هل نتجرع سم المصالحة، أم نفقد الوطن إلى الأبد؟
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
يمكن لقوانا السياسية والمدنية أن تتلاوم ولكنها جميعاً مسؤولة عن هذا المصير!
• محمد سليمان عبدالرحيم
بالأمس أكملت الحرب في بلادنا سنة كاملة، وهي الحرب التي أشاع مفجروها ومشعلوها ومؤججوها أنها انها لن تستمر لأكثر من ساعات أو أيام أو أسابيع. لقد تحولت بلادنا من أقصاها إلى أقصاها إ لى جحيم حقيقي حيث تلتهم الحرب يومياً العشرات والمئات من الأحباب من الأطفال والآباء والأمهات دون رحمة، وحيث يرزح مئات الألوف والملايين تحت وطأة اللجؤ والنزوح وفقدان المأوى، وحيث تنهار كل الخدمات الإنسانية وتنتشر المجاعات وحيث تشير كل التقارير والإحصاءات إلى واحدة من أفظع الكوار ث الإنسانية، بينما يظل هؤلاء الكذابون يكررون أكاذيبهم وينفخون في نار الحرب دونما مساءلة.
لقد كان واضحاً منذا بدايتها، وتأكد أثناء تطوراتها المختلفة، أن هذه الحرب لن تنتهي بانتصار طرف على الآخر، وإنما فقط بالتفاوض بينهما. ومع إدراك الطرفين لهذه الحقيقة إلا أنهما ظلا يخوضان في استهتار بالغ بحياة المواطنين وببنية البلاد قتالاً دنيئاً ينتهكان فيه يومياً جميع القوانين الإنسانية الدولية. هذه الحقيقة البسيطة والواضحة يتم تجاهلها تماماً من قبل الدعم السريع بالرغم من اتفاقه الموقع مع "تقدم"، وكذلك وبصورة خاصة من قبل الجيش، أو أطراف في قيادات الجيش، ومن قبل الحركة الإسلامية وبعض أطراف النظام السابق والتي فشلت حتى في إثبات وجودها العسكري، دع عنك إحراز أي انتصارات، ولذلك تلجأ إلى الأساليب الخبيثة لتوسيع الحرب بتجنيد المستنفرين وإعطاء الحرب صبغة عرقية عنصرية دون اعتبار للمآلات الخطيرة والماحقة لهذا التكتيك على بقاء ووجود الوطن.
من الجانب الآخر، فإن القوى السياسية والمدنية التي ترفع شعارات إيقاف الحرب لا تزال منغمسة حتى النخاع في معاركها الذاتية ومناوراتها قصيرة النظر، عاجزة عن توحيد صوتها وجهودها بما يؤهلها لفرض وجودها ورؤيتها كطرف أصيل وفعال في المعركة الحقيقية. كما أنه ، وبالرغم من التظاهر بالمبدئية والثورية العالية، إلا أن بعض هذه القوى التي ترفع رايات المحاسبة والعدالة والقصاص موجودة الآن في كتائب المستنفرين تحارب إلى جانب الحركة الإسلامية! وهكذا وتحت شعارات استعادة الثورة تعود سلطة الحركة الإسلامية من جديد على أيدي (الثوار) أنفسهم.
خلاصة هذا الوضع المأساوي هي أنه، وبعد مرور سنة كاملة على كارثة الحرب، فإن قوانا السياسية والمدنية والمجتمعية التي تزعم الرغبة في إيقاف الحرب واستعادة الثورة لم ولن تتوصل إلى الأولويات الصحيحة ولم ولن تقدم (التنازلات) الضرورية للخروج من هذه الحرب بما يحقق مطالب المحاسبة والعدالة وإعادة تأسيس الدولة على بنية عادلة، في الوقت الذي تعمل فيه أطراف من الحركة الإسلامية على إطالة أمد الحرب أملاً في حادث يغير الموازين العسكرية ويمنحهم أملاً في الوثوب على السلطة من جديد. سيستمر هذا الوضع بينما يموت طفل كل ساعتين ويفقد المئات حياتهم نتيجة انعدام الرعاية الصحية وتهدد المجاعة أكثر من ثلثي المواطنين. إن مسؤولية هذه الكارثة لا تقع على عاتق الجنرالين فقط وإنما هي مسؤولية جميع تلك القوى السياسية والمدنية والمجتمعية.
