هل «العرب» جاهزون لمحاربة وباء جديد ؟
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
أتشرف بأني أحد أربعة أعضاء تمثل العالم العربي منذ 2020 في اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا- اليونسكو، باريس. وهي اللجنة الوحيدة التي تعمل في مجال أخلاقيات البيولوجيا على مستوى العالم. تتكون اللجنة من ستة وثلاثين عضوًا يمثلون العالم تمثيلاً جغرافياً ويتم تغييرهم كل أربع سنوات. «أخلاقيات البيولوجيا» بتعبير بسيط هو المبحث الذي يدرس التطورات الحادثة في علوم الحياة وما ينتج عنها من تقانات جديدة من أجل ضمان أن تظل علوم الحياة والتقانات الناتجة عنها قائمة على قيم وأسس أخلاقية.
تختار اللجنة كل عامين موضوعين ترى أهمية دراستهما وقت اختيارهما يتولى أعضاؤها دراستهما والخروج في النهاية بتوصيات يتم إرسالها إلى صناع القرار في الحكومات والمجتمع العلمي والمجتمع الدولي ورجال الصناعة والأفراد العاديين وكل من يمكن أن يتأثر بالتطورات الحادثة في علم البيولوجيا بشكل عام أو بنتائج تتعلق بهذين الموضوعين تنبيهاً وتحذيراً للغرض نفسه وهو أن تظل المبادئ الأخلاقية هي ما يقود ويوجه كل علم وتقاناته.
أحد الموضوعين اللذين انتهت اللجنة في سبتمبر الماضي من دراستهما يتعلق بالدروس المستفادة من وباء كورونا والإجراءات المقترح اتخاذها لمواجهة أي وباء مستقبلي -لا قدر الله-. إذ لا يجب أن نعتقد أنه آخر وباء سيصيب العالم. نتمنى ذلك بلا شك ولكن -علميًا- لما كان انتقال البشر والبضائع بين البلاد والقارات وبعضها البعض يحدث بشكل أكبر عما كان من قبل وبشكل يتزايد باستمرار، كان احتمال ظهور وباء وانتشاره احتمالاً أكبر. علينا أن نستعد لأي وباء مستقبلي بحيث نواجهه بشكل أفضل يقل معه عدد الوفيات والإصابات وتقل معه أيضًا الخسائر الاقتصادية.
ولما كان إيصال هذه التوصيات لأكبر عدد من الناس مسؤولية أخلاقية في ذاتها، وكان الكثير من أبناء مجتمعنا العربي لا يجيدون الإنجليزية -إذ أن التوصيات قد صدرت باللغة الإنجليزية- وكان من حقهم كغيرهم الاطلاع على هذه التوصيات، كان واجبًا أخلاقيًا أن نحاول ولو تلخيص التوصيات في هذا المقال.
التوصية الأولى التي جاءت في التقرير مفادها أنه على الحكومات المختلفة أن تستعد بقرارات وخطة للمواجهة دون انتظار حدوث الوباء- إذ الجاهزية أفضل من البدء في التحرك بعد الحدوث. ففي ظل الأوبئة يكون انتشار المرض سريعًا، وبالتالي يجب أن يكون التحرك سريعًا وهو ما يوفره الاستعداد.
توصية أخرى منطوقها أنه يجب أن تبني الحكومة الخطة على أسس علمية ودلائل وبيانات علمية سليمة. هذه التوصية في حاجة إلى شرح مستفيض، والمقصود أن الحكومة ستحتاج علماء البيولوجيا الذين يمكنهم بحكم التخصص شرح الفيروس المسبب للمرض. لماذا تحتاج الحكومة لتفاصيل كهذه؟ ذلك أن أي قرارات أو خطة للمواجهة تحتاج لفهم حدود المخاطر التي قد يسببها الوباء ثم تبنى على أساسه هذه القرارات. ألسنا عند ذهابنا للطبيب يطلب منا أحيانا فقط أخذ الدواء مع ممارسة الحياة بشكل عادي؟ ولكنه أحيانا في مناسبات أخرى يطلب منا ضرورة أخذ راحة منزلية محددة المدة، وأحيانا يأخذ قراره الطبي بأن المريض في حاجة للحجز في المستشفى. حجم المخاطر التي على أساسها أخذ الطبيب قراره هو فقط من يمكنه تحديدها وذلك بناء على الحالة المرضية. بالمثل، فحجم المخاطر التي على أساسها تحدد الحكومة حظر التجوال -أو حظر التجمعات إلى آخره- تحتاج لأساس علمي.
