائرات بدون طيار، بينما العطر في الإعلان «الرئاسي» اللاحق يوظف الرائحة والتصميم لتسويق الانتصار. كلاهما يحاول إقناع العالم بوجود نصر، لكن واحدة تدمر الأرض، والأخرى تُعيد تشكيل المشهد بالرائحة.
سياق، تصبح فيه الحرب عبئًا على الجغرافيا وأداة لتسويق التحولات السياسية. تتحول فيه المنتجات الرمزية إلى أداة للهيمنة الناعمة، كما يظهر في فيديو «ترامب- الشرع»، لكن السؤال الأهم: هل كانت الحرب فعلًا ضد «داعش»، أم كانت مرحلة تمهيدية لإقامة نظام بديل على جثة نظام قومي- عروبي؟
هل كانت كل العمليات العسكرية تجهيزًا لإعادة تدوير العناصر الميدانية السابقة وتحويلها إلى رموز سياسية؟.. التنظيم لم يُهزم بالمعنى التقليدي، لكن تمت إعادة هيكلة التنظيم ضمن استراتيجيات السياسة الغربية، حيث يُسوَّق الإرهاب بعد «تعقيمه» ليصبح مادة قابلة للاستهلاك السياسي والإعلامي.
التحالف الدولي ضد «داعش» كشف عن استراتيجية مثيرة. الحرب يمكن أن تكون عبثية حتى مع مشاركة كل هذه الدول، والنصر ليس دائمًا بما يتحقق على الأرض (من خسائر قد تكون كارثية على الشعوب، ويكفي أنها خلّفت في سوريا أكثر من مليون قتيل)، بل بما يمكن تسويقه فيما بعد، تتحول طلقات الرصاص والقنابل ودانات الصواريخ إلى حملات علاقات عامة (متطرف سابق يلتقط صورة مع فتاة بدون حجاب، يلعب كرة مع الأعداء، يرشّونه بالعطور مع ابتسامات مليئة بالسعادة والحبور).
تبدو اللعبة الحقيقية في كيفية تحويل الإرهاب إلى منتج ترويجي متعدد الأوجه، لا يستفيد منه سوى من صنعه ورمّزه إقليميًا ودوليًا. يحدث هذا منذ زمن ولادة ما يسمى بتنظيم «القاعدة» خلال الحرب الأمريكية «المقدسة» ضد «روسيا الشيوعية»، وحتى استقبال «الشرع» من الأبواب «الجانبية».
مع اقتراب نهاية عام 2024، وصل مسلسل إعادة التدوير السياسي إلى ذروته. اسم جديد «أحمد الشرع» يحاول محو الاسم الأشهر «أبو محمد الجولاني». كل عيب حاولوا تحسينه، وكل سمعة قاتمة شرعوا في تغليفها بصورة براقة. تحويل منتج خشن إلى ماركة فاخرة. عقد من الحروب والتدخلات الأجنبية في سوريا يُصوَّر نهايته كبداية عهد لـ«الاستقرار».
تصدر الأوامر لماكينات الكذب في الإقليم وخارجه: روجوا أنه الخيار الواقعي والشرعي لإدارة سوريا الجديدة. تحول درامي استخدموا فيه كل أدواتهم التسويقية سياسيًا، دبلوماسيًا، وإعلاميًا. كثيرًا ما تحدثت الأفلام الأمريكية عن صناعة النماذج البديلة. على الشاشات كان محورها روسيا، وفي الواقع أصبحت سوريا.
كتّاب السيناريو وظفوا فكرة إنتاج نموذج حكم بديل، يتقاطع معها صراع أجهزة استخبارات، تلاعب بالولاءات داخل النخب، وإمكانية نشوء قيادة مختلفة كليًا عن المسار التقليدي للدولة. في الأفلام استخدموا الأدوات في صناعة الفوضى، تصعيد قيادة جديدة تنهي الاتحاد السوفييتي، وتعلن نهاية الحرب الباردة.
تتنوع الأعمال السينمائية والواقعية في زمن «خصخصة الحروب» وصناعة الانشقاقات والاستفادة منها. شركات الإنتاج تميل إلى توظيف الصراعات في أعمال تجمع الأكشن والاستخبارات والسياسة، وتقديمها للناس كخيار طبيعي. حرب الـ14 عامًا أصبحت حاضنة لشرعية مفروضة، لم تعد هناك حاجة لتبرير الماضي بالمعنى الأمني، أصبح مادة خام لإعادة الإنتاج السياسي.
حتى الجدل المحلي والدولي حول «الشرعية» يبدو الآن جزءًا من المشهد التسويقي نفسه. دخلت اللعبة السياسية السورية- الأمريكية فصلًا جديدًا. ترامب قرر أن يحول ما حققته الولايات المتحدة من نجاحات خلال الـ14 عاما في سوريا إلى منتج تجاري ملموس. عطر يحمل اسم «Victory 45-47».
تصميم الزجاجة يعكس هذا الخطاب الرمزي بوضوح. تمثال صغير ذهبي يجسد الزعيم المنتصر يعلو الغطاء، وكأنه يؤكد أن عبادة الشخصية في الرأسمالية المعاصرة لم تتوقف عند السياسة، بل امتدت إلى كل منتج يمكن تسويقه. الزجاجة، إعلان رمزي للهيمنة الناعمة، تذكير أن القوة الأمريكية لا تقتصر على الجيوش والاقتصاد، بل تشمل السيطرة على الرغبات والثقافة والأسواق.
اقرأ أيضاً«ترامب» يعلن عن اتخاذ قرار حول فنزويلا بعد اجتماعاته مع المسؤولين العسكريين
بعد غد.. مجلس الأمن يُصوت على مشروع القرار الأمريكي حول «خطة ترامب» في غزة
قرار أمريكي بإنهاء الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخها.. أول تعليق لـ ترامب