إن العودة لطاولة المفاوضات، كما تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية الآن، تعني المفاوضات العسكرية بين الجيش والدعم السريع، وهذه مفاوضات ستقتصر على الجوانب العسكرية من وقف لإطلاق النار وبعض قضايا الإغاثة إلخ، ولكنها لن تتطرق إلى القضايا السياسية. ذلك أمر مفهوم إذ لا أحد يرغب في أن يتداول العسكريون في الشؤون السياسية المتعلقة بمستقبل البلاد، ولكن من سيتفاوض حول الحلول السياسية ومستقبل البلاد إذن؟ لقد فشلت قوانا السياسية والمدنية والمجتمعية في توحيد نفسها بما يؤهلها لفرض شروطها، كما ذكرنا سبقاً، لذلك فإن عليها الآن أن ترضخ للأمر الواقع وأن تقبل، منقسمة ومجزئة وضعيفة، بمفاوضة الطرف السياسي الآخر وهو الحركة الإسلامية، ومفاوضات كهذه لن تفضي في أفضل الظروف إلا إلى مصالحة ما. بالطبع فإن تلك المصالحة لن تحقق ما نصبو إليه، ولكنها هي الحل المتاح وستحقق الحد الأدنى المتمثل في الحفاظ على الحياة لمئات الآلاف وعودة الناس إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم ومغادرة منافي اللجوء والعيش في ديارهم بمستوى معقول من الكرامة الإنسانية، ثم الالتفات إلى إصلاحات الخدمات والبنية التحتية ورتق النسيج الاجتماعي ولملمة أطراف الوطن. وربما تستطيع القوى السياسية والمدنية تحسين مردودها إذا ما أضافت لنفسها تمثيلاً سياسياً ومناطقياً أوسع ودعمت نفسها بفريق مؤهل فنياً ومهنياً للمفاوضات.
مرت علينا في بداية هذا الشهر الذكرى الثلاثين لمجزرة الإبادة الجماعية في رواندا والتي راح ضحيتها في خلال 100 يوم أكثر من 800,000 من قبيلة التوتسي على يد قبيلة الهوتو. رغم الاختلافات فإن في التجربة الراوندية الكثير مما يمكن أن يلهم السودانين لتدبر أمرهم الحالي. لقد انتصرت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي واستولت على السلطة في بلد حل به الدمار من كل جانب. لقد دمرت الحرب الأهلية والإبادة الجماعية النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي في رواندا، واندثرت الحكومة والمؤسسات الدينية والجيش والشرطة، إذ تورطت جميعها في الإبادة الجماعية، وخلفت دولة منهارة تماماً، وعندما استولت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي على السلطة، كانت البنية التحتية بأكملها، من المدارس والمستشفيات إلى المصانع والدوائر الحكومية قد تعرضت للدمار أو النهب وشلت مؤسسات فرض وإنفاذ القانون تشرد موظفو الدولة أو فروا إلى المنفى، وانهارت قدرة الحكومة الإدارية، وهو ما يماثل وضع بلادنا الآن. صحيح، أن الحرب الرواندية لم تنتهي بالتفاوض إنما بانتصار الجبهة الوطنية الرواندية واستيلائها على السلطة، ولكن الجبهة الوطنية الراوندية لم تتصرف كقوة منتصرة ولم تنشغل مباشرة بمطاردة الهوتو وتقديمهم للعدالة كأولوية، وإنما أنشأت حكومة الوحدة الوطنية وشرعت في برنامج لإعادة بناء البنية التحتية واقتصاد البلاد، وكذلك تعزيز المصالحة بين الهوتو والتوتسي، وتركت جلب مرتكبي الإبادة الجماعية إلى المحاكمة لإجراءات عدالة انتقالية قائمة على الممارسات المحلية التقليدية.