أثير تساؤل في بعض البلاد العربية أثناء وباء كورونا له وجاهته مفاده أنه إذا كان حظر التجول مرادا به حماية الناس من الإصابة التي قد تؤدي إلى الوفاة، فإن حظر التجول لبعض العاملين الذين يعتمد رزقهم على ضرورة ذهابهم للعمل سيؤدي بهم أيضا إلى الوفاة جوعا. فلما كانت هذه وفاة وتلك وفاة، فلماذا حظر التجول؟ من هنا كانت ضرورة أخذ رأي علماء الاقتصاد، فالاقتصاد أيضا علم وبناء القرارات على أسس علمية لا يقصد بها فقط علم البيولوجيا. هنا من الممكن لعلماء البيولوجيا والاقتصاد معا أن يصلا لحل توافقي للوصول إلى أفضل صيغة ممكنة يمكن بها تقليل الخسائر البشرية والاقتصادية إلى أقصى حد. هل نحتاج لتدخل علماء الدين أيضا؟ بالطبع، ففي مجتمعاتنا العربية يؤدي الدين دورا أساسيا من حيث إنه الموجه للسلوك. فإذا ما فهمت النصوص بشكل صحيح كان التوجه صحيحا وإذا ما فهمت بشكل خاطئ، انحرفت بالناس عن جادة الطريق. أثناء الوباء تحتاج الدولة لعلماء الدين لشرح معاني نصوص يستخدمها الناس للأسف خارج السياق. فإذا طلبت من البعض الابتعاد عن أماكن التجمعات خشية الإصابة بالعدوى -وهو ما عرف بالتباعد الاجتماعي- تجد أحدهم يقول لك: (سلمها لله)، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، (الله هو الشافي)، (لا ضار إلا الله). من الواضح أن هذه النصوص مقطوعة من سياقاتها وبالتالي فالمجتمعات العربية بشكل خاص تحتاج إلى علماء الدين لوضع هذه النصوص في سياقاتها الصحيحة وليفسروا للعامة أهمية وضرورة الاحتياطات.
أثناء الأزمات لا تنتهي الأزمات سوى بالتضامن والتعاون. فلنأخذ مثالا لذلك أثناء الحرائق. بعد أن يتصل الناس بهيئة الإطفاء، لا ينتظرون مجيئها، بل تجدهم يهرعون لمساعدة أهل المنزل المصاب فتجد من يقفز ليغلق مفاتيح الكهرباء ومن يحمل أطفالا إذا كانت بالداخل يحاول إخراجهم ومن يلقي خارج المنزل بقطعة الأثاث المحروق حتى لا يساعد على انتقال النار منه لغيره وهكذا إلى أن تأتي المطافئ وتنهي عملها، ولكن لولا المساعدة والتضامن والتكاتف ما انتهى الحريق بالسرعة المطلوبة. لنا في حرب 1973 بين العرب وإسرائيل مثال آخر: لولا مساعدة وتضامن الشعوب والحكومات العربية مع الدول التي تحارب على الجبهة لما تحقق الانتصار بالشكل الذي تحقق به. منعت حكومات الخليج البترول عن العالم وأرسلت بعض الدول كالجزائر جنودا وعتادا للمساعدة على خط الجبهة. وبالتالي لولا التضامن لما تحقق النصر.
على هذا النحو يمكننا أن نفهم معنى التوصية التي تنص على ضرورة إقامة حوار بين الساسة والعلماء ومتخصصي الأخلاقيات وأن تتأسس القرارات على نتاج هذا الحوار. فدور متخصصي الأخلاقيات يتمثل في ضمان أن تقوم الخطة الحكومية على مبادئ التضامن والتعاون والمسؤولية.
هكذا يتعلم الناس قيمة مهمة تتمثل في اتخاذ القرارات انطلاقا من الحوار ولا تتعامل الحكومات مع الناس تعاملا إملائيا فوقيا ولكن يتعلم الجميع قيمة أن الحوار متعدد الأطراف يؤدي إلى أفضل الحلول وأن الأسس العلمية -البيولوجية والاقتصادية والدينية- لا غنى عنها لأي خطة من شأنها مواجهة أي وباء.
وعندما يكون الوباء عالميا، فإن مبادئ التضامن والتكاتف يجب أن يظهر حتى في علاقات البلاد بعضها مع بعض. هنا يجب على الدول الغنية أن تساعد الدول الفقيرة بالأجهزة والأمصال لتقليل عدد الوفيات وحدة المعاناة. ويجب على العلماء أن تتبادل أي معلومات خاصة بأي علاج أو مصل يتم اكتشافه. يمكن أن يتم هذا بشكل جيد متى اعتمد العلماء على نشر نتائج أبحاثهم في دوريات الإتاحة المفتوحة وأن تكون متاحة للجميع مجانا، ذلك أن النشر في هذه الدوريات يكون أسرع من النشر في المجلات التقليدية التي يضطر معها الباحث لانتظار تحكيم بحثه ثم إجراء التعديلات -إن كان هناك تعديلات- ثم انتظار طباعة عدد المجلة الذي جاءت فيه نتائج بحثه. فإذا كان البحث يتضمن نتائج مهمة لبحث يقترح علاجا للفيروس المتسبب للوباء، فلنا أن نتخيل أهمية انتشار نتائج البحث بالسرعة بين العلماء وشركات الأدوية حتى يتم إنتاج هذا العلاج.
إلا أن حاجة العلماء للوصول لحل سريع (علاج أو مصل) لا يعني التنازل عن المبادئ الأخلاقية المعروفة للبحث العلمي مثل ضرورة أخذ موافقة من المبحوث عند الحاجة للتجريب عليه. كذلك ضرورة مراجعة اللجان الأخلاقية المختلفة لبروتوكول أي بحث مقترح. وأخيرا ألا ينسى العلماء أهمية اتباع الأمانة في نشر النتائج.
لا يقتصر التضامن والتعاون فقط على إظهار أشكال التعاون التي تحدثنا عنها ولكن هناك جزئية مهمة من شأنها أن توصل الأمصال بسرعة أكبر من السرعة المعتادة وذلك إذا ما تنازل مخترع المصل عما يعرف بالملكية الفكرية. حدث أثناء وباء كورونا 2020 أن تقدمت كل من الهند وجنوب أفريقيا بطلب إلى منظمة التجارة العالمية لتعليق وقتي لحقوق الملكية الفكرية في اختراع الأمصال تخفيضا لثمنه وتسريعا لتوزيعه، ذلك أنه إذا تنازل صاحب الاختراع عن الملكية الفكرية للمصل وأعطى الدول المختلفة القادرة على تصنيعه حق التصنيع، فإن تصنيعه من قبل أكثر من دولة من شأنه أن يجعل إنتاج المصل كبيرا نتيجة تصنيعه من قبل أكثر من شركة ويصل للبلاد المختلفة بشكل أسرع. تحمست لهذا القرار أكثر من مائة دولة نامية بينما رفضته الدول الكبرى. ولكن بعد مفاوضات عدة توصل الأعضاء في يونيو 2022 في المنظمة إلى قرار مفاده تعليق وقتي لحقوق الملكية الفكرية الخاصة فقط بأمصال كوفيد 19 لمدة خمس سنوات وذلك فقط للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
وبالتالي فإنه لمنع استغلال أو استئثار القطاع الخاص مستقبلا بالإنفاق على البحث العلمي الخاص بالأمصال، أوصت اللجنة أن تتولى الحكومات هذا الإنفاق ضمانا لسرعة توصيل المنتجات لمستحقيها.