وفقاً لورقة للدكتور إزيكيل سينتاما وهو رواندي باحث في مجالات السلام والتنمية في العديد من بلدان وجامعات القارة الإفريقية، فإنه من العسير القول بأن رواندا قد بلغت مرحلة التعافي التام، ولكن من الضروري الإقرار بأنها قد وضعت أساساً متيناً بينما لا تزال تواجه عوائق ناجمة عن إيديولوجية الإبادة الجماعية والتنميط العرقي والجروح النفسية والجسدية التي لم تلتئم بعد والفقر وغياب سياسة التعويض. ما يجدر بنا التفكير فيه بعمق الآن كسودانيين يتوقون إلى إعادة بناء وطنهم، هو أن التجربة الراوندية قد ركزت أكثر على بناء المستقبل لا على معالجة الماضي. يذكر الدكتور سينتاما في ورقته أن الحلول الدائمة الراوندية شملت برنامجاً للوحدة والمصالحة برامج للتنمية الاجتماعية والاقتصادية السريعة، وشكل الحد من الفقر الأولوية الرئيسية الثانية لحكومة الجبهة الوطنية الرواندية بعد تعزيز المصالحة الوطنية، مع إدراك اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة أن المصالحة ليست ممكنة من دون التركيز على استراتيجيات الحد من الفقر، ولذلك فقد صممت مشاريع التنمية كفرص للجمع بين الروانديين وإعادة توحيدهم على المستوى المحلي. ربما كان ذلك هو الطريق لمعالجة جروح بلادنا العميقة.
abuhisham51@outlook.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السیاسیة والمدنیة الحرکة الإسلامیة الإبادة الجماعیة على السلطة
إقرأ أيضاً:
كيف تتحوَّل الانتقادات الداخلية إلى طلقات في ظهر الوطن؟
حين تصبح الكلمة سلاحاً في يد العدو
في خِضَمِّ العواصف التي تُحاك خيوطها حول اليمن، حيث تتساقط على رؤوس المدنيين والأبرياء صواريخ العدوان الأمريكي وتُزهق الأرواح تحت وطأة المؤامرات الخارجية، تخرج أصوات من الداخل.. تضخم الهفوات، وتسقط الأخطاء الروتينية من ميزان التاريخ، وكأنَّ الوطن لا يُحاصَر إلا بحدود أخطائه، لا بحدود أعدائه. هنا، حيث تتحوَّل الانتقادات إلى سكاكين تُجرح خاصرة الدفاع، وتُصبِح “الحرية الفكرية” للبعض ذريعةً لتمرير سموم التشتيت، تُطلُّ علينا إشكاليةٌ وجودية: كيف يتحوَّل المواطن والسياسي والصحفي والناشط الإعلامي إلى أدوات طيِّعة في يد العدو، دون أن يَشعروا بأنَّهم يُمسكون بيدٍ خفيَّة تُوجِّه سهامهم نحو قلب الوطن؟
ليست القضية في وجود أخطاء، فالأوطان كالبشر؛ تُخطئ وتتعثَّر، لكن الخطر كل الخطر أن تتحوَّل هذه الأخطاء إلى نفقٍ مظلم تُسرَق منه إنجازات الثورة والشعب، وتُهدر دماء شهدائه، وتُختزل تضحيات أبنائه وصمودهم في سرديةٍ سوداوية تخدم عدواً يتربَّص بالثغرات. فحين يُسقط الصحفي أو الإعلامي كل همومه في انتقاد دولة تُحارب على جبهاتٍ عدَّة، أو حين يُحوِّل قلمه – الذي يفترض أن يكون سلاحاً للوعي – إلى مِشرَطٍ يشقُّ جسد الوحدة الوطنية، فإنَّه بذلك يُقدِّم للعدو خدمةً مجانية: يُضعِف الجبهة الداخلية، ويُلهي الشعب عن عدوه الحقيقي، ويصنع من الهفوات العابرة سُلَّماً يصعد عليه الغزاة لاحتلال العقول قبل الأراضي.
أمَّا المثقف الذي يرفض كل شيء، وينتقد حتى الهواء الذي يتنفسه الوطن، فإنَّه – وإن ارتدى عباءة التنوير – يصير أشبه بمن يُنارِق في سفينةٍ تغرق؛ يصرخ منتقداً لون الأشرعة، بينما المياه تُغرق المقاعد تحت قدميه. إنَّ معارضة كل شيء في زمن الحرب ليست شجاعة، بل غباءٌ مركب. فالمعارضة البنَّاءة تُصلح، أمَّا “ثقافة الرفض” التي ترفض حتى إصلاح الذات، فإنَّها تفتح الباب واسعاً لعدوٍّ يترصَّد الفرص، ويَستخدم هذه “الانقسامات الفكرية” كفأسٍ لهدم أسوار المقاومة.
إنَّ الحرب ليست معركة صواريخ فحسب، بل هي معركة وعي. فالعدو لا يحتاج إلى اجتياح الحدود إذا استطاع اجتياح العقول. وهنا يكمُن الخطر الأكبر: حين تُحوِّل الانتقاداتُ الداخليةُ الوطنَ إلى مسرحٍ للهزائم النفسية، وتجعل من المواطن جندياً في جيش التشكيك، بدلاً من أن يكون حارساً للوعي الجمعي. فما قيمة أن تُقاتل الجبهة بالسلاح، إذا كانت الجبهة الداخلية تُقاتل بالكلمات ضد نفسها؟
ولكن.. ماذا لو حوَّلنا هذه الطاقة النقدية إلى طاقة بنَّاءة؟ ماذا لو اتَّفقنا على هدنةٍ وطنية؟ هدنةٍ نؤجِّل فيها الخلافات إلى ما بعد النصر، نُجمِّد فيها الصراعات الصغيرة، ونُفرِّغ كل طاقاتنا لمواجهة العدو الكبير. فالحرب تحتاج إلى قلوبٍ موحَّدة، لا إلى ألسنةٍ مشرعة. إنَّ النصر لا يُبنى على أنقاض الانتقادات، بل على أسس التضامن. فالشجرة التي تُقاتل العاصفة لا تنشغل بتقليم أوراقها، بل تُعمِّق جذورها في الأرض.
لذا، فإنَّ الدعوة هنا ليست إلى “تجميد الحقيقة” أو إسكات الأصوات، بل إلى “ترتيب الأولويات”. فالنقد – في زمن السلم – ضرورةٌ لصقل التجربة، لكنَّه – في زمن الحرب – قد يكون انتحاراً جماعياً. فلنُؤجِّل الحسابات، ولنترك المهاترات جانباً، ولنُجمِع على أنَّ العدوان الخارجي هو العدو الأول والأخير. فإذا انهزمنا أمامه لا سمح الله، فلن تُجدِيَ انتقاداتنا ولا معارضاتنا، لأنَّ الهزيمة ستجعل منا جميعاً – الموالين والمعارضين – أسرى تحت أقدام الغزاة.
الوطن اليوم أمام مفترق طرق: إمَّا أن نكون جبهةً واحدةً تُحارب العدو بقلوبٍ متحدة، أو نكون حطباً تُشعله النيران لتحرقنا جميعاً. فلتكن كلمتنا واحدة، ولتكن مصالحنا العليا فوق كل اعتبار. لأنَّ المعركة – إذا خُسرت – لن تسأل من كان مُنتقداً أو مُؤيداً، بل ستسحق الجميع تحت عجلاتها. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