من هنا كانت التوصية الموجهة للمنظمات الدولية مثل اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية هي أن تعمل على نشر قيمة أن منتجات العلم الخاصة بعلاج الوباء مثل الأمصال وأشكال العلاجات الأخرى ليست سلعة للبيع وللتربح ولكنها للصالح العام. كما أوصت المنظمات الدولية بضرورة وضع استراتيجية دولية لإنتاج وتوزيع الأمصال يحكمها مبدأ الإنصاف.
أمر آخر: من طبيعة العلم ما يعرف بعدم اليقين، أي أن العلماء قد يختلفون بشأن مسألة علمية ولا يمكنهم الحديث عنها بشكل يقيني نتيجة أن المعطيات المتاحة حتى ذلك الوقت لا تكفي سوى للخروج بالنتائج المزعومة. هنا يجب على العلماء متى اختلفوا وقت الأزمات بشأن علاج أو تقنية علاجية معينة اللجوء إلى الهيئات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية التي تكون بمثابة الحكم وتحدد البروتوكول العلاجي الواجب اتباعه.
وقت الأزمات تكثر الشائعات وتكون الناس أسرع في إمكانية تصديق ما يسمعون أو يقرأون. لتقليل انتشار الشائعات، على الحكومات أن تحرص على إيصال القرارات والخطط التي تتخذها لمجابهة الوباء بسرعة للمواطنين. هذا الإيصال من شأنه إغلاق الباب أمام الإشاعات التي تجد سبيلها في مثل هذه الظروف وتحدث بلبلة وذعرا بين صفوف المواطنين. يمكن للدولة هنا أن تستعين بمؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بهذه المهمة.
إلا أن هناك أخبارا يتم نشرها للأسف نتيجة خطأ في فهم الإعلامي للمعلومات وليس نتيجة لقصد نشر أخبار مضللة. لتجنب مثل هذه الأخطاء، يجب إمداد مجتمع الإعلام من صحفيين وكتاب ومقدمي برامج تلفزيونية بثقافة علمية كافية بصفة عامة وخاصة بالوباء بصفة خاصة وذلك منعا لكتابة ونشر معلومات خاطئة نتيجة فهم خاطئ، وحتى لا يمدهم أحد بأي معلومات خطأ. فخلفيتهم العلمية الكافية والخاصة بالوباء من شأنها أن تقف حائط صد ضد أي معلومات خاطئة أو مضللة.
العامة أيضا يجب إمدادهم بمعلومات صحية عن الوباء وكيفية التعامل معه صحيا وأخلاقيا، وذلك من خلال ورش عمل يقدمها علماء بأسلوب مبسط يفهمه الجميع بعيدا عن تعقيدات المصطلحات العلمية وذلك من خلال المجتمعات المحلية مثل قصور الثقافة ومراكز الشباب والمساجد توضح كل المسائل المتعلقة بالوباء وطرق التعامل معه. كما يجب التركيز على أهمية تطبيق مبادئ التضامن وعدم الإضرار والشفافية وتشاطر المنافع. فالوباء مثله مثل أي أزمة لا يحلها بشكل جيد سوى التضامن والتكاتف والفهم. ولنا في حرب 73 كما قلنا أمثلة للكثير من صور التكاتف والتضامن التي أظهرها الشعب العربي تضامنا وتكاتفا.
د. بهاء درويش أستاذ الفلسفة بجامعة المنيا بمصر، ونائب رئيس اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا، اليونسكو، بباريس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یجب أن
إقرأ أيضاً